أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وشرعة حقوق الإنسان

محطات للتامل


الكلام عن حقوق الإنسان في نهج البلاغة يكتسب أهميته من كونه يطرح استطراداً موضوع موقف النظام الإسلامي من هذه الحقوق. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن حديثنا يتصل بما هو مطروح في مجال الإعلام العالمي من تناقض ذلك الموقف من معطيات النظام الديموقراطي. وبعبارة أوضح فإن الإسلام متّهم في هذه الأيام مع قبل جهات كثيرة من الرأي العام الغربي بأنه يحمل نظاماً استبدادياً يخطط للقضاء على النظام الديموقراطي! وهنا يطرح السؤال: إذا كانت حقوق الإنسان كما فصّلتها الشرعة المنسوبة إليها هي الوجه البارز للديموقراطية وللنظم السياسية المنتمية إليها، فما موقف نهج البلاغة أو الإمام علي (ع) ومن ثم النظام السياسي الإسلامي إن صح التعبير من كل ما ذكرنا؟

 جميع دساتير الدول الديموقراطية الحديثة تنص على المساواة بين المواطنين من دون تمييز بينهم، من حيث اللون أو الدين أو الطبقة أو العرق في ظل باب مهم يدور حول حقوق الإنسان. وأبرز هذه الحقوق ــ كما تشير تلك الدساتير ــ هي حق الحياة وحق الملكية الفردية والحق بالحرية الشخصية، وهي تشمل حرية الرأي والقول والكتابة والاجتماع وتكوين الجمعيات، والحق بالمحاكمة العادلة، والوقاية من أي قيد على الحرية الشخصية، وعدم الحبس الظالم عن طريق الإعتداء على الحريات، وأن لا جريمة ولا عقاب إلا بناء على نص القانون.

جميع هذه الحقوق لم تقر ولم يعترف بها إلا في عصور متأخرة من التاريخ الإنساني وبعد فترات من الظلم والقهر، عقب ثورات من الشعوب رافقها إراقة دماء لا حصر لها. فالدستور الأميركي صدر عام 1787م، وأقدم وثيقة لحقوق الإنسان في أوروبا صدرت عام 1215م. وكانت في الأساس لحماية حقوق الأشراف واللوردات في إنكلترا في مواجهة الملك، ولم يشمل هذا العهد الذي فخر به الإنكليز حقوق عامة الشعب، أي فلاحي الإقطاع. فلم ينل المواطن العادي هذه الحقوق إلا بعد خمسة قرون على الأقل من ذلك التاريخ.

من هنا، ومن هذه المنطلقات كلها، سوف نحرص على توضيح موقف الإمام علي بن أبي طالب (ع) في هذا المجال من خلال ما سجل في نهج البلاغة من قول وعمل.

حق الحياة:
هذا الحق يعني في مفهومنا الحديث أن يصبح الإنسان آمناً على حياته من أي تهديد ويقابله، في القرآن الكريم قوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) أما عند علي بن أبي طالب (ع) فيأخذ تفسير الآية بعده الصحيح في ظل تطبيق ينآى به عن تأثير المطامع والعصبيات، لأن القاتل يتحمل وزراً كبيراً، فتطاله العدالة مهما بلغ به النسب والنفوذ من دون أي تمييز. ولنا في موقفه من مقتل الهرمزان مثال ساطع لأن القاتل هو عبدالله بن عمر بن الخطاب، والقتل تم انتقاماً لوالده الخليفة عمر بن الخطاب نفسه بعد أن قتله أبو لؤلؤة، مولى المغيرة بن شعبة. ولكن الهرمزان لا تربطه بالقاتل غير رابطة الدين وهو بريء من دم الخليفة، وللقضاء وحده حق الفصل في هذه الجريمة. وهكذا فإن الإمام علي(ع) أصرّ على تحميل عبدالله بن عمر المسؤولية قائلاً: لأقتلنه بالهرمزان، وعندما التقاه في صفين قال له: "أنت تطالب بدم عثمان والله يطالبك بدم الهرمزان لقد كان يوصي ولاته بحماية (حق الحياة) بقوله : "إياك وسفك الدماء بغير حقها... ولا عذر لك عندالله وعندي بقتل العمد لم يكن ليبدأ حروبه بقتل، وكان يوصي جنوده بقوله "لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، ولا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح

ولكن أبرز ما يوضح حرصه على حماية هذا الحق تجلّى في موقفه من قاتله عبد الرحمن ابن ملجم. لقد كان فيه من المصداقية ما ربما عجزت عن تفصيله جميع متون أو شروح القانون، فقد أوصى أن لا يقتل ابن ملجم قبل ثبوت جريمة القتل بوفاة الإمام وقال: "إن أبقى حياً فأنا ولي دمي

وفي هذا السياق، وحرصاً منه على حماية حق الحياة وعدم المس به من دون وجه حق، حمل وصيته إلى ولديه الحسن والحسين (ع) فقال: "يا بني عبد المطلب لألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون: قتل أمير المؤمنيين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ... أنظروا إذا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل .. فإنني سمعت رسول الله (ص) يقول (إياكم بالمثلة ولو بالكلب العقور) لقد خاف أن يُعتدى على حياة رجل آخر غير القاتل بعد وفاته، كما حصل بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، كما خاف أن يمثل بالقاتل خلافاً لنص حديث الرسول (ص).

ولكن في كلامه أيضاً إشارة إلى ضرورة التحقق من سبب الوفاة قبل إنزال العقوبة حيث يقول: "إذا مت من ضربته"، لأن الوفاة قد تحصل بسبب عامل آخر كموت الفجأة، وعندئذٍ يتغير نوع العقوبة! ألا يذكرنا ذلك بكل ما يعتمده القضاء في ظل الأنظمة الديموقراطية الحديثة في أيامنا هذه من أجل تقرير العقاب العادل!

الحق بالحرية الشخصية:
أما مفهومه لحق الإنسان بالحرية الشخصية، فإنه يظهر ـ في الرؤية التي يقدمها نهج البلاغة ـ على درجة كبيرة من الأهمية في عدد من المواقف التي يعبّر عنها كلامه بصراحة ووضوح، وأبرزها تتجلى في مواقفه من معارضيه من الخوارج، ومن محاربيه في موقعة الجمل، كما في معركة صفين. قيل له عن قوم من جند الكوفة هَمّوا باللحاق بالخوارج، فرفض التعرض لهم لمنعهم من ترك جيشه والالتحاق بأعدائه. وتحداه إبن الكواء في المسجد أثناء الصلاة بما يشير إلى تكفيره، فلم يتعرض له بأذى، وقيل لهU عن ذلك الخارجي الذي كان يخطط لقتله ويسبه فقال:  "إنما هو سب بسب أو عفو غن ذنب"، على  الرغم من شدة كلام الفاعل الذي قال: "قاتله الله كافراً ما أفقهه". وهكذا يتأكد من مجريات الأمور في عهد الإمام علي (ع)، ومن كلامه أنه كان يرى لمعارضيه حقوقاً لا تسمح له أحكام الشرع بتجاوزها، وضمن هذا المنطق، كان موقفه من جيش معاوية الذي منع جيشه من ورود الماء بالقوة حيث سمح لهم لاحقاً بوروده

وفي سياق مبدأ الحق بالحرية الشخصية الذي حمى الإمام صحة تطبيقه حتى الرمق الأخير، تندرج وقائع كثيرة نجمت عن قوله وعمله. لقد قيل له إن رجالاً من جيشه يتسللون من المدينة إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم وقد كان باستطاعته منعهم. كان يرفض مبدأ التجسس على الناس لما فيه من حد لحريتهم الشخصية، ومن أجل التوضيح نذكر ما كتبه لواليه على مصر، فكتب: "إن في الناس عيوباً الوالي أحق مَنْ سَتَرها"

ونرى ما يشابه هذا التصرف  في قوانين الجزاء الحديثة، التي تمنع استعمال التجسس في وسائل الإثبات أمام المحاكم حماية لمبدأ الحرية الشخصية أو حقها! ومن هذا المنطلق جاء في كلام الإمام إلى أحد ولاته: "ولا تعجلن إلى تصديق ساعِ فإن الساعي غاش ولو تشبَّهَ بالناصحين ويشمل هذا الحق بالحرية الشخصية حرية الرأي والإجتماع. وقد قدمنا في مجال حرية الرأي والإجتماع، لجهة حوار الإمام مع معارضيه، ما يكفي لإثبات تمسكه بهذه الحرية إلى درجة مناقشة خصومه من الخوارج في مسألة تكفيره من قبلهم! وكذلك كان الأمر في ما ذكرنا أو ما سوف نذكره من حواره مع سائر خصومه السياسيين. كما أنه لا ينكر أحد كونه سمح للخوارج بتكوين (جمعية) إن صح التعبير، أو أنه أتاح لهم حرية الاجتماع كما سوف نرى في هذا البحث.

حق الملكية الفردية:

أما حق الملكية الفردية فكان فيه لرؤية الإمام (ع) ما يمنح له الحماية والالتزام، ولكن لهذا الحق حدوداً أو قيوداً تظهر بوضوح كلما تعرضت حقوق الناس الاقتصادية للخطر، أو تعرّض المجتمع لمواجهة تناقضات الفقر والغنى أو التخمة والجوع، فينعكس ذلك على حق الملكية الفردية إلى درجة تقزيمه، كما يبدو من قوله (ع): "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتِّعَ به غني، والله تعالى سائِلُهم عن ذلك فإذا أضفنا إلى هذا الكلام قولاً شهيراً لأبي ذر الغفاري، جاء فيه: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، أمكن لنا تصوّر الموقف الإسلامي من حق الملكية الفردية. وهكذا، فإنه يقول عن وضع مغاير كان يسود المجتمع الذي عاصره الإمام، يقول مستنكراً: "اضرب بطرفك، فهل ترى إلا فقيراً أو غنياً بدل نعمة الله كفراً كما كان يقول: "أترجو أن يعطيك الله وأنت متمرغ في النعيم تمنعه اليتيم والأرملة.."

وهنا تجدر الإشارة إلى أن حماية حق الملكية الفردية كغيره من الحقوق تشمل جميع فئات المجتمع، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم. وفي هذا يقول الإمام علي (ع): "ولا تمسن مال أحد من الناس مصلٍ ولا معاهد"

إن حماية هذا الحق واجب يُفْرَض على الجميع. وللتوضيح نورد كلاماً قاله الإمام علي (ع) عندما بلغه نبأ غزو جيش معاوية للأنبار، واعتداءات هذا الجيش على ممتلكات الناس من مسلمين ومعاهدين، حيث قال: "ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام". ثم يستغرب عدم قيام الناس بواجب التصدّي لهذا الاعتداء، متابعاً القول: "ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم"

التعددية السياسية أو حق المعارضة السياسية:

إن موقف الإمام من مبدأ التعددية السياسية يبدو، من خلال "نهج البلاغة"، متناقضاً مع جميع مظاهر الحكم في عصر الخليفة عثمان بن عفان، لأنه يتخذ شكلاً يتجاوز ذلك العصر من الوجهة الفكرية والعلمية، في اعتباره حقاً طبيعياً لجميع أفراد الرعية، عندما يقول: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طَلَب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه".

من منطلق هذا الكلام، يمكن إلقاء الأضواء على موقف الإمام من المعارضة السياسية كواقع كان يواجهه، وموقفه من حقوق المعارضين إذ كان يعتبر أنهم يتمتعون بحقوق المواطن (أحد أفراد الرعبة) كاملة من دون تمييز. لقد كان يعتبر خصومه من الخوارج الذين كفروه (طلاب حق ضلوا)، ولكن نظرته هذه تبقى هي نفسها بالنسبة لسائر معارضي حكمه من الذين يعتقدون، عن حسن نيّة، أنهم مع الحق يحاربون من أجله ويعارضون. فقد سأله أحد أصحابه في هذا السياق: ما يكون أمر الذين يُقتلون في صفوف أعدائه منهم إن كانت حرب؟ فأجاب قائلاً: "من قاتل وهو صادق النية في نصر الحق، مبتغياً وجه الله ورضاه، فمصيره مصير الشهداء".

هذه الموضوعية المطلقة في التعامل، جعلت من المعارضة السياسية مؤسسة قائمة بالفعل في عصر الإمام علي (ع). ومن هذا الاتجاه وهذا السياق قال (ع)، مشيراً إلى مكفريه من الخوارج: "لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا". وفي هذا يقول أبو عبيد بن سلام: "أفلا ترى أن علياً رأى للخوارج في الفيء ما لم يُظهروا الخروج على الناس، وهو مع ذلك يعلم أنهم يسبونه ويبلغون منه أكثر من السب، إلا أنهم كانوا مع المسلمين في أمورهم وحاضرهم، حتى صاروا إلى الخروج فيما بعد".

لقد استنفد مع جميع خصومه جميع طرق الحوار المتكافئ، لأنه اعترف لهم بجميع حقوقهم خلاله، فلم يعتدِ على أي منها، وكان قادراً لم يمنع معاوية وجيشه عن الماء، ولم يتعرض لخصومه من جرحى قادة موقعة الجمل حيث كانوا يتداوون، حاور الجميع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولم يبدأ أحداً بقتال!

لقد ظهر اعترافه الصريح بحقوق معارضيه منذ بداية حكمه عندما نهى عن "بِيع المضطرين) تقيداً بالسنة الشريفة. طبق الإمام كل هذه المبادئ بمصداقية بعيدة عن أي حقد أو إكراه، فأموال معارضيه كانت تتمتع بحماية السلطة مثل أموال الموالين، هذا ما حصل في موقعة الجمل وصفين وفي النهروان، فكان المنتصرون من أصحابه يمرون على الذهب والفضة، دون أن يكون لهم سبيل للحصول على شيء منه.

وهنا تجدر الإشارة إلى مسألة التعددية الدينية التي حماها الإسلام، لأن لها وجهاً سياسياً في ظل نظام كان يستمد شرائعه من أحكام الدين! ومن هذا المنطلق، تساوت حقوق غير المسلمين. من هنا يبدو كلام الإمام (ع) شديد التعبير عندما يقول: "دم المسلم كدم الذمي حرام"، أو عندما يوصي أحد وُلاته بقوله: "ولا تَمُسَّن مال أحد من الناس مسلمٍ أو معاهدٍ"، إلى ما هنالك مما لا يتسع المقام لذكره.

مبدأ المساواة:
أما الحق بالمساواة أمام القانون وأمام المال العام، فنكتفي منه بذكر بعض كلامه لأحد ولاته: "الزم الحق من لزمه من القريب والبعيد. واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع.. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أُسْوَة". كما نذكر كلامه لصاحبه سهيل بن حنيف عندما اعترض هذا الأخير على مساواته بغلامه قائلاً: "هذا غلامي بالأمس وقد اعتقته اليوم"، فقال الإمام: "ونعطيك كما نعطيه".

وهنا لا بد من الإشارة إلى قوله (ع): "إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً" لقد رفض التمييز في كل أشكاله ـ استناداً إلى سُنّة الرسول (ص) ـ وعندما عوتب في المساواة بين أشراف العرب والصحابة والسابقين إلى الإسلام والموالي والمعاهدين وغيرهم، أجاب: "أما القسم والأسوة فذلك أمر لم أحكم به بادئ ذي بدء، وقديماً سبق في الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله في القسم، ولا آثرهم في السبق...

لقد رفض الإمام علي (ع) التمييز بجميع أشكاله في العطاء، مهما بلغت أخطاء من شملتهم المساواة، حتى لو كانت بين زانٍ غير محصن من جهة ومؤمن من جهة أخرى. وقد أيد كل ذلك بقوله: "إن الرسول (ص) قطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء، فأخذهم رسول الله بذنوبهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله...

إن شمولية مبدأ المساواة كما تبدو من خلال رؤية الإمام، تطال جميع فئات و المجتمع وطبقاته، فالخليفة يتساوى فيها مع أي مواطن آخر في حقه تجاه بيت مال المسلمين كما في سائر الحقوق. ومن هذا المنطلق يخسر الإمام دعواه أمام من سرق درعه، لأنه لم يتمكن من تقديم البيّنة وهي على المدعي. والخليفة كغيره من سائر الناس ملزم بتقديم البيّنة.

وغير المسلم يتساوى مع المسلم في الحقوق، لا سيّما حق الحياة. وفي ذلك يقول الإمام: "دماؤهم كدمائنا"، و"دم المسلم كدم الذمي حرام" وتتساوى جميع الفئات أمام القانون (الشرع)، ومن ثم أمام المال العام حيث يوزَّع هذا المال بالتساوي بين الموالين والمعارضين والأشراف والموالي والمعاهدين، وهذا ما تم بعد البيعة مباشرة وبعد موقعة الجمل. وقد رفض الإمام في ذلك أية مساومة لصالح المعارضين، عندما قال: "لو كان المال لي لسوّيت بينهم، وإنما المال مال الله إنه يعرف أن هذا الأمر يرتيط بأحكام الشرع وهو من هذه الناحية حق لا يلغيه التقادم وكل ما يوّزع من بيت المال خلافاً لأحكامه باطل ويجب أن يستعاد. وفي هذا السياق جاء قول الإمام : "والله لو وجدته وقد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق"

وجاء على لسان إبن عباس أن علي بن أبي طالب (ع) خطب في اليوم التالي على أتباعه في المدينة، فقال "ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء..."

هذا الحق يتمثل في أن اعتماد مبدأ العدالة والمساواة كان خلال كل فترة حكمه يؤلف أساس هذا الحكم، فإذا ما تعارض مع أي أمر آخر كان تمسك الإمام به شديد الوضوح مهما كانت العقبات!

وهل كان يعنيه من أمر الحكم إلا أن يقيم حقاً ويوقع باطلاً؟

قال إبن عباس: "دخلت على أمير المؤمنين (ع) وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة له، فقال والله لهو أحب إلي من أمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".

حق الحماية من العقاب:

كان من أبرز ما قدمته نظرية حقوق الإنسان في العصور الحديثة مسألة حق الحماية من العقاب، فجاءت مقولة: أَنْ لا عقوبة من دون نص، وعدم الحكم إلا بعد سماع أقوال الطرفين، وبراءة المتهم حتى إدانته. وفي هذا المجال، يأتي كلام الإمام علي (ع) شديد التعبير، في قوله لأحد ولاته: "ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تحكمه الخصوم.. ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الأمور"

ومن هذا الاتجاه، امتنع عن تسليم معاوية مَنْ طلب مِنْ قتلة عثمان، فأنبأه أنه لا يعرف لعثمان قاتلاً بعينه بعد أن بحث واستقصى، وأنه لا يستطيع أن يسلم إليه من اتهمهم إلا لأنه اتهمهم وظن بهم الظنون، "لأن أمور الحد لا تستقيم إلا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينة" وقد جاء في كتاب له إلى معاوية: "أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا الأمر فلم أرَ أنه يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك.."

لقد حقق الإمام علي (ع) في مقتل عثمان، ولكنه لم يتمكن من إكمال التحقيق بسبب الحرب، كما لم يتبين له صحة كون صاحبه محمد بن أبي بكر هو القاتل، وهو متهم من قبل معاوية. ثبت ذلك من خلال شهادة نائلة زوجة عثمان. ومن هذا المنطلق كان يمتنع عن إنزال العقاب بالخوارج قبل أن يقوموا بما يسمى اليوم "بدء تنفيذ الجريمة"، تطبيقاً لمبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته. وفي هذا السياق جاء جوابه لمن أخبره عن شخص يتآمر على قتله، بقوله: "لا أقتل من لم يقتلني" شديد التعبير في هذا المجال. لأن البيّنة هي الأساس في أحكام القضاء في نظره وقبل ظهورها يمتنع إنزال العقاب. وعندما خرجت الخوارج من المسجد، قيل له: "إنهم خارجون عليك، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون"

أليس في الحماية من العقاب ما يؤكد تطبيق الإمام لمبدأ "براءة المتهم حتى تثبت إدانته" وإقامة الدليل؟! والدليل في هذه الحال هو (بدء التنفيذ) لجريمة الثورة المسلحة.

حماية حقوق الإنسان:

المفكرون الذين واكبوا الثورة الفرنسية الكبرى، كانوا يرون في سلطات الدولة خطراً يهدد حقوق الإنسان، ويتأتى من خلال طغيان رجال الحكم. لذلك فإن الصياغة التي تناولت حقوق الإنسان التقليدية في القرون المنصرمة في أوروبا، إنما كانت تتجه نحو الحدّ من سلطة الدولة، فليس للدولة ـ من دون مبرر ـ أن تفرض الضرائب، أو تعتقل إنساناً، أو تنزع ملكيته، أو أن تحكم عليه بالإعدام

وهنا يطرح السؤال: هل يمكن أن نستقرئ موقفاً لعلي بن أبي طالب (ع)، من كل هذه الأمور عبر قوله وعمله، كما يظهران من خلال نهج البلاغة؟

لقد كان (ع) يعتبر أن أعمال السلطة التي يمثلها الخليفة تخضع لسيادة القانون بصورة مطلقة، وأنه لا يحق لهذه السلطة أن تتجاوز القانون (أحكام الشرع) قيد أنملة، فكيف نستطيع أن نفسر موقفه من أخيه عقيل التي حين لم يستطع أن يعطيه من بيت المال ما يسدّ حاجته وحاجات أولاده، أو موقفه من النصائح التي قدمت إليه من أجل تثبيت حكمه، وفيها ما يخالف أحكام الشرع؟

أما لجهة الضرائب فلم يكن يرى أن بإمكانه أن يزيدها، أو يغيّر في مضامينها التي حددتها نصوص الشرع وأحكامه. ومن هنا كانت وصيته لعماله على الخراج شديدة الوضوح في هذا السياق، حيث جاء  فيها: "ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا تضربن أحداً سوطاً في مكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصلٍ ولا معاهد". وعندما يجيبه عامله قائلاً: "إذن أعود إليك كما ذهبت"! يقول (ع): "وإنْ رجعتَ ويحك! إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو"

ويبقى السؤال الذي يدور حول القيم الفكرية والحقوقية التي ظهرت في عصر النهضة في أوروبا، ومن أبرزها (أنه ليس للدولة أن تعتقل إنساناً من دون الاستناد إلى نص قانوني). وهنا يبدو موقف الإمام أشد وضوحاً، لأنه لم يقبل أن يُعتقل إنسانٌ من دون وجه حق وبيّنة تقوم عليه، ومحاكمة عادلة يواجهها.

ومن هذا المنطلق لم يتمكن أو لم يرضَ أن يعتقل الشخص الذي قيل له أنه يخطط لقتله لأن البيّنة لم تظهر، وبدء تنفيذ الجريمة لم يتحقق، فكان جوابه لمن أخبره: "لا أقتل من لم يقتلني)"، ولكنه لم يقدم حتى على اعتقال المتهم.

الأمثلة على ما يشابه هذه المواقف كثيرة، سواء في مواجهته للخوارج أو لغيرهم من خصومه ومحاربيه وناكثي بيعته كما سبق القول. أما مسألة عدم تمكن الدولة من انتزاع ملكية أحد للأموال وغيرها، فله فيها أمثلة متعددة، وإنْ كان أبرزها منع أصحابه من الاعتداء على ممتلكات محاربيه بعد انتصارهم عليهم في موقعة الجمل، فقد أمر بجمع كل ما تركوه في ساحة القتال ونقله إلى المسجد ليستعيد  كل منهم أمواله. وهكذا كان]

كما أن مسألة الحكم بالإعدام على أحد من الناس من دون وجه حق كانت أشد ما استدعى اهتمامه، ومن أجل هذا، فإنه لم يستطع، بل لم يقبل الحكم على قاتله بالإعدام قبل توفر البيّنة على جريمة القتل بوفاة الإمام. أليس الإمام (ع) هو القائل لأحد ولاته على الأمصار محذراً: "فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام.. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العَمَدَ لأن فيه قَوَدُ البدن". إذا كان هنا يحرّم سفك الدماء خلافاً لأحكام الشرع، فإن في الإشارة إلى (قَوَدِ البدن) أي القصاص البدني ما يؤدي إلى تحريم الاعتقال، وهو أحد وجوه هذا القصاص.

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم