عقيلة الهاشميين مفخرة النساء ونبراس البطولة والإباء

 

تاريخ ميلاد السيّدة زينب

صوارخ تتبعها نوائح

عناصرها النفسية

ولادة السيّدة زينب

تهدمت والله أركان الهدﯼ

الإيمان الوثيق

إسمها وكنيتها

لمثل هذا فليعمل العاملون

الصبر

ومعنى الكريمة

السيّدة زينب مع أخيها الإمام الحسن المجتبى

وقال السيّد حسن البغدادي:

السيّدة زينب في عهد جدّها الرسول

العلاقات الودّية بين السيّدة زينب وأخيها الإمام الحسين

العزّة والكرامة

السيّدة زينب في عهد أُمّها البتول

المحبّة الخالصة، والعلاقات القلبية

الشجاعة

السيّدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين

نشأتها

الزهد في الدنيا 

أمير المؤمنين يقص رؤيا عروجه

قدراتها العلمية

عزيزي القارئ انتخبنا لك باقات عطرة من حياة سيدتنا ومولاتنا الحوراء زينب بنت علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليهما ونحن في ذكر‌‌ﯼ ولادتها المباركة راجين من الله العلي القدير القبول والتوفيق بحق محمد وآله الطاهرين.

تاريخ ميلاد السيّدة زينب

في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكلّ فرح وسرور، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من أطفالهم، وهي البنت الأُولى للإمام أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام.

ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأُولى ولدت السيّدة زينب، وفتحت عينها في وجه الحياة، في دار يُشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى: محمّد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، وفاطمة سيّدة نساء العالمين، صلّى الله عليهم أجمعين.
هذا هو القول المشهور بين الشيعة ـ حالياً ـ وهناك أقوال تاريخية أُخرى في تحديد يوم وعام ميلادها المبارك.
ويجدر ـ هنا ـ أن نشير إلى جريمة تاريخية ارتكبها عملاء الأمويين وأُعجب بها المنحرفون الذين وجدوا هذه الجريمة ـ أو الأُكذوبة التاريخية ـ تلائم شذوذهم الفكري، وانحرافهم العقائدي.

فقد ذكرت الكاتبة المصرية بنت الشاطئ في كتابها «بطلة كربلاء» ما نصّه:
«إنّها الزهراء بنت النبي، توشك أن تضع في بيت النبوّة مولوداً جديداً، بعد أن أقرّت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين: الحسن والحسين، وثالث لم يقدّر الله له أن يعيش، هو المحسن بن علي ...».
من الثابت أنّ المحسن بن الإمام علي هو الطفل الخامس لا الثالث، وهو الذي قتل وهو جنين في بطن أُمّه بعد أن عصروا السيّدة فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب، وبسبب الضرب المبرّح الذي أصاب جسمها وكان السبب في سقوط الجنين.

ولكنّ هذه الكاتبة المصرية تستعمل المغالطة والتزوير، وتحاول إحقاق الباطل وإبطال الحقّ وتقول: إنّ السيّدة زينب ولدت بعد المحسن بن علي الذي لم يُقدّر له أن يعيش!

فانظر كيف تحاول بنت الشاطئ تغطية الجنايات التي قام بها بعض الناس بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واقتحامهم بيت السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليبايع خليفتهم، ودفاع السيّدة فاطمة عن زوجها، وعدم السماح لهم باقتحام دارها، وما جرى عليها من الضرب والركل والضغط، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سمّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ في حياته ـ محسناً، وهو ـ يومذاك ـ جنين في بطن أُمّه!!
وقد ذكرنا بعض ما يتعلّق بتلك المأساة في كتابنا: (فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد).

ولادة السيّدة زينب

ولمّا وُلدت السيّدة زينب (عليها السلام) أُخبر النبي الكريم بذلك، فأتى منزل إبنته فاطمة، وقال: يابنيّة إيتيني ببنتك المولودة.
فلمّا أحضرتها أخذها النبي وضمّها إلى صدره الشريف، ووضع خدّه على خدّها فبكى بكاءً شديداً عالياً، وسالت دموعه على خدّيه.
فقالت فاطمة: ممّ بكاؤك لا أبكى الله عينك ياأبتاه؟
فقال: يابنتاه يافاطمة، إنّ هذه البنت ستبتلى ببلايا وتَرِدُ عليها مصائب شتّى، ورزايا أدهى.
يابضعتي وقرّة عيني، إنّ من بكى عليها، وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها.
ثمّ سمّاها زينب.

إسمها وكنيتها

إسمها: زينب.
إنّ الأسماء مشتقّة من المصادر، والمصادر ـ طبعاً ـ لها معنىً ومفهوم، فما هو معنى كلمة «زينب»؟
الجواب: هناك قولان في هذا المجال:
الأوّل: إنّ «زينب» كلمة مركّبة من: «زين» و «أب».
الثاني: إنّ «زينب» كلمة بسيطة وليست مركّبة، وهي إسم لشجرة أو وردة.
وعلى كلّ حال .. فلا خلاف في أنّ هذا الإسم جميل وحسن المعنى .. على كلّ تقدير.
كنيتها: «أُمّ كلثوم» و «أُمّ الحسن».
يوجد ـ في كتب التراجم ـ اضطراب شديد حول هذا الإسم وهذه الكنية، فالمشهور أنّ السيدتين: زينب وأُمّ كلثوم بنتان للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من السيّدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام).
وقد جاء التعبير عن السيّدة زينب الكبرى ـ في بعض الأقوال التاريخية وعلى لسان بعض الخطباء والمؤلّفين بـ «العقيلة»، وهذا وصف للسيّدة زينب وليس إسماً، ونحن نجد في كتب اللغة معاني عديدة لكلمة «العقيلة»، فمنها: المرأة الكريمة، النفيسة، المخدّرة.

ومعنى الكريمة:

المحترمة.

السيّدة زينب في عهد جدّها الرسول

إنّ الذكاء المفرط، والنضج المبكّر يمهّدان للطفل أن يرقى إلى أعلى الدرجات ـ إذا استُغلّت مواهبه ـ وخاصّة إذا كانت حياته محاطة بالنزاهة والقداسة، وبكلّ ما يساعد على توجيه الطفل نحو الأخلاق والفضائل.

بعد ثبوت هذه المقدّمة نقول:
ما تقول في طفلة: روحها أطهر من ماء السماء، وقلبها أصفى من المرآة، وتمتاز بنصيب وافر من الوعي والإدراك، تفتح عينها في وجوه أُسرتها الذين هم أشرف خلق الله، وأطهر الكائنات، وتنمو وتكبر وتدرج تحت رعاية والدٍ لا يشبه آباء العالَم، وفي حجر والدةٍ فاقت بنات حوّاء شرفاً وفضلاً وعظمة؟!!
وإذا تحدّثنا عن حياتها على ضوء علم التربية، فهناك يجفّ القلم، ويتوقّف عن الكتابة، لأنّ البحث عن حياتها التربوية يعتبر بحثاً عن الكنز الدفين الذي لا يعرف له كمّ ولا كيف.
ولكنّ الثابت القطعي أنّها تربية نموذجية، وحيدة وفريدة.
وهل يستطيع الباحث أو الكاتب أو المتكلّم أن يدرك الجوّ العائلي المستور في بيت الإمام علي والسيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام؟
لقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قرأ قوله تعالى:

«في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدو والآصال... »فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أي بيوت هذه؟
فقال: بيوت الأنبياء.
فقام إليه أبو بكر فقال: يارسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة.
فقال النبي: «نعم، من أفضلها».
ويجب أن لا ننسى أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ الذي أعطى المناهج التربوية للأجيال، وأضاء طرق التربية الصحيحة للقرون ـ لابدّ وأنّه يبذل اهتماماً بالغاً وعناية تامّة في تربية عائلته، ويمهّد لهم السبيل حتّى ينالوا قمّة الأخلاق والفضائل.
وخاصّة حينما يجد فيهم المؤهّلات والاستعداد لتقبّل تلك التعاليم التربوية.
ومن الواضح أنّ السيّدة زينب ـ بمواهبها واستعدادها النفسي ـ كانت تتقبّل تلك الأُصول التربوية، وتتبلور بها، وتندمج معها.
وأكثر انطباعات الإنسان النفسية يكون من أثر التربية، كما أنّ أعماله وأفعاله، بل وحتّى حركاته وسكناته، وتصرّفاته وأخلاقه وصفاته نابعة من نوعية التربية التي أثّرت في نفسه كلّ الأثر.

إذن، فمن الصحيح أن نقول: إنّ السيّدة زينب تلقّت دروس التربية الراقية العليا في ذلك البيت الطاهر، كالعلم ـ بما في ذلك الفصاحة والبلاغة، والإخبار عن المستقبل ـ ومعرفة الحياة، وقوّة النفس وعزّتها، والشجاعة والعقل الوافر، والحكمة الصحيحة في تدبير الأُمور، واتّخاذ ما يلزم ـ من موقف أو قرار ـ تجاه ما يحدث.
بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله تعالى، وتقواها، وورعها وعفافها، وحيائها، وهكذا إلى بقية فضائلها ومكارمها.
وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يغمر أطفال السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعواطفه، ويشملهم بحنانه، بحيث لم يعهد من جدّ أن يكون مغرماً بأحفاده إلى تلك الدرجة.
وكان (صلّى الله عليه وآله) ـ إذا زارهم في بيتهم أو زاروه في بيته ـ يعطّر خدودهم وشفاههم بقبلاته، ويلصق خدّه بخدودهم.
ويعلم الله تعالى كم من مرّة حظيت السيّدة زينب (عليها السلام) بهذه العواطف الخاصّة؟!
وكم من مرّة وضع الرسول الأقدس (صلّى الله عليه وآله) خدّه الشريف على خدّ حفيدته زينب؟! وكم من مرّة أجلسها في حجره؟!
وكم من مرّة تسلّقت زينب أكتاف جدّها الرسول؟!
ويؤسفنا أنّه لم تصل إلينا تفاصيل أو عيّنات تاريخية تنفعنا في هذا المجال، وحول السنوات الخمس التي عاشتها السيّدة تحت ظلّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.

السيّدة زينب في عهد أُمّها البتول

تستأنس البنت بأُمّها أكثر من استيناسها بأبيها، وتنسجم معها أكثر من غيرها، وتعتبر روابط المحبّة بين الأُمّ والبنت من الأُمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل، فالأُنوثة من أقوى الروابط بين الأُمّ وبنتها.

وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية علم النفس، فإنّ الأُمّ تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ متعطّشة إلى العاطفة، فهي تجد ضالّتها المنشودة عند أُمّها، فلا عجب إذا اندفعت نحو أُمّها، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالباً.
والسيّدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف أُمّها الحانية العطوفة، وقد حلّت في أوسع مكان من قلب أُمّ كانت أكثر أُمّهات العالم حناناً ورأفة وشفقة بأطفالها.
والسيّدة زينب الكبرى تعرف الجوانب الكثيرة من آيات عظمة أُمّها سيّدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرّة عينه وثمرة فؤاده، وروحه التي بين جنبيه، صلّى الله عليه وآله.

فقد فتحت السيّدة زينب الكبرى عينيها في وجه أطهر أُنثى على وجه الأرض، وعاشت معها ليلها ونهارها، وشاهدت من أُمّها أنواع العبادة، والزهد، والمواساة والإيثار، والإنفاق في سبيل الله، وإطعام الطعام مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وشاهدت حياة أُمّها الزوجية، والإحترام المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإطاعتها له، وصبرها على خشونة الحياة وصعوبة المعيشة، ابتغاء رضى الله تعالى.

كما عاصرت السيّدة زينب الحوادث المؤلمة التي عصفت بأُمّها البتول بعد وفاة أبيها الرسول، وما تعرّضت له من الضرب والأذى .
وانقضت عليها ساعات أليمة وهي تشاهد أُمّها العليلة، طريحة الفراش، مكسورة الضلع، دامية الصدر، محمرّة العين.
كما رافقت أُمّها الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حين إلقاء الخطبة، كما ورد ذكره في بعض ما روي عن السيّدة زينب سلام الله عليها.

السيّدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من البصرة إلى الكوفة، واستقرّ به المكان، التحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة.
ومن جملة السيّدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيّدة زينب (عليها السلام) وقد سبقها زوجها عبدالله بن جعفر، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.

والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ بعد إنقضاء مدّة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الإمارة، وهو المكان المعدّ لحاكم البلدة، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة؟
ويتبادر إلى الذهن أنّ دار الإمارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة، وكان كلّ من البنات والأولاد (المتزوّجين) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات، والسيّدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة.

ومكثت السيّدة زينب (عليها السلام) في الكوفة سنوات، وعاصرت الأحداث والإضطرابات الداخلية التي حدثت: من واقعة صفّين إلى النهروان، إلى الغارات التي شنّها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
إنقضت تلك السنوات المريرة، المليئة بالآلام والمآسي، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزّت منها السماوات والأرضون، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

لقد كانت العلاقات الودّية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن، وفي جوّ من الصفاء والوفاء، والعاطفة والمحبّة.
والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرّمون، ولكنّه ـ في شهر رمضان من تلك السنة، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن، وليلة عند ولده الإمام الحسين (عليهما السلام) وليلة عند السيّدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبدالله بن جعفر، كلّ ذلك تقوية لأواصر المحبّة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته.

وفي الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان، كانت النوبة للسيّدة زينب، وأفطر الإمام في حجرتها وقدّمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير، وشيء من الملح، وإناء من لبن.
كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم، وأنهار الذهب والفضّة تجري بين يديه.
واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط.
ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وقام إلى الصلاة، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله تعالى.

أمير المؤمنين يقص رؤيا عروجه

أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيّدة زينب _ تلك الليلة _ ؟
ولعلّه اختار المبيت في بيتها حتّى تُشاهد وترى، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقيّة الليالي، فإنّها تحدّثنا فتقول:
إنّه (عليه السلام) قال لأولاده: (إنّي رأيت _ في هذه الليلة _ رؤيا هالتني، وأُريد أن أقصّها عليكم).
قالوا: وما هي؟
قال: ((إنّي رأيت _ الساعة _ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: ياأبا الحسن إنّك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا _ والله _ مشتاق إليك، وإنّك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلمّ إلينا فما عندنا خير لك وأبقى)).
فلمّا سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء والنحيب، وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت، فسكتوا.
وتقول السيّدة زينب (عليها السلام):
لم يزل أبي _ تلك الليلة _ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة، يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كُذّبت ولا كَذبت، وإنّها الليلة التي وُعدت بها. ثمّ يعود إلى مصلاّه ويقول: اللهمّ بارك لي في الموت. ويكثر من قول: (
إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، و (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم)، ويصلّي على النبي وآله _ صلّى الله عليه وآله _ ويستغفر الله كثيراً.
تقول: فلمّا رأيته _ في تلك الليلة _ قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار، أرقت معه ليلتي وقلت: ياأبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟
قال _ عليه السلام _ : يابنية إنّ أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً، وما دخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخل في هذه الليلة.
ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
فقلت: ياأبتاه ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة؟
قال: يابنية قد قَرُبَ الأجل وانقطع الأمل.
قالت: فبكيت، فقال لي: يابنية لا تبكي فإنّي لم أقل ذلك إلاّ بما عهد إليّ النبي صلّى الله عليه وآله.
تقول (عليها السلام): ثمّ إنّه نعس وطوى ساعة، ثمّ استيقظ من نومه وقال: يابنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني.
ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى.

صوارخ تتبعها نوائح

فجعلت أرقُب وقت الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظته فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة، ثمّ نزل إلى ساحة الدار.

وكانت في الدار إوزّ قد أُهديت إلى أخي الحسين، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقال (عليه السلام): «لا إله إلاّ الله، صوارخ تتبعها نوائح، وفي غداة غدٍ يظهر القضاء».

فقلت: ياأبتاه هكذا تتطيّر؟!
فقال: «يابنية! ما منّا ـ أهل البيت ـ من يتطيّر، ولا يتطيّر به، ولكن قول جرى على لساني».
ثمّ قال ـ عليه السلام ـ : «يابنيّة! بحقّي عليك إلاّ ما أطلقتيه، فقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش، فأطعميه واسقيه وإلاّ خلّي سبيله يأكل من حشائش الأرض».
فلمّا وصل إلى الباب عالجه ليفتحه، فتعلّق الباب بمئزره، فانحل مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:

أُشـدد حـيازيمك للموت

فـإنّ الـمـوت لاقــيـكا

ولا تــجزع مــن الـمـوت

إذا حـــلّ بــنــاديـكـــا

كـمـا أضـحـكـك الـدهـر

كـذاك الدهر يبـكــيكـا

ثمّ قال: «اللهمّ بارك لنا في الموت، اللهمّ بارك لي في لقائك».
تقول السيّدة أُمّ كلثوم:
وكنت أمشي خلفه، فلمّا سمعته يقول ذلك قلت: وا غوثاه ياأبتاه! أراك تنعى نفسك منذ الليلة؟!
فقال ـ عليه السلام ـ : «يابنية! ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت .. يتبع بعضها بعض».
ثمّ فتح الباب وخرج.
فجئت إلى أخي الحسن فقلت: ياأخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس، فالحقه.
فقام الحسن (عليه السلام) وتبعه، فلحق به قبل أن يدخل الجامع، فأمره الإمام بالرجوع، فرجع.
أيّها القارئ الكريم:
هنا ننقل ما ذكره المؤرخون، ثمّ نعود إلى حديث السيّدة زينب عليها السلام:
لقد جاء الإمام علي (عليه السلام) حتّى دخل المسجد، فصعد على المئذنة ووضع سبّابتيه في أُذنيه وتنحنح، ثمّ أذّن فلم يبق في الكوفة بيت إلاّ اخترقه صوته، ثمّ نزل عن المئذنة وهو يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره، ويكثر من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله.
وكان يتفقّد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة، ثمّ يتلو:
(إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

تهدمت والله أركان الهدﯼ

... ثمّ اتّجه نحو المحراب وقام يصلّي، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود، فقام ابن ملجم (لعنه الله) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون، وأقبل مسرعاً حتّى وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلّي عندها، فأمهله حتّى صلّى الركعة الأُولى وسجد السجدة الأُولى ورفع رأسه منها، فتقدّم اللعين ورفع السيف وهزّه ثمّ ضرب الإمام على رأسه الشريف، فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ودّ العامري، يوم الخندق.

فوقع الإمام (عليه السلام) على وجهه قائلاً: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة، هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.

وسال الدم على وجهه الشريف، وشيبته المقدّسة، وعلى صدره وأزياقه، حتّى اختُضبت شيبته وتحقّق ما أخبر عنه الرسول الكريم.
وفي هذه اللحظة الأليمة هتف جبرئيل ـ بين السماء والأرض ـ ذلك الهتاف السماوي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الأنبياء والأوصياء.
لقد هتف جبرئيل بشهادة الإمام علي (عليه السلام) كما هتف ـ يوم أُحد ـ بفتوّته وشهامته يوم قال: «
لا فتى إلاّ علي لا سيف إلاّ ذو الفقار».

فقد اصطفقت أبواب المسجد الجامع، وضجّت الملائكة في السماء، وهبّت ريح عاصفة سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل بصوت سمعه كلّ مستيقظ:
«تهدّمت ـ والله ـ أركان الهدى، وانطمست ـ والله ـ نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت ـ والله ـ العروة الوثقى، قتل ابن عمّ محمّد المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل ـ والله ـ سيّد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء».
فلمّا سمعت السيّدة أُمّ كلثوم نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدّها، وشقّت جيبها وصاحت: وا أبتاه! وا علياه! وا محمّداه! وا سيّداه!
... ثمّ حملوا الإمام ـ والناس حوله يبكون وينتحبون ـ وجاؤوا به إلى الدار. فأقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام، وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت السيّدة زينب وأُختها: أبتاه من للصغير حتّى يكبر؟! ومن للكبير بين الملأ؟!
ياأبتاه! حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقأ.
فضجّ الناس ـ من وراء الحجرة ـ بالبكاء والنحيب، وشاركهم الإمام (عليه السلام) وفاضت عيناه بالدموع.

لمثل هذا فليعمل العاملون

وفي ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، في الساعة الأخيرة من حياة الإمام (عليه السلام) كانت السيّدة زينب (عليها السلام) جالسة عنده تنظر في وجهه، إذ عرق جبين الإمام، فجعل يمسح العرق بيده، فقالت زينب: ياأبه أراك تمسح جبينك؟
قال: يابنية سمعت جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «إنّ المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه».

فعند ذلك ألقت زينب بنفسها على صدر أبيها وقالت: ياأبه حدّثتني أُمّ أيمن بحديث كربلاء، وقد أحببت أن أسمعه منك.
فقال (عليه السلام): «يابنيّة! الحديث كما حدّثتك أُمّ أيمن، وكأنّي بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطّفكم الناس، فصبراً صبر».
ثمّ التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال: «ياأبا محمّد وياأبا عبدالله، كأنّي بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من هاهنا وهاهنا، فاصبرا حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
ياأبا عبدالله! أنت شهيد هذه الأُمّة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثمّ أُغمي عليه وأفاق، وقال: هذا رسول الله وعمّي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلّهم يقولون: عجّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون.

ثمّ أدار عينيه في وجوه أهل بيته وقال لهم: «أستودعكم الله»، وتلا قوله تعالى: (لمثل هذا فليعمل العاملون) وقوله سبحانه: (إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون).
ثمّ تشهّد الشهادتين وفارق الحياة.
فعند ذلك صرخت زينب وأُمّ كلثوم وجميع نسائه وبناته، وشققن الجيوب، ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في الدار.
... ولمّا فرغ أولاد الإمام (عليه السلام) من تغسيله، نادى الإمام الحسن أُخته زينب وقال: ياأُختاه هلمّي بحنوط جدّي رسول الله ـ وكان قد نزل به جبرئيل من الجنّة ـ .

فبادرت السيّدة زينب مسرعة حتّى أتته به، فلمّا فتحته فاحت الدار لشدّة رائحة ذلك الطيب.
أيّها القارئ الكريم: هذا بعض ما يرتبط بالسيّدة زينب في حياة أبيها العظيم الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اقتطفنا ما يرتبط بمقتل أبيها من كتاب: الإمام علي من المهد إلى اللحد.

السيّدة زينب مع أخيها الإمام الحسن المجتبى

إنّ الاحترام اللائق، والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيّدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر، وهو السبط الأوّل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): الإمام الزكي، الحسن المجتبى عليه السلام.

إنّ السيّدة زينب كانت تنظر إلى أخيها الإمام الحسن من منظارين:
1. منظار الأُخوّة.
2. منظار الإمامة.
فمن ناحية: يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيّدة زينب (عليها السلام) ومن المعلوم أنّ الأخ الأكبر له مكانة خاصّة عند الإخوة والأخوات، وقد ورد في الحديث الشريف: «الأخ الأكبر بمنزلة الأب».

ومن ناحية أُخرى: يعتبر الإمام الحسن (عليه السلام) إمام زمان السيّدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولهذا فإنّ احترامها لأخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ ما سنذكره ـ من الروابط القلبية بين السيّدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتة بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً.
وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل فإنّ أصل الموضوع ثابت.
ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من موقف السيّدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة:
«... وصاحت زينب: وا أخاه! وا حسناه! وا قلّة ناصراه!
ياأخي من ألوذ به بعدك؟!
وحزني عليك لا ينقطع طول عمري! ثمّ إنّها بكت على أخيها وهي تلثم خدّيه وتتمرّغ عليه، وتبكي عليه طويل».

العلاقات الودّية بين السيّدة زينب وأخيها الإمام الحسين

إنّ روابط المحبّة، والعلاقات الودّية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان، حتّى صارت يُضرب بها المثل في المحبّة والمودّة بين اثنين، فيقال: كأنّهما أخوان، أو كأنّهما أخ وأُخت.

ولكنّ العلاقات الودّية وروابط المحبّة بين الإمام الحسين وبين أُخته السيّدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمّة وكانت تمتاز بمزايا، ولا أُبالغ إذا قلت: لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأُخت تربطهما روابط المحبّة والوداد مثل الإمام الحسين وأُخته السيّدة زينب. فإنّ كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال

المحبّة الخالصة، والعلاقات القلبية.

وكيف لا يكونان كذلك وقد تربّيا في حجر واحد وتفرّعا من شجرة واحدة؟!
ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب، بل عرف كلّ واحد منهما ما للآخر من الكرامة، وجلالة القدر وعظم الشأن.
فالسيّدة زينب تعرف أخاها بأنّه:
سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتعلم بأنّ الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كآية المباهلة، وآية المودّة، وآية التطهير، وسورة «هل أتى»، وغيرها من الآيات والسور.

بالإضافة إلى أنّها عاشت سنوات مع أخيها في بيت واحد، وشاهدت ما كان يتمتّع به أخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسموّ الدرجة عند الله عزّوجلّ.
وتعلم أنّه إمام منصوب من عند الله تعالى، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله.
مع توفّر شروط الإمام ولوازمها فيه، كالعصمة، والعلم بجميع أنواع العلوم، وغير ذلك.
وهكذا يعرف الإمام الحسين (عليه السلام) أُخته السيّدة زينب حقّ المعرفة، ويعلم فضائلها وفواضلها وخصائصها.
ومن هنا يمكن لنا أن نطّلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأُخته العظيمة.
وقد جاء في التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيّدة زينب، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده، كلّ ذلك احتراماً لها.

نشأتها

نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد غذّتها أُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفّظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعّة من مثلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها.

لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة، فقد شاهدت أباها أمير المؤمنين عليه السلام يشارك أُمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره، وشاهدت جدّها الرسول صلّى الله عليه وآله يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام، فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عالية في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.

لقد ظفرت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلامية، فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين يعظّم أخاه الإمام الحسن عليه السلام ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه ولم يجلس إلى جانبه، وشاهدت أخوتها من أبيها، وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذات موضع احترام اخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين عليه السلام قام لها إجلالاً وإكباراً وأجلسها في مكانه، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن عليه السلام عن ذلك، فقال له: «أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أُختك الحوراء».

لقد أُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وأخوتها، فهي حفيدة النبي صلّى الله عليه وآله، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في أيّام الحكم الأُموي، يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: «روى أبو الحسنين»، وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها.

قدراتها العلمية

كانت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله في فجر الصبا آية في ذكائها وعبقرياتها، فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول صلّى الله عليه وآله فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية وأُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته أُمّها سيّدة النساء فاطمة عليها السلام في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد روت خطبة أُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.

قد بهر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من شدّة ذكائها، فقد قالت له:
«أتحبّنا ياأبتاه».
فأسرع الإمام قائلاً:
«وكيف لا أُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي».
فأجابته بأدب واحترام:
«ياأبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا ..».
وعجب الإمام عليه السلام من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى، وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: «من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك».

وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية، ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين عليه السلام يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبدالله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين، ولمّا كانت في الكوفة في أيّام أبيها كان لها مجلس خاصّ تزدحم عليها السيّدات فكانت تلقي عليهنّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذن منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه، ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الأُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: «حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي»، وقد روى عنها الخطاب التاريخي الذي ألقته أُمّها سيّدة النساء فاطمة عليها السلام في جامع أبيها صلّى الله عليه وآله، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين عليه السلام في أيّام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعية، وقد قال عليه السلام في حقّها:

«إنّها عالمة غير معلّمة»، وكانت ألمع خطيبة في الإسلام، فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الأُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.

لقد نشأت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجلّ العالمات، ومن أكثرهنّ إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.

عناصرها النفسية

وما من صفة كريمة أو نزعة شريفة يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم، وسيّدة النساء زينب عليها السلام، فقد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، وأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وأُمّها سيّدة نساء العالمين عليها السلام، وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.

لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام، فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحقّ، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي وأُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد ووقفتا بصلابة لا يعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوّة أن تلقي الستار على قادة الأُمّة وهداتها الواقعيين، الذين أقامهم الرسول صلّى الله عليه وآله أعلاماً لأُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه، فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت، فهي المؤسّسة الأُولى بعد أبيها صلّى الله عليه وآله لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الأُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت عليهم السلام عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي، فوقفت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الأُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.

وعلى أي حال، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسية لحفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله، وما تتمتّع به من القابليات الفذّة، التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:

الإيمان الوثيق

وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدّت أشعّتها المشرقة على جميع شعوب العالم وأُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.
لقد تغذّت حفيدة الرسول بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الأُسرة النبوية ومن أبرز خصائصهم، ألم يقل سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين في دعائه:
«عبدتك لا طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».
وهو القائل:
«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقين».
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه السلام، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبّته وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وأخوته وابناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحد من أنبياء الله وأوليائه، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال:
«لك العتبى ياربّ إن كان يرضيك هذا، فهذا إلى رضاك قليل»، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قال:
«هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله».
أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!
أرأيتم هذا الانقطاع والتبتّل إلى الله!
وكانت حفيدة الرسول زينب سلام الله عليها كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، هو جثّة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه:
«اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان».
إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.
لقد تضرّعت بطلت الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تؤدّي للأُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.

لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله من حلي وما عندهنّ من أمتعة وهنّ يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهنّ من الأسر والذلّ إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.

الصبر

من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب عليها السلام هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيّام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرزئت بجدّها الرسول صلّى الله عليه وآله الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروّعة التي دهمت أباها وأُمّها بعد وفاة جدّها، فقد أُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي صلّى الله عليه وآله، وأجمع القوم على هضم أُمّها حتّى توفّيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر، وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي عليه السلام قد غدر به أهل الكوفة، حتّى اضطرّ إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألد، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو يتقيّأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ، فقد رأت شقيقها الإمام الحسين عليه السلام قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويين صرعى قد حصدتهم سيوف الأُمويين، وشاهدت الأطفال الرضّع يذبحون أمامها.

إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتلي بها أيّ إنسان مهما تذرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكّن على مقاومة الأحداث، ولكنّها سلام الله عليها قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة)، وقال تعالى: (إنّما يوفّي الصابرون أجرهم بغير حساب)، لقد صبرت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

لله صــبر زيــنــب الــعــقــيــلــة

كـم شـاهدت مصائباً مهولة

رأت من الــخــطــوب والــرزايـــا

أمــراً تـــهون دونــه الــمنايـا

رأت كــرام قــومـهـــا الأمــاجــد

مــجــزّريـن فـي صعيد واحد

تـســـفي على جسومها الرياح

وهــي لــذؤبــان الفـلا تبـاح

رأت رؤوساً بالـقــنــــا تــشــــال

وجــثــثاً أكــفانــها الــرمــال

رأت رضـيـعـاً بالسـهـام يـفــطـم

وصــبية بعــد أبيــهم أيـتموا

رأت شــمـاتــة الـــعـــدو فــيـهـا

وصـنــعه ما شاء في أخـيها

وإنّ من أدهى الخطوب السـود

وقــوفــها بيــن يــدي يـــزيد

وقال السيّد حسن البغدادي:

ياقلـــب زينـــب مـا لاقيت من محن

  فـيــك الــرزايا وكــل الــصبر قـد جمعـا

لو كــان ما فـيك من صبر ومن محن

في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعـا

يـكــفيـك صبراً قلوب الــناس كـلّهم

تــفــطــّرت للــذي لاقــيـتــه جــزعــاً

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كل كائن حي.

العزّة والكرامة

من أبرز الصفات النفسية الماثلة في شخصية سيّدة النساء زينب عليها السلام هي: العزّة والكرامة، فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة، فقد حُمّلت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة ومعها بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفّعت العقيلة أن تطلب من أُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم، ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمن النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة سارعن إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة:
«الصدقة محرّمة علينا أهل البيت ..».
ولمّا سمع أطفال أهل البيت من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ عمّتنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.

ولمّا سيّرت سبايا أهل البيت من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيّدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الاسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها، فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من أُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة والشرف والإباء، فلم تخضع لأي أحدٍ مهما قست الأيّام وتلبّدت الظروف، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.

الشجاعة

ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الأُسرة النبوية الكريمة، فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:

«لو تظافرت العرب على قتالي لما وليت عنه»، وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال، وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين عليه السلام مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أي أحد من أبطال العالم، فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنة، فإنّه بعدما صُرع أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقّى الطعنات والسهام من كلّ جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.
يقول العلوي السيّد حيدر:

فــــتــــلــــقّــــى الــــجــمـــوع فــرداً

ولكن كل عضو في الروع منه جموع

رمــــحه مـــن بــنــانــه وكــــأنّ مـــن

عــزمــه حــدّ ســيــفــه مــطـــبـــوع

زوّج الـســــيــــف بــالــنــفـوس ولـكن

مـــهــرهــا الــمـوت والخضاب النجيع

ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الأُموي من الإجهاز عليه خوفاً ورعباً منه، يقول السيّد حيدر:

عفيراً متى عاينتـه الكـماة

 يخـتطـف الرعب ألوانها

فما أجلت الحرب عن مثله

صريـعاً يجبّن شجعانها

وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب (سلام الله عليها)، فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً:
الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وكذّب أُحدوثتكم ...
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة:
«الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا، وهو غيرنا يابن مرجانة ..».
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمضّ من السلاح، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهنّ رؤوس حماتهنّ، وشهرت عليهنّ سيوف الملحدين.

لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله، قائلاً:
كيف رأيت صنع الله بأخيك .. ؟
وانطلقت عقيلة بن هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة:
«ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة ..».

أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجّلت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين ومجداً خالداً للأُسرة النبوية.
أمّا موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الأُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين.

الزهد في الدنيا

ومن عناصر سيّدة النساء زينب عليها السلام: الزهد في الدنيا، قد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية بأُمّها سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول، فقد كانت فيما رواه المؤرخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل وجلدة شاة، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا، وقد تأثّرت عقيلة الرسول صلّى الله عليه وآله بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السلام. وقد طلّقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار، فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذلّ، لقد قدمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم