الإمام الصادق سلام الله عليه ومذاهب عصره

لا يكاد أحد ينكر شدة الظروف الحرجة التي مر بها الإمام الصادق سلام الله عليه أيام حياته؛ ومنها ما لاقاه من ‏حكّام الجور الذين عاصروه وتربّصوا به الدواهي ليل نهار حتى مضى صلوات الله عليه من الدنيا شهيداً مظلوماً.‏
ويكفينا في إثبات شدّة تضييقهم عليه ما نُقل عنه سلام الله عليه، حيث قال: دخلت على أبي العباس ‏بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا وإن أفطرت ‏أفطرنا. فقال: يا غلام، عليَّ بالمائدة. فأكلت معه وأنا أعلم والله إنه يوم من شهر رمضان. فكان إفطاري يوماً ‏وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يُعبد الله. (الكافي ج 4 ص 83).‏
وقد كثر الوشاة على الإمام سلام الله عليه إلى السلاطين الذين كانوا يسخطون عليه ويسيئون إليه جراء هذه ‏الوشايات؛ يقول محمد بن الربيع الحاجب: قعد المنصور يوماً في قصره في القبّة الخضراء، ‏وكان له يوم يقعد فيه يسمَّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمد عليهما السلام من ‏المدينة؛ قال: ثم دعا أبي الربيع فقال له: يا ربيع إنك تعرف موضعك مني وأني يكون لي الخبر ولا تظهر عليه ‏أمهات الأولاد، وتكون أنت المعالج له. فقال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله عليّ وفضلِ أمير ‏المؤمنين، وما فوقي في النصح غاية. قال: كذلك أنت سر الساعة إلى جعفر بن محمد ابن فاطمة فائتني به ‏على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً مما هو عليه. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله هو العطب ‏إن أتيتُ به على ما أراه من غضبه قتله، وذهبت الآخرة، وإن لم آت به وأدهنت في أمره قتلني وقتل نسلي، وأخذ ‏أموالي، فخيّرت بين الدنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدنيا.
قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ‏ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد بن علي فتسلّق على حائطه ولا تستفتح عليه باباً ‏فيغيّرَ بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولاً فائتِ به على الحال التي هو فيها.
قال: فأتيته وقد ذهب الليل إلا ‏أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم، وتسلّقت عليه الحائط، فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي، وعليه قميص ‏ومنديل قد ائتزر به، فلما سلّم من صلاته قلت له: أجب أمير المؤمنين! فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي. فقلت ‏له: ليس إلى تركك وذلك سبيل. قال: وأدخل المغتسل فأتطَهّر؟ قال: قلت: وليس إلى ذلك سبيل، فلا تغسل ‏نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً. قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان سلام الله عليه قد جاوز ‏السبعين، فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ، فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغل شاكري كان معنا ثم صرنا ‏إلى الربيع فسمعته وهو يقول له: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل، وجعل يستحثّه استحثاثاً شديداً، فلما أن ‏وقعت عين الربيع على جعفر بن محمد، وهو بتلك الحال بكى وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر سلام الله عليه: ‏يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا، فدعني أصلّي ركعتين، وأدعو. قال: شأنك وما تشاء. فصلَّى ركعتين خفّفهما ثم دعا ‏بعدهما بدعاء لم أفهمه إلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلما فرغ من دعائه على ‏طوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور، فلما صار في صحن الأيوان وقف ثم حرّك شفتيه بشيء ما لم ‏أدر ما هو، ثم أدخلته فوقف بين يديه، فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على ‏أهل هذا البيت من بني العباس، وما يزيدك الله بذلك إلا شدّة حسد ونكد ما يبلغ به ما تقدره. فقال له: والله ‏يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، ‏وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفاهم الذي كان بي، وكيف يا ‏أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي، وأمسّ الخلق بي رحماً، وأكثرهم عطاء وبرّاً، فكيف أفعل هذا؟ ‏فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد وعن يساره مرفقة جرمقانية وتحت لبده سيف ذو فقار كان لا يفارقه إذا ‏قعد في القبة. قال: أبطلت وأثمت وثم رفع ثني الوسادة، فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال: هذه ‏كتبك إلى أهل خراسان، تدعوهم إلى نقض بيعتي، وأن يبايعوك دوني. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ‏ولا أستحلّ ذلك، ولا هو من مذهبي، وإني لمن يعتقد طاعتك على كلّ حال، وقد بلغتُ من السنّ ما قد ‏أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيّرني في بعض جيوشك حتى تأتيني الموت فهو منّي قريب. فقال: لا ولا كرامة. ‏ثم أطرق وضرب يده إلى السيف فسلّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: إنا لله، ذهب والله الرجل، ثم ردّ ‏السيف. ثم قال: يا جعفر أما تستحيي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين ‏، تريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما فعلت، ولا هذه ‏كتبي ولا خطّي ولا خادمي. فانتضى من السيف ذراعاً. فقلت: إنا لله، مضى الرجل، وجعلت في نفسي إن أمرني ‏فيه، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: أظنّك صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع كانت فيه في ‏القبّه. فأتيته بها، فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوءة غالية، وضعها في لحيته، وكانت بيضاء، فاسودّت. ‏وقال لي: احمله على فاره من دوابّي التي أركبها، وأعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه إلى منزله مكرماً، وخيّره إذا ‏أتيت به إلى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله. ‏فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح بسلامة جعفر سلام الله عليه، ومتعجّب مما أراد المنصور وما صار إليه من ‏أمره. فلما صرنا في الصحن، قلت له: يا ابن رسول الله إني لأعجب مما عمد إليه هذا في بابك وما أصارك الله ‏إليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو في عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو ‏إلا أنه طويل، ورأيتك قد حرّكت شفتيك بشيء لم أدر ما هو؟ فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب والشدائد لم أدعُ ‏به على أحد قبل يومئذ، جعلته عوضاً من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي لأني لم أترك أن أدعو ما كنت ‏أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الأحزاب ‏(بحار الأنوار ج 19 ص 291).‏
بل في بعض الأخبار أن من شدة التضييق على الإمام سلام الله عليه كان الشيعة والموالون لا يتمكنون من ‏الالتقاء به للسؤال عن أحكام دينهم، ولذا فإنهم كانوا يتنكّرون حتى يصلوا إليه ويسألوه، ومن ذلك ما نقله ‏هارون بن خارجة قال: كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، فقالت ‏امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر ‏على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله سلام الله عليه وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، ‏فإذا سواديّ عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهماً وقلت له: ‏أعطني جبّتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: من يشتري خياراً، ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب ‏الخيار، فقال سلام الله عليه لي لما دنوب منه: ما أجود ما احتلت، أي شيء حاجتك؟ قلت: إني ابتليت فطلّقت ‏أهلي في دفعة ثلاثاً فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وإن المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه ‏السلام فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء. (بحار الأنوار ج 74 ص 171).‏
ومع أن الإمام سلام الله عليه قاسى ظروفاً شديدة كهذه إلا أنه لم يتوان لحظة في الدفاع عن التشيع ‏ونصرة الحق، رغم جور السلاطين الذين كانوا يحبلون له حبائل مكرهم ويكنّون له بالغ حقدهم الدفين، ‏وقبل أن نشير إلى دور الإمام صلوات الله عليه قبال المذاهب الأخرى لا بأس أن نشير إلى بعض اعترافات كبار ‏أهل المذاهب و جملة من أئمتهم بفضله سلام الله عليه، فقد قال مالك بن أنس زعيم المالكية: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد ‏علمت أنه من سلالة النبيين. (تهذيب التهذيب ج 2 ص 104).‏
وقال أبو حنيفة عنه سلام الله عليه: ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء، ويتروّح إذا شاء، ‏فهو هذا. وأشار إلى الصادق سلام الله عليه. (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 65).‏
وقال ابن ِأبي العوجاء عنه: جعفر بن محمد هو ذو علم غزير وأدب كامل في الحكمة وزهد في الدنيا وورع تامّ عن ‏الشهوات وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل ‏العراق وأقام بها مدّة، ما تعرّض للإمامة قطّ، ولا نازع في الخلافة أحد، ومن غرق في بحر المعرفة لم يقع في ‏شطّ، ومن تعلاّ إلى دورة الحقيقة لم يخف من حطّ. (الملل والنحل ج 1 ص 272).‏
‏ ومن أبرز الصور التي تجلّى فيها دور الإمام الصادق سلام الله عليه في الدفاع عن التشيع ما وصلنا عنه في ‏مجابهة أصحاب المذاهب الضالّة في عصره، ومنهم: ‏
1. ‏الزنادقة: حيث أخذ مجموعة من الملحدين بترويج الشبهات ونشر المغالطات بين عوامّ الناس ‏ليصدّوهم عن الإسلام وعبادة الله عزّ وجلّ، ومن أشهر هؤلاء عبدالله بن المقفع وابن أبي ‏العوجاء وأمثالهما من الزنادقة.‏
وبالرغم من أنهم كانوا يعملون ليل نهار لتضعيف عقائد الناس إلا أن الإمام الصادق سلام الله عليه كان لهم ‏بالمرصاد، فكان يبطل إدعاءاتهم ويفنّد شبهاتهم ويكشف زيفها للناس حتى أقرّ الزنادقة أنفسهم بفضيلته ‏‏سلام الله عليه؛ ومن ذلك ما نقله أحمد بن محسن الميثمي، قال: كنت عند أبي منصور المتطبب، ‏فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام، ‏فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق؟ وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم ‏الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني جعفر بن محمد عليهما السلام - فأما الباقون فرعاع وبهائم. ‏فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أر ‏عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه. فقال له ابن المقفع: لا تفعل، فإني ‏أخاف أن يفسد عليك ما في يدك. فقال: ليس ذا رأيك، ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك ‏إيّاه المحلّ الذي وصفت. فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت على هذا فقم إليه، وتحفظ ما استطعت من ‏الزلل، ولا تثن عنانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، وسمه ما لك أو عليك.
قال: فقام ابن أبي العوجاء ‏، و بقيت أنا وابن المقفع، فرجع إلينا، فقال: يا ابن المقفع ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني ‏يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا. فقال له: وكيف ذاك؟ فقال: جلست إليه، فلما لم ‏يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف ‏فقد سلموا، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم أنتم وهم. فقلت له: يرحمك ‏الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً. قال: فكيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم ‏يقولون: إن لهم معاداً وثواباً و عقاباً ويدينون بأن للسماء إلهاً وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ‏ليس فيها أحد. قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه و يدعوهم ‏إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولِم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان ‏أقرب إلى الإيمان به؟! فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن، ‏وكبرك بعد صغرك، وقوّتك بعد ضغفك، وضعفك بعد قوّتك، وسقمك بعد صحّتك، وصحّتك بعد سقمك ‏، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك، ‏وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إبائك، وإبائك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ‏ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم ‏يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك، وما زال يعدّ عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا ‏أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه. (التوحيد ص 126).‏
2. ‏الغلاة: الذين أخذوا يتصيّدون في الماء العكر ويستفيدون من شدّة الظروف القاسية على الشيعة ‏الموالين، فلجؤوا إلى التنفيس عنهم بعقائد ضالّة تبرّأ الإمام الصادق سلام الله عليه منها.‏
ومن أبرز زعماء هذه الطائفة محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بابن الخطاب، الذي كان يقول ‏بألوهية الإمام الإمام الصادق سلام الله عليه، ويدعو الناس إلى ذلك، إلا أنّ الإمام صلوات الله عليه وقف ‏إزاءَهم موقفاً صارماً. فعن سدير: قلت لأبي عبد الله سلام الله عليه: إنّ قوماً يزعمون أنكم آلهة يتلون ‏عليها بذلك قرآناً (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ‏ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء بريء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله ‏لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم. قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل ‏يقرؤون علينا بذلك قرآناً (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم)، فقال: ‏يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء بريء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء ‏على ديني ودين آبائي، لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم وقال: قلت: فما أنتم؟ قال ‏‏: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن ‏معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض (إلزام الناصب في إثبات الحجة ‏الغائب ج 1 ص 21). ‏
وعن حنان بن سدير، عن سدير، عن أبي عبد الله سلام الله عليه، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه ‏السلام وميسر عنده، ونحن في سنة ثماني وثلاثين ومئة، فقال له ميسر بياع الزطي: جعلت فداك عجبت ‏لقوم كانوا يأتون هنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم! قال سلام الله عليه: ومن هم؟ قلت: ‏أبو الخطاب وأصحابه. وكان متكئاً، فجلس فرفع إصبعه إلى السماء، ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله ‏والملائكة والناس أجمعين. (خاتمة المستدرك ج 5 ص 428). ‏
وقد إستمرّ الإمام صلوات الله عليه في محاربتهم حتى فُضحوا بين الناس وخابت آمالهم وذهبت أتعابهم أدراج ‏الرياح ولم يبق لم ذكر أبداً.‏
3. أهل القياس: وهؤلاء وإن لم يكونوا في عهد الإمام الصادق سلام الله عليه كفرقة وجماعة يعتدّ بهم، ولكنهم ‏بمرور الزمن صاروا طائفة كبيرة، ومن أبرز شخصيات هذه الطائفة أبو حنيفة الذي كان يذهب إلى القياس، ‏وقد انتدب أبو جعفر المنصور أبا حنيفة كي يناظر الإمام الصادق سلام الله عليه علّه يوفّق في محاججته. ‏يقول الحسن بن زياد اللؤلؤي: سمعت أبا حنيفة ـ وقد سئل من أفقه من رأيت؟- قال: ما رأيت أفقه من جعفر ‏بن محمد الصادق، لما أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، ‏فهيئ له من المسائل الشداد. فهيأت له أربعين مسألة.‏ ثم بعث إلىّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه، وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به ‏دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي المنصور، فسلّمت عليه.‏
أومأ إلي فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم. ثم أتبعها: قد أتانا كأنه كره ‏ما يقول فيه قوم: إذا رأى الرجل عرفه.‏
قال: ثم التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبدالله مسائلك.
فجعلت ألقي فيجيبني، فيقول: أنتم ‏تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا.‏
فربما تابعَنا وربما خالفَنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة ما أخلَّ منها بمسألة. (تذكرة الحفّاظ ج 1 ص 157).‏
وقد كان الإمام صلوات الله عليه يتقّي أحياناً من أبي حنيفة لعلاقته بالسلطان؛ ففي الخبر عن محمد بن ‏مسلم قال: دخلت على أبي عبد الله سلام الله عليه وعنده أبو حنيفة فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة. ‏فقال لي: يا ابن مسلم هاتها؛ فإن العالم بها جالس ـ وأومأ بيده إلى أبي حنيفة ـ. قال: فقلت: رأيت كأني دخلت ‏داري وإذا أهلي قد خرجت عليّ فكسرت جوزاً كثيراً ونثرته عليَّ، فتعجبت من هذه الرؤيا. فقال: أبو حنيفة أنت ‏رجل تخاصم و تجادل لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله.
قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت: جعلت فداك إني ‏كرهت تعبير هذا الناصب. فقال: يا ابن مسلم لا يسؤك الله، فما يواطى تعبيرهم تعبيرنا، ولا تعبيرنا تعبيرهم، ‏وليس التعبير كما عبّره. قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم ‏حلفت عليه أنه أصاب الخطأ. قال: فقلت له: فما تأويلها؟ قال: يا ابن مسلم إنك تتمتع بامرأة فتعلم بها ‏أهلك فتمزّق عليك ثياباً جدداً؛ فإن القشر كسوة اللب. قال ابن مسلم: فوالله ما كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا ‏إلا صبيحة الجمعة، فلما كان غداة الجمعة أنا جالس بالباب إذ مرت بي جارية فأعجبتني فأمرتُ غلامي فردَّها ثم ‏أدخلها داري فتمتعتُ بها فأحسّت بى وبها أهلي، فدخلت علينا البيت فبادرت الجارية نحو الباب وبقيت أنا فمزّقت ‏عليَّ ثياباً جدداً كنت ألبسها في الأعياد. (الكافي ج 8 ص 292).‏
ومع ذلك فإن الإمام سلام الله عليه كان يواجه أبا حنيفة ويتصدّى لانحرافاته قدر إمكانه؛ يقول ابن أبي شبرمة ‏: دخلت أنا وأبو حنيفة على أبي عبد الله سلام الله عليه فقال لأبي حنيفة: إتّق الله ولا تقس في الدين برأيك... إلى ‏أن قال: ويحك أيّهما أعظم، قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس، قال: فإن الله قد قبل في النفس شاهدين ‏ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، ثم أيهما أعظم، الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة قال: فما بال الحائض تقضي ‏الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق الله و لا تقس. (الفصول المهمّة ج 1 ص 533).‏
وفضلاً عن تصدّي الإمام الصادق سلام الله عليه بنفسه لأهل المذاهب والأفكار المختلفة فقد ربَّى صلوات الله ‏عليه مجموعة كبيرة من الفقهاء وأهل الكلام ليذودوا عن التشيع وينصروا العقيدة أمام الحملات الضارية ‏المختلفة التي كانت تكال إليها، ويكفينا في ذلك ما نقله كثير من المؤرخين عن يونس بن يعقوب قال: كنت ‏عند أبي عبد الله سلام الله عليه فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد ‏جئت لمناظرة أصحابك. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: كلامك من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أو ‏من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ومن عندي، فقال أبو عبد الله: فأنت إذاً شريك ‏رسول الله؟ قال: لا. قال: فسمعتَ الوحي عن الله عزّ وجلّ يخبرك؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما ‏تجب طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله سلام الله عليه إليّ فقال: يا ‏يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم. ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلّمته. قال يونس: ‏فيالها من حسرة. فقلت: جُعلت فداك إنى سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون، هذا ‏ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: ‏إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون. ثم قال لي: اُخرج إلى الباب فانظر من ترى من ‏المتكلّمين فأدخله؟ قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام ‏وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلّم ‏الكلام من عليّ بن الحسين عليهما السلام، فلما استقرّ بنا المجلس - وكان أبو عبد الله سلام الله عليه قبل ‏الحج يستقرّ أياماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة، قال: فأخرج أبو عبد الله رأسه من فازته فإذا ‏هو ببعير يخب. فقال: هشام ورب الكعبة. قال: فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له. قال: ‏فورد هشام بن الحكم وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا الا من هو أكبر سنّاً منه. قال: فوسع له أبو عبد الله ‏‏سلام الله عليه وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه و يده. ثم قال: يا حمران كلِّم الرجل. فكلَّمه فظهر عليه حمران. ‏ثم قال: يا طاقى كلّمه. فكلّمه فظهر عليه الأحول. ثم قال: يا هشام بن سالم كلّمه. فتعارفا، ثم قال أبو عبد ‏الله سلام الله عليه لقيس الماصر: كلّمه. فكلّمه. فأقبل أبو عبد الله سلام الله عليه يضحك من كلامهما مما قد ‏أصاب الشامي. فقال للشامي: كلّم هذا الغلام - يعني هشام بن الحكم - فقال: نعم. فقال لهشام: يا غلام ‏سلني في إمامة هذا. فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي: يا هذا أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ ‏فقال الشامي: بل ربّي أنظر لخلقه. قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال، أقام لهم حجّة ودليلاً كيلا يتشتتوا أو ‏يختلفوا، يتألفّهم و يقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم. قال: فمن هو؟ قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله. ‏قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: الكتاب والسنّة. قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب ‏والسنة في رفع الاختلاف عنّا؟ قال الشامي: نعم. قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في ‏مخالفتنا إيّاك؟ قال: فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه للشامي: ما لك لا تتكلّم؟ قال ‏الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لانهما ‏يحتملان الوجوه، وان قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة إلا أن لي عليه ‏هذه الحجة، فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: سله تجده مليّاً. فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربّهم ‏أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام من يجمع لهم كلمتهم ‏ويقيم أودهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله أو الساعة؟ ‏قال الشامي: وقت رسول الله صلّى الله عليه وآله والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذى تشدّ إليه ‏الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء (والأرض) وراثة عن أب عن جدّ. قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال ‏هشام: سله عمّا بدا لك. قال الشامي، قطعت عذري فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: يا شامي، ‏أخبرك كيف كان سفرك؟ وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة. ‏فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: بل آمنت بالله الساعة، إن الاسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون، ‏والإيمان عليه يثابون. فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله صلّى الله ‏عليه وآله وأنّك وصيّ الأوصياء. (الكافي ج 1 ص 171).‏
وهكذا كان الإمام الصادق سلام الله عليه يوصل الحقّ للعالم ويكشف لهم أحقّية التشيع على سائر ‏المذاهب الأخرى، فما أحوجنا اليوم إلى الاقتداء بنهجه النيّر وسيرته العطرة في بيان أحقيّة التشيع أزاء بقية ‏المذاهب.

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم