فكـــــــــــر ... الرأي بين الوراثة والاختيار

 

ينشأ التعصب عن حالة الانغلاق والانكفاء على الذات, ومن هنا فالتعصّب هو حالة نفسية مشحونة بالانفعالات المتحاملة على الآخر، ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة كافية بل في كثير من الأحيان يستند الى "معلومات" بعيدة عن الواقع يتم التعامل معها على إنها حقائق. والمتعصب يرى الأشياء من منظاره الخاص (المختنق) فقط، ولذا فإن من أعراض التعصب أنه يعوّق القدرة على إدراك الواقع. والمتعصب شخص سريع التأثر والانفعال والتوتر، وقابل للانفجار والاهتياج كلما تعرض معتقده أو انتماؤه (الطائفي) أو ما يتعصب له للنقد أو الخطر. عموماً فإن أتباع كل مذهب ينظرون إلى المذاهب الأخرى برؤية ضبابية تحجب كامل الصورة الحقيقية للمذاهب الأخرى، ولو حاولت طائفة أن تستكشف طائفة أخرى فلا يكون غالباً استكشافها واقعياً لأنه ينطلق من اللاموضوعية، ومن هنا ينشأ التعصب بين أبناء المذاهب بسبب قصور الاطلاع وضيق المعرفة، وهذا ما يؤدي إلى السقوط في ظلمات الجاهلية الطائفية والمذهبية والدينية والقومية والسياسية وغيرها من أصناف الجاهليات التي تسوق المجتمعات – بل أبناء المجتمع الواحد أحياناً – إلى التناحر والتخاصم وعدم التواصل البناء لخدمة المجتمع والوطن.
قراءة المنهج
لخطورة تسرب التعصب الى نفس الإنسان (الفرد – المجتمع) فقد أنار رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (سلام الله عليهم) الطريق في هذا الأمر الشائك فقال (صلى الله عليه وآله): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبيةٍ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية". ويقول الإمام زين العابدين (سلام الله عليه): "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم". وفي موقع آخر يقول الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه): "إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف". إن المعتقدات التي يرثها الإنسان عن آبائه وأجداده دون إرادة أو معرفة تبقى معتقدات واهمة، حيث إن طريق الإيمان لا يكون إلا إذا كان نتاج معتقد يفقهه الإنسان بعقله لا باستيراثه، فـ"قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له" وبـ"الفكر تتجلى غياهب الأمور". لذا ينبغي على الإنسان استكشاف الأفكار والآراء عبر البحث المقارن ثم إعمال العقل لغرض اختيار الأحسن، فـ"ليس طالب الدين من خبط أو خلط". يقول (عزوجل): "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه". لذا فنحن نكِّذب ما نسبوه الى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) "إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم". يقول ابن حزم الأندلسي: "من المحال أن يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باتباع كل قائل من الصحابة، وفيهم من يحل الشيء وغيره منهم يحرمه". فإن هناك كما يقول أمير المؤمنين (سلام الله عليه) من "لم يأخذ من الدين إلا ما قاربه من الدنيا، وعلى عمد لبَّس على نفسه ليجعل الشبهات عاذراً لسقطاته". يقول (عزوجل): "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين". ويقول (عزوجل): "قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
حق الاختلاف
للإنسان حرية أن يختار ما يشاء من فكر أو معتقد، وليس لأحد محاسبته على اختياره إلا في إطار الحوار على أساس المنطق والبرهان دون أن يكون للآخر حق الإكراه. قال الله (عزوجل): "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون". فالآخر الديني أو المذهبي أو القومي أو العرقي أو السياسي الذي عبر عنه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) بعبارة "النظير في الخلق". إن كان نظيراً في إطار (الجماعة الإنسانية) فإن له حق الحرية والكرامة، وإن كان نظيراً في إطار الجماعة (الوطنية) فله كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات، وأي تمييز ينذر بكوارث اجتماعية وسياسية وثقافية. فالغيرية في المعتقد الديني أو الفكر السياسي أو الانتماء القومي، لا تلغي حقوق المواطنة، بل الكل مشتركون في المواطنة ومتساوون في حقوق المواطنة.
معنى الآخر
إن الآخر في الرؤية الإسلامية، ليس مشروعاً للذبح والقتل والتدمير والإبادة، بل هو موضوع للتواصل والحوار وحصحصة الحق وسبيل للمحبة والتعاون وتنمية القواسم المشتركة. وقد أكدت الآيات القرآنية على مفاهيم الألفة والتعايش، إذ يقول الله (عزوجل): "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وقد وسع الله (عزوجل) دائرة التنوع هذه ودائرة الآخر هذا حتى شملت مخلوقات أخرى غير الإنسان، فقال (عزوجل): "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم". إن في الوجود الإنساني, آخر ديني ومذهبي وقومي وسياسي وعرقي وجغرافي واجتماعي وثقافي، حيث تتعدد وتتنوع دوائر الآخر ومستوياته بتعدد وتنوع دوائر الذات ومستوياتها، بحيث يصح القول: حدد ذاتك، يتحدد آخرك. فلا يمكن تحديد الآخر إلا بتحديد الذات، ولا تجلٍّ للذات إلا بوجود آخر مختلف ومغاير، وهذا ينطبق حتى على دائرة المعرفة التوحيدية أي علم التوحيد، فقد ورد في الحديث الشريف: "من عرف نفسه عرف ربه".

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم