المجتمع الذي بناه الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله

ظلت قضية البناء تحظى بأولوية في منهاج الرسول الكريم صلى الله عليه وآله عقب وصوله المدينة المنورة فبوصوله اليها كان على الحركة ان تتخطى مرحلة بناء الانسان الى بناء المجتمع ثم تجذير عوامل القوة والبقاء في هذا المجتمع. وقد استمر الرسول صلى الله عليه وآله في هذه المهمة حتى في مرحلة المواجهة بل ان المواجهة هي التي اصقلت المجتمع وعمقت فيه معاني الايمان والصمود. لكن قبل ان تحدث المواجهة كان لا بد لهذا المجتمع ان يشرع في تكوين ذاته وتنظيم شؤوناته حتى يستطيع الوقوف قبال التحديات.
فالمجتمع القوي المتراص هو الذي يفرز جيشاً قوياً متراصاً وهو المعين الذي لاينضب في التضحية والفداء .
والمجتمع الاسلامي المتماسك لايسمح بوجود الثغرات في داخله ويواجه التحديات الداخلية بنفس الروح التي يواجه بها التحديات الخارجية.

أولاً: سد الثغرات:

تركّب المجتمع الجاهلي على اسس مغايرة للعقل والمنطق فطغت عليه السلبيات وتراكمت عليه الامراض من كل صوب وكانت هناك امراضاً مزمنة علاجها بحاجة الی وقت طويل وجهد كبير ومن هذه الأمراض التي تصدى لها رسول الله صلى الله عليه وآله وكافحها اشد مكافحة:

1. النزعة الفردية

 نشأت النزعة الفردية نتيجة انتقال المجتمع الجاهلي من حالة البداوة الى حالة الحضر فنمت مع ازدهار الحالة الاقتصادية الانانية والنزعة الفردية وقويت هذه النزعة مع التطور الكبير الذي شهدته تجارة الايلاف التي ربطت مجموعة من القبائل العربية الواقعة على خط سير القوافل بمصالح مشتركة مع المجتمع المكي.
وكان اخطر ما واجهه الرسول أثناء بناء المجتمع الاسلامي هو التخلص من هذه النزعة وتصفيتها تصفية شاملة لانها تنذر دائما بعودة الحالة الجاهلية فقد حث النبي صلى الله عليه وآله على تنمية المشاعر الجماعية وتركيزها مكان النزعة الفردية فقال عمن هو مصاب بهذا الداء: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره طاوٍ وما آمن بي من بات كاسياً وجاره عاري» وقال لابي ذر: «يا ابا ذر اياك وهجران اخيك فان العمل لايستقبل مع الهجران» وذكر عنه صلوات الله عليه وآله: «من اصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم».
وعن العلاقة مع الجار «حرمة الجار على الانسان كحرمة امه» وقال ايضا: «لايؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه».
وخاطب المسلمين يوماً: «جاءني جبرائيل فقال لي: يا احمد الاسلام عشرة اسهم وقد خاب من لا سهم له فيها، اولها شهادة ان لا اله الا الله والكلمة… والتاسعة الجماعة وهي الالفة».
وحثهم الرسول صلى الله عليه وآله لاداء الصلاة في المسجد قائلاً: «لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين الامن يليّه».
وكان المجتمع الذي انغمس لفترة طويلة في الانانية وحب الذات بحاجة الى اعادة بناء من جديد وذلك من خلال الممارسة العملية فبالعمل يمكن ان تزال الترسبات فبالاندماج مع المجتمع يمكن معالجة الانانية وحب الذات ، فالكلام وحده لاينفع في علاج بعض الامراض الاجتماعية لكن الكلام يصبح نافعاً عندما ترافقه الاجواء السليمة فعبر تلك الاجواء استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله ان ينيب تلك النوازع الشيطانية التي لازالت تعتمل في بعض النفوس حتى يصبح المجتمع طاهراً معافاً من كل مرض.

2. الرق،

 تعود نشأة الرق الى فترة الحروب التي كانت تدور رحاها في الجزيرة العربية وفي المناطق المجاورة لها فالذين كانوا يولدون في الاسر يباعون ويشترون كعبيد هكذا كان حال زيد بن حارثة وصهيب وغيرهما ومع ظهور عهد الرخاء الاقتصادي في مكة برز الرق كظاهرة اجتماعية خطرة تهدد المجتمع بتوارث الحقد والكراية .ولم يكن من السهل علي النبي صلى الله عليه وآله تصفية هذه الظاهرة بصورة سريعة فتجذرها في الحياة الاجتماعية كان يتطلب زمنا اطول وبرنامجاً شاملاً يعمل على مواجهة هذه الظاهرة من نواحٍ عديدة.
فقد دعى القرآن الكريم المسلمين الى عتق العبيد «فك رقبة» كما وان رسول الله ما انفك يوماً وهو يعتق العبيد الذين ارتبطوا به اما بالهدية او نتيجة الحرب واول من اعتقه هو زيد بن حارثة وهو هدية من زوجته خديجة فقد ظل متعلقاً برسول الله اشد علقة وحتى بعد ان وجده ابوه فضل البقاء مع النبي صلى الله عليه وآله علی الالتحاق بأسرته وتمكن الرسول وعبر هذا المنهج ان يحدّ من انتشار هذه الظاهرة اذ لم يكن من السهل تصفيتها وبصورة نهائية لان ذلك مدعاة لمشاكل اجتماعية اخرى.
لمواجهة ظاهرة الرق في المجتمع الاسلامي حظر رسول الله على المسلمين استرقاق المسلم تأكيداً على مفهوم الامة الاسلامية التي يتساوى ابناؤها ولا فضل لمسلم على اخر الا بالتقوى.
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله ان يصفي هذه الظاهرة من الوسط الاسلامي وان ينقذ المجتمع الاسلامي من آثارها الوخيمة اما الرق كظاهرة انسانية فقد عمل الرسول بمثابرة لقطع دابرها من خلال الدعوة المكررة الى تحرير العبيد.

3. الانتقام ..

اتسمت العلاقات الخارجية بين القبائل بحالة التوتر الدائم وكان الانتقام يلعب دوراً كبيراً في رسم خريطة العلاقات السياسية في الجزيرة العربية واغلب الحروب الطاحنة التي اندلعت بين القبائل كانت بسبب الانتقام.
وابرز حادثة تذكر في هذا الصد معركة البسوس التي دامت أربعين عاماً بين قبيلتي تغلب وبكر وكان وراء هذه الحرب الطاحنة حادثة انتقام لمقتل ناقة.
فقد كانت هذه الناقة لاحد ابناء جرم يقال لها سراب وقد سكن الجرمي بجوار البسوس بنت منقذ وهي خالة جساس صاحب الابل الكثيرة وكانت سراب ترعى مع ابل جساس وهي في نفس المكان كانت ترعى مع ابل كليب وهو زوج جليلة اخت جساس.
ففي احد الايام كان كليب يتفقد ابله فشاهد ناقة لم يعدها من قبل فسأل عنها فقيل له انها ناقة جارنا الجرمي فاغتاظ كليب وطلب ان لا تعود الناقة مرة اخرى الى هذا المكان . وتجاهل جساس فقال كليب ولم يعدلها اية اهمية فعاد كليب ليهدد هذه المرة بقتل الناقة قائلاً لاضعن سهمي في ضرعها فرد عليه جساس، لئن وضعت سهمك في ضرعها لاضعن سنان رمحي في لبتك.
واطلعت زوجته بالذي جرى فعملت ما بوسعها لتحاشي الفتنة لكن لم يهدأ غيظ كليب فخرج الى الحمى وجعل يتفقد الابل فرأى الناقة المشؤومة فرمى ضرعها فقتلها فصرخ صاحبها بالذل وسمعت بسوس خالة جساس صراخ جارها فخرجت لترى الناقة ممددة على الارض فوضعت يدها على رأسها ثم صاحت واذلاه وجساس يراها ويسمع فسارع جساس نحو كليب ليفي بوعده فيرمي كليب برمح فيسقطه من على فرسه ميتاً.
وتقام المآتم على كليب وكانت جليلة اخت جساس القاتل وزوجة كليب المقتول في المآتم عندما طلب منها ان تغادر المكان لانها اخت القاتل وعادت جليلة الى بيت ابيها مرة كئيبة حزينة وكانت حاملاً بهرجس من كليب.
وكان مُرّة والد جليلة وجساس يتحلى بقدر من الحكمة وعلى عادة العشائر القريبة التي بينها صلة رحم تلتقي فيما بينها للفصل فكانت شروط عشيرة كليب صعبة المنال فقد وضعوا مرة امام احد اربعة خيارات اما ان يقتلوا جساس او يقتلوا اخاه هماما او يقتلوه هو او ان يعيد الى الحياة قتيلهم فاجابهم بان جساس قد فرّ وانه لايمنع من القصاص منه واما همام فانه ابو عشرة وان اصدقائه لن يسلموه بسهولة في قبال قتيلهم او ان يدفع اليهم ألف ناقة . فاستاء القوم من هذا العرض فقالوا له اسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب؟
فنشبت الحرب واستمرت اربعين عاماً دمرت القبيلتان تدميراً ولم تخف الا بمقتل جساس ولقتله قصة ظريفة تعكس ايضا حالة العرب قبل الاسلام وكيف كانوا يقدسون الانتقام ويضعوه في الاولوية على كل شيء.
فيواصل المؤرخون تتبع الحادثة الاليمة فعندما تعود جليلة وهي حامل الى عشيرتها يقوم جساس برعايتها وعندما تلد مولودها ولده فيرعى شؤونه ويعامله افضل من معاملة الاب لابنه حتی اذا كبر يزوجه ابنته وينشأ هرجس وهو لايعرف ابا له غير جساس الى ان اكتشف الحقيقة في حادثة خصام مع رجل من بكر فعيره بابيه فدخل على امه كئيباً فلم ترض ان تخبره شيئا وحاول ان يعرف الحقيقة من زوجته فانكرت معرفتها بالحادث فحدثت اباها ألم بزوجها. وفي اليوم التالي طلب جساس صهره هرجس واراد ان يطمئنه قائلاً له انما انت ولدي وانت مني بالمكان الذي تعلم وزوجتك ابنتي وقد كانت الحرب في ابيك زماناً طويلاً وقد اصطلحنا وتحاجزنا وقد رأيت ان تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وان تنطلق معي حتى تأخذ عليك مثل ما اخذ علينا فاضطر هرجس موافقته على ما قاله خاله لكنه كان قد بيت مؤامرة قتله فانتهز فرصة عقد المصالحة فطعن خاله وهرب الى قومه مضحياً بحياة رغيدة الى جانب زوجته وامه.
ويمضي مسلسل القتل والانتقام فالطرف الآخر يزال مصراً على الانتقام وهو لم يكتف بكل تلك الدماء التي سفكت خلال الاعوام الاربعين اذ لا زال يطالب بالثأر لكليب الذي نخرت عظامه وبليت خلال هذه الاعوام المديدة.
وبعد مقتل جساس كادت الاوضاع ان تهدأ ويعود الصلح والصفاء بين القبيلتين سيما وان رجلاً حكيماً من بكر قرر ان يضحي باحد اولاده من أجل انهاء مسلسل القتل فأرسل بابنه بجير الی المهلهل وأرسل معه رسالة قال فيها إنك قد أسرفت في القتل وادركت ثأرك سوی ما قتلت من بكر وقد ارسلت ابني اليك فاما قتلته بأخيك واصلحت بين الحيين واما اطلقته واصلحت ذات البين. فقد مضى ، من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم. فلما وصل بجيرا الى المهلهل قتله وهو يقول بُوُبشسع نعل كليب فسمع الاب بمقتل ابنه فتألم لموت ولده لكنه فرح بأن السلام والوئام سيعودان الى القبيلتين لكنه عندما سمع بما قاله المهلهل عندما ساوى بين ابنه وشسع نعل كليب غضب وتفجرت في عروقه العصبية القبلية فنادى بفرسه وعادت الحرب من جديد ولم تنته الفتنة الا بعد ان قرر المهلهل مغادرة الوطن الى مكان اخر هو اليمن.
ذكرنا هذه الحادثة بكل تفاصيلها لكي نتبين اولا حالة العرب في الجاهلية وكيف كانوا يعيشون مغرمين بسفك الدماء لابسط حادث وكم كان عملاً عظيماًما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله اذ قَلَب هذا المجتمع على رأسه ليقف على قدميه مع طلوع فجر الاسلام اما الامر الثاني فهو للتدليل على ما كان يكنّه العرب من قدسية للانتقام وكيف كانوا لايكتفون حتى بأنهار الدم ثمناً . وكيف كانوا يضحون بمصالحهم وعلاقاتهم من اجل تحقيق غاية الانتقام لانها اقدم عمل يقومون به وثالثاً لكشف مواطن الضعف نتيجة غياب السلطة السياسية فكان على رسول الله صلى الله عليه وآله ان يقلع هذه النظرة من نفوس المجتمع الذي دعاه الى الاسلام وان يضع حدا لهذه الظاهرة الخطرة على تماسك المجتمع ووحدته فوضع قانوناً بدل الانتقام هو القصاص في حالة قتل العمد والدية في غير ذلك واستطاع وخلال فترة قصيرة ان يعبّد الطريق امام قيام الاخوة الاسلامية وقيم القانون لتحل محل هذه القيمة الجاهلية ، واذا بمعركة بدر الفاصلة اصبح فيها الابن المسلم يقف في جبهة وفي مقابله كان يقف ابوه او عمه وكثير من المسلمين شهدوا مقتل ابائهم كأبي حذيفة الذي شهد مقتل ابيه عتبة ومقتل عمه شيبة ومقتل اخيه الوليد ولم يطرأ في نفسه شيء على قاتلهم وعندما وقف رسول الله صلى الله عليه وآله على الحفر التي ووري فيها قتلى قريش اخذ يعدهم باسمائهم يا عتبة يا شيبة يا امية بن خلف هل وجدتم ما وعدكم ربُكم حقا؟ فاني وجدت ما وعدني ربي حقا فلاحت منه التفاتة فرأى تغيراً قد طرأ على وجه أبي حذيفة وكان واقفاً مع المسلمين فقال له لعلك قد دخلك من شأن ابيك شيء فاجابه ابو حذيفة لا والله يا رسول الله ما شككت في ابي وفي مصرعه ولكنه كان له عقل وحلم وفضل وكنت ارجو له الاسلام فلما رأيت ما مات عليه من الكفر احزنني ذلك.
هكذا تحول المجتمع العربي من حرب البسوس الى المستوى الذي اصبح فيه الرجل يشارك في قتل ابيه او اخيه او ابنه فاي تحول عظيم طرأ على هذا المجتمع وأية قوة كانت قادرة على احداث هذا التغيير غير قوة العقيدة والايمان الصادق.

4. تحرير المرأة:

لم تكن المرأة في الجاهلية اكثر من سلعة للمتعة واشباع الحاجات الشهوانية وتقديم الخدمة الرخيصة الا بعض النساء اللواتي برزن في التجارة والشعر والادب. فقد شاعت ظاهرة تعدد الازواج وكذلك تعدد الزوجات مما لاحّد له ولاحصر، وكان الرجل يجيز لزوجته الإتصال بالرجال الاخرين جنسياً من اجل انجاب الاولاد . وكانوا ينظرون اليها كمتاع تورث كما تورث تركة الميت فكان من حق الوارث التصرف بها كيفما يشاء فمن حقه الزواج منها او تقديمها الى من يشاء، وكانت عادة وأد البنات امراً شائعاً بين العوائل الثرية والفقيرة فكانت النظرة الى المولودة نظرة ازدراء واحتقار «فاذا ما بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتواری من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون ام يدسه في التراب» فكان الاب يتقدم بنفسه ليحفر لفلذة كبده حفرة ويلقي بها بيديه الاثنتين ويهيل عليها ركاماً من التراب وهي حية .
وكان في بعض الحالات يتعين على الام ان تقوم بهذا العمل تنفيذاً لاوامر الزوج. وهذه العادة لوحدها تعطي معلما واضحا على الطبيعة الهمجية للمجتمع الجاهلي وعلى النظرة القاتمة التي كان يرى المرأة من خلالها. ويمكننا القول ان المجتمع الجاهلي الذي حدد للمرأة هذه المكانة المنحطة ليس فقط يتسم بالعجز حيث نصفه مشلول عن الحركة . فوجود المرأه عمليا له أثر فاعل على حركة المجتمع. المنتظمة.
والوضع المأساوي الذي كانت تعيشه المرأة في الجزيرة العربية كان احد أسباب فقدان ذلك المجتمع لحالة التوازن فهو لم يكن مجتمعا طبيعيا كالجسم الذي يفقتد لأحد أجزاءه.
من هنا فان اعادة المرأة الى مكانتها ليس فقط لمصلحة المرأة بل لمصلحة المجتمع ايضا إذ سيعود اليه التوازن وتتكامل فيه الاجزاء و هذا ما قام به الاسلام عندما اعاد للمرأة كرامتها وعزتها وجلالها ووضعها في مكانها المناسب..
فقد صرح القرآن «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف».
وخاطب رسول الله المسلمين قائلاً لهم «خيركم خيركم لنسائه» وكان أول ما قدّم لهذا الكائن هو مساواته بالرجل فجاء في القرآن «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» مساواة في القيمة والمنزلة ومساواة في المسؤولية والجزاء قال الله تعالی..
«فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او انثى ...».
لقد انتشل رسول الله المرأة من الحضيض الذي كانت فيه وكان بسلوكه اول من يترجم النظرية الاسلامية في المرأة من خلال علاقاته بزوجاته وبناته، فقد كان يقبّل يد ابنته فاطمة تكريما لها واجلالاً واحتراما بعد ان كان العرب يدسون ببناتهم في الرمال ويدفنونها وهي حية .. واهتمام الاسلام بالمرأة نابع من اهتمامه بالمجتمع فالمرأة الصالحة تبني مجتمعاً صالحاً ولم تكن أية خطة في اصلاح المجتمع مجدية ان لم تبدأ بإصلاح الخلية الاجتماعية وذلك باعادة المرأة الى مركزها الطبيعي كأم وزوجة وابنة.
وقد أوجد هذا المنعطف تحولاً كبيراً في وضع المرأة فأصبحت ذات مكانة وقوة يحسد عليها بعض الرجال وقد شهد التأريخ الاسلامي نماذج رائعة من النساء اللواتي ضربن اروع الأمثلة في الشجاعة والجرأة وفي العلم والتربية وفي الايثار والتضحية وفي الاستقامة والصبر ولم يكن ليحدث هذا التحول الكبير لولا تلك التغييرات الفكرية التي انجزها الاسلام والتي نقلت المرأة من القاع الی القمة.
 

5.ارساء دعائم نظام الأسرة..
 

قام نظام الأسرة في بعض مناطق جزيرة العرب سيما في المدينة على قاعدة الانتساب الى الأم فكثيراً ما يحدّثنا التأريخ عن أشخاص ينتسبون الى امهاتهم ويعود السبب في وجود النظام الأمي الى مفاهيم المجتمع الجاهلي نحو الزواج والطلاق فقد كان هذا المجتمع يجيز للمرأة الاتصال بعدة رجال في آن واحد فكان يصعب على الولد معرفة والده الحقيقي فجرت العادة أن يحمل نسب أمه او ان تختار الأم نسباً من بين ازواجها المتعددين .. وتنشأ المشكلة ايضا في حالة الزواج من شخص آخر فتلد مولوداً لا تعرف بالضبط لمن هو هذا المولود للزواج الأول او الثاني .
وقد الغى الاسلام النظام الأمي بصورة آلية عندما وضع حدوداً وضوابط للزواج والطلاق .. فالمرأة لايحق لها ان تتزوج اكثر من رجل واحد في وقت واحد وعندما تطلق لا يحل لها الزواج الا بعد ان تقضي فترة العدة وهي فترة وضعت لتقصي ذيول الزواج الأول فيتبين خلال هذه الفترة الكافية لتشخيص وضع المرأة حامل كانت او لا وبذلك قلّب الاسلام نظام الاسرة من النظام الأمي الى النظام الأبوي وهو نظام كان قائماً قبل الاسلام في بعض مناطق الجزيرة العربية.
ومع هذا التحول الذي شهده نظام الأسرة اخذت الاسرة كمؤسسة اجتماعية تنمو نمواً طبيعياً فأصبح توزيع الوظائف والمسؤوليات داخل هذه المؤسسة يجري بصورة طبيعية .
فقد منح الاسلام قيمومة الأسرة بيد الرجل فأصبح المسؤول عن رعاية هذه المؤسسة من الناحية الاقتصادية والفكرية والتربوية ومن ناحية أخرى اصبح مسؤولاً عن أمن الأسرة وبذلك ضمن الإسلام وعبر هذا التغيير وحدة هذه المؤسسة الاجتماعية وعدم تصدعها وتفاعلها في بحر المجتمع الكبير، وضمن الحفاظ عليها وتوفير الحماية لأفرادها.
وبذلك استطاع الاسلام أن يُرسي على أسس قويمة اللبنة الرئيسية في المجتمع وبقدر ما كانت هذه اللبنة سليمة وقوية ومنيعة من الانحراف كان المجتمع سليماً وقوياً ومنيعاً ايضا.
وللحفاظ على سلامة هذه المؤسسة وضع الإسلام موانع في طريق العلاقات الزوجية المنحرفة فمنع الزواج من بنت الأخ وبنت الأخت ومنع الجمع بين الأختين وكذلك منع الأبناء من الزواج من زيجات آبائهم بعد وفاتهم وهي انواع من العلاقات الزوجية كانت معروفة ومتداولة في جزيرة العرب.
اما تعدد الزوجات فقد أقُرت لمواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تسببها الحروب .. فهو اسلوب أقرّه القرآن الكريم لمواجهة حالة الصراع الدائم بين الإسلام والكفر الذي يستنزف اعداداً مستمرة من الرجال ..
وكان من الطبيعي ان تظهر مشكلة اجتماعية عقب الزواج و تركه لزوجته ، فلم يكن سبيلاٌ لحل هذه المشكلة سوى تعدد الزوجات ولا عجب ان تنزل الآية « وان خفتم الا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فان خفتم الا تعدلوا فواحدة » بعد معركة اُحد التي خلفت سبعين شهيداً من بين المسلمين .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعد المجتمع للمواجهة المستمرة فكان لابد من التخطيط السليم لمعالجة آثار هذه المواجهة على الأُسر التي تفقد معيلها واغلب زوجات النبي صلى الله عليه وآله وبقية الصحابة هنّ من تلك النساء اللواتي فقدن أزواجهن في المعارك .. وقد اشترط القرآن العدالة في حالة التعدد لكي تبقى العلاقة الزوجية محتفظة بمقوماتها الأساسية ومتجهة نحو أهدافها الحقيقة.
واذا شعر الرجل بأدنى عجز في توفير العدالة فانه لايسمح له بتعدد الزوجات .
 

6. توطيد السلام...
 

تتجلى دقة المنهاج الاجتماعي للرسالة الاسلامية انها غيرت معادلات المجتمع التي كانت تؤدي به الى التطاحن والفوضى الى معادلات اصبحت تتحكم بأجزاء المجتمع لتؤدي به الى حصيلة نهائية هي السلام.
وكأننا أمام صيدلاني يخلط المواد الكيمياوية بنسب متفاوتة ليصنع منها الدواء الشافي وهذا بالضبط ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله عندما باشر بتغيير سمات المجتمع الذي كان سائداً بحذف بعض الصفات وزرع القيم مكانها وترسيخ الفضائل و تحريم بعض الممارسات والتأكيد على بعض الأفعال، وادار عملية التغيير هذه بصورة دقيقة وبتتابع رائع كانت حصيلتها هو السلام وهو ما كان يهدف اليه من التخطيط، وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وآله كل أدوات التغيير لإحداث التحول الاجتماعي من مستوی الفوضى الى درجة التجانس والتكامل فاستدخم النصيحة الكلامية وكان القدوة لأبناء المجتمع في ترسيخ الفضائل والصفات الحميدة ونبذ الصفات الرذيلة ولم يتغافل عن تأمين حد معقول من الدخل لكل عائلة. كل هذه الوسائل كانت تفعل فعلها في المجتمع الذي كان يتحول تدريجياً الى مجتمع السلام وهو القمة الذي تتكامل فيه أجزاء هذا المجتمع فيعم أرجاءه السلام والمحبة والصدق والاخلاص.
وهي الوسائل التي تبعث الحياة في المجتمع فتدفعه الى الحركة وتضع اتجاها لهذه الحركة وهو تحقيق السلام والاستقرار.
على هذه القواعد أقام الرسول صلى الله عليه وآله مجتمعاً اسلامياً منيعاً واستطاع عبرها ان يزيل تراكمات الجاهلية وان يستبدل الرذائل بالفضائل.
وبذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وآله ان يؤدي الانجاز الكبير الذي تحقق في المدينة وهو تحويل الطليعة الاسلامية الى أمة اسلامية مترابطة على أساس الايمان.
أمة متكونة من أفراد يترابطون اجتماعياً فيما بينهم برباط الاخوة ويترابطون فكرياً على الاستلهام الموحد من معين القرآن الكريم.
ويترابطون عمودياً بقمة الهرم برباط الأسوة الحسنة المتمثلة بكتل الفضائل المتمركزة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله.

 

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم