الإمام الصادق سلام الله عليه ومذاهب عصره
لا يكاد أحد ينكر شدة الظروف الحرجة التي مر بها
الإمام الصادق سلام الله عليه أيام حياته؛ ومنها ما لاقاه من حكّام الجور
الذين عاصروه وتربّصوا به الدواهي ليل نهار حتى مضى صلوات الله عليه من
الدنيا شهيداً مظلوماً.
ويكفينا في إثبات شدّة تضييقهم عليه ما نُقل عنه سلام الله عليه، حيث قال:
دخلت على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام
اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا. فقال: يا
غلام، عليَّ بالمائدة. فأكلت معه وأنا أعلم والله إنه يوم من شهر رمضان.
فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يُعبد الله.
(الكافي ج 4 ص 83).
وقد كثر الوشاة على الإمام سلام الله عليه إلى السلاطين الذين كانوا يسخطون
عليه ويسيئون إليه جراء هذه الوشايات؛ يقول محمد بن الربيع الحاجب: قعد
المنصور يوماً في قصره في القبّة الخضراء، وكان له يوم يقعد فيه يسمَّى
ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمد عليهما السلام من
المدينة؛ قال: ثم دعا أبي الربيع فقال له: يا ربيع إنك تعرف موضعك مني
وأني يكون لي الخبر ولا تظهر عليه أمهات الأولاد، وتكون أنت المعالج له.
فقال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله عليّ وفضلِ أمير المؤمنين،
وما فوقي في النصح غاية. قال: كذلك أنت سر الساعة إلى جعفر بن محمد ابن
فاطمة فائتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً مما هو عليه.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله هو العطب إن أتيتُ به على ما
أراه من غضبه قتله، وذهبت الآخرة، وإن لم آت به وأدهنت في أمره قتلني وقتل
نسلي، وأخذ أموالي، فخيّرت بين الدنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدنيا.
قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي:
امض إلى جعفر بن محمد بن علي فتسلّق على حائطه ولا تستفتح عليه باباً
فيغيّرَ بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولاً فائتِ به على الحال التي
هو فيها.
قال: فأتيته وقد ذهب الليل إلا أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم، وتسلّقت عليه
الحائط، فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي، وعليه قميص ومنديل قد
ائتزر به، فلما سلّم من صلاته قلت له: أجب أمير المؤمنين! فقال: دعني أدعو
وألبس ثيابي. فقلت له: ليس إلى تركك وذلك سبيل. قال: وأدخل المغتسل
فأتطَهّر؟ قال: قلت: وليس إلى ذلك سبيل، فلا تغسل نفسك فإني لا أدعك تغيّر
شيئاً. قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان سلام الله عليه
قد جاوز السبعين، فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ، فرحمته فقلت له: اركب،
فركب بغل شاكري كان معنا ثم صرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول له: ويلك يا
ربيع قد أبطأ الرجل، وجعل يستحثّه استحثاثاً شديداً، فلما أن وقعت عين
الربيع على جعفر بن محمد، وهو بتلك الحال بكى وكان الربيع يتشيّع، فقال له
جعفر سلام الله عليه: يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا، فدعني أصلّي ركعتين،
وأدعو. قال: شأنك وما تشاء. فصلَّى ركعتين خفّفهما ثم دعا بعدهما بدعاء لم
أفهمه إلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلما فرغ من
دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور، فلما صار في صحن
الأيوان وقف ثم حرّك شفتيه بشيء ما لم أدر ما هو، ثم أدخلته فوقف بين
يديه، فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل
هذا البيت من بني العباس، وما يزيدك الله بذلك إلا شدّة حسد ونكد ما يبلغ
به ما تقدره. فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من هذا ولقد
كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حقّ
لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفاهم الذي
كان بي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي، وأمسّ الخلق
بي رحماً، وأكثرهم عطاء وبرّاً، فكيف أفعل هذا؟ فأطرق المنصور ساعة، وكان
على لبد وعن يساره مرفقة جرمقانية وتحت لبده سيف ذو فقار كان لا يفارقه إذا
قعد في القبة. قال: أبطلت وأثمت وثم رفع ثني الوسادة، فأخرج منها إضبارة
كتب فرمى بها إليه وقال: هذه كتبك إلى أهل خراسان، تدعوهم إلى نقض بيعتي،
وأن يبايعوك دوني. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك،
ولا هو من مذهبي، وإني لمن يعتقد طاعتك على كلّ حال، وقد بلغتُ من السنّ ما
قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيّرني في بعض جيوشك حتى تأتيني الموت فهو
منّي قريب. فقال: لا ولا كرامة. ثم أطرق وضرب يده إلى السيف فسلّ منه
مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: إنا لله، ذهب والله الرجل، ثم ردّ السيف. ثم
قال: يا جعفر أما تستحيي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل
وتشقّ عصا المسلمين ، تريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الرعية
والأولياء؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما فعلت، ولا هذه كتبي ولا
خطّي ولا خادمي. فانتضى من السيف ذراعاً. فقلت: إنا لله، مضى الرجل، وجعلت
في نفسي إن أمرني فيه، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: أظنّك
صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع كانت فيه في القبّه. فأتيته بها،
فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوءة غالية، وضعها في لحيته، وكانت بيضاء،
فاسودّت. وقال لي: احمله على فاره من دوابّي التي أركبها، وأعطه عشرة آلاف
درهم وشيّعه إلى منزله مكرماً، وخيّره إذا أتيت به إلى المنزل بين المقام
عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله.
فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح بسلامة جعفر سلام الله عليه، ومتعجّب مما
أراد المنصور وما صار إليه من أمره. فلما صرنا في الصحن، قلت له: يا ابن
رسول الله إني لأعجب مما عمد إليه هذا في بابك وما أصارك الله إليه من
كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر الله عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو في عقيب
الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلا أنه طويل، ورأيتك قد حرّكت شفتيك بشيء لم
أدر ما هو؟ فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب والشدائد لم أدعُ به على أحد
قبل يومئذ، جعلته عوضاً من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي لأني لم أترك
أن أدعو ما كنت أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول الله صلى
الله عليه وآله يوم الأحزاب (بحار الأنوار ج 19 ص 291).
بل في بعض الأخبار أن من شدة التضييق على الإمام سلام الله عليه كان الشيعة
والموالون لا يتمكنون من الالتقاء به للسؤال عن أحكام دينهم، ولذا فإنهم
كانوا يتنكّرون حتى يصلوا إليه ويسألوه، ومن ذلك ما نقله هارون بن خارجة
قال: كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا فقالوا: ليس
بشيء، فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله وكان بالحيرة إذ ذاك
أيام أبي العباس. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع
الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله سلام الله عليه وأنا أنظر كيف
ألتمس لقاءه، فإذا سواديّ عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلت له: بكم خيارك
هذا كله؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهماً وقلت له: أعطني جبّتك هذه، فأخذتها
ولبستها وناديت: من يشتري خياراً، ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا
صاحب الخيار، فقال سلام الله عليه لي لما دنوب منه: ما أجود ما احتلت، أي
شيء حاجتك؟ قلت: إني ابتليت فطلّقت أهلي في دفعة ثلاثاً فسألت أصحابنا
فقالوا: ليس بشيء، وإن المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه
السلام فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء. (بحار الأنوار ج 74 ص 171).
ومع أن الإمام سلام الله عليه قاسى ظروفاً شديدة كهذه إلا أنه لم يتوان
لحظة في الدفاع عن التشيع ونصرة الحق، رغم جور السلاطين الذين كانوا
يحبلون له حبائل مكرهم ويكنّون له بالغ حقدهم الدفين، وقبل أن نشير إلى
دور الإمام صلوات الله عليه قبال المذاهب الأخرى لا بأس أن نشير إلى بعض
اعترافات كبار أهل المذاهب و جملة من أئمتهم بفضله سلام الله عليه، فقد
قال مالك بن أنس زعيم المالكية: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه
من سلالة النبيين. (تهذيب التهذيب ج 2 ص 104).
وقال أبو حنيفة عنه سلام الله عليه: ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا
روحانيّ يتجسّد إذا شاء، ويتروّح إذا شاء، فهو هذا. وأشار إلى الصادق سلام
الله عليه. (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 65).
وقال ابن ِأبي العوجاء عنه: جعفر بن محمد هو ذو علم غزير وأدب كامل في
الحكمة وزهد في الدنيا وورع تامّ عن الشهوات وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد
الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق
وأقام بها مدّة، ما تعرّض للإمامة قطّ، ولا نازع في الخلافة أحد، ومن غرق
في بحر المعرفة لم يقع في شطّ، ومن تعلاّ إلى دورة الحقيقة لم يخف من حطّ.
(الملل والنحل ج 1 ص 272).
ومن أبرز الصور التي تجلّى فيها دور الإمام الصادق سلام الله عليه في
الدفاع عن التشيع ما وصلنا عنه في مجابهة أصحاب المذاهب الضالّة في عصره،
ومنهم:
1. الزنادقة: حيث أخذ مجموعة من الملحدين بترويج الشبهات ونشر المغالطات
بين عوامّ الناس ليصدّوهم عن الإسلام وعبادة الله عزّ وجلّ، ومن أشهر
هؤلاء عبدالله بن المقفع وابن أبي العوجاء وأمثالهما من الزنادقة.
وبالرغم من أنهم كانوا يعملون ليل نهار لتضعيف عقائد الناس إلا أن الإمام
الصادق سلام الله عليه كان لهم بالمرصاد، فكان يبطل إدعاءاتهم ويفنّد
شبهاتهم ويكشف زيفها للناس حتى أقرّ الزنادقة أنفسهم بفضيلته سلام الله
عليه؛ ومن ذلك ما نقله أحمد بن محسن الميثمي، قال: كنت عند أبي منصور
المتطبب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد
الله بن المقفع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق؟ وأومأ
بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ
الجالس - يعني جعفر بن محمد عليهما السلام - فأما الباقون فرعاع وبهائم.
فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟
قال: لأني رأيت عنده ما لم أر عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: لا بدّ من
اختبار ما قلت فيه منه. فقال له ابن المقفع: لا تفعل، فإني أخاف أن يفسد
عليك ما في يدك. فقال: ليس ذا رأيك، ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في
إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت. فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت على هذا
فقم إليه، وتحفظ ما استطعت من الزلل، ولا تثن عنانك إلى استرسال يسلمك إلى
عقال، وسمه ما لك أو عليك.
قال: فقام ابن أبي العوجاء ، و بقيت أنا وابن المقفع، فرجع إلينا، فقال:
يا ابن المقفع ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد إذا شاء
ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا. فقال له: وكيف ذاك؟ فقال: جلست
إليه، فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول
هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا، وإن يكن الأمر على ما
تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم أنتم وهم. فقلت له: يرحمك الله وأي
شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً. قال: فكيف يكون قولك
وقولهم واحداً وهم يقولون: إن لهم معاداً وثواباً و عقاباً ويدينون بأن
للسماء إلهاً وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد. قال:
فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه و
يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولِم احتجب عنهم وأرسل إليهم
الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟! فقال لي: ويلك وكيف
احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوّتك
بعد ضغفك، وضعفك بعد قوّتك، وسقمك بعد صحّتك، وصحّتك بعد سقمك ، ورضاك بعد
غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك،
وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إبائك، وإبائك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك،
وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك،
ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن
ذهنك، وما زال يعدّ عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت
أنه سيظهر فيما بيني وبينه. (التوحيد ص 126).
2. الغلاة: الذين أخذوا يتصيّدون في الماء العكر ويستفيدون من شدّة الظروف
القاسية على الشيعة الموالين، فلجؤوا إلى التنفيس عنهم بعقائد ضالّة تبرّأ
الإمام الصادق سلام الله عليه منها.
ومن أبرز زعماء هذه الطائفة محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بابن الخطاب،
الذي كان يقول بألوهية الإمام الإمام الصادق سلام الله عليه، ويدعو الناس
إلى ذلك، إلا أنّ الإمام صلوات الله عليه وقف إزاءَهم موقفاً صارماً. فعن
سدير: قلت لأبي عبد الله سلام الله عليه: إنّ قوماً يزعمون أنكم آلهة يتلون
عليها بذلك قرآناً (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). فقال: يا سدير
سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء بريء، وبرئ الله منهم ورسوله،
ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم
القيامة إلا وهو ساخط عليهم. قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل يقرؤون
علينا بذلك قرآناً (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما
تعملون عليم)، فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء
بريء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، لا يجمعني
الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم وقال: قلت: فما أنتم؟ قال :
نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك
وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء
وفوق الأرض (إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب ج 1 ص 21).
وعن حنان بن سدير، عن سدير، عن أبي عبد الله سلام الله عليه، قال: كنت
جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام وميسر عنده، ونحن في سنة ثماني
وثلاثين ومئة، فقال له ميسر بياع الزطي: جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون
هنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم! قال سلام الله عليه: ومن
هم؟ قلت: أبو الخطاب وأصحابه. وكان متكئاً، فجلس فرفع إصبعه إلى السماء،
ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (خاتمة
المستدرك ج 5 ص 428).
وقد إستمرّ الإمام صلوات الله عليه في محاربتهم حتى فُضحوا بين الناس وخابت
آمالهم وذهبت أتعابهم أدراج الرياح ولم يبق لم ذكر أبداً.
3. أهل القياس: وهؤلاء وإن لم يكونوا في عهد الإمام الصادق سلام الله عليه
كفرقة وجماعة يعتدّ بهم، ولكنهم بمرور الزمن صاروا طائفة كبيرة، ومن أبرز
شخصيات هذه الطائفة أبو حنيفة الذي كان يذهب إلى القياس، وقد انتدب أبو
جعفر المنصور أبا حنيفة كي يناظر الإمام الصادق سلام الله عليه علّه يوفّق
في محاججته. يقول الحسن بن زياد اللؤلؤي: سمعت أبا حنيفة ـ وقد سئل من
أفقه من رأيت؟- قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق، لما أقدمه
المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد،
فهيئ له من المسائل الشداد. فهيأت له أربعين مسألة. ثم بعث إلىّ أبو جعفر
وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه، وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به
دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي المنصور، فسلّمت
عليه.
أومأ إلي فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة.
فقال: نعم. ثم أتبعها: قد أتانا كأنه كره ما يقول فيه قوم: إذا رأى الرجل
عرفه.
قال: ثم التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبدالله مسائلك.
فجعلت ألقي فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا،
ونحن نقول كذا.
فربما تابعَنا وربما خالفَنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة ما أخلَّ
منها بمسألة. (تذكرة الحفّاظ ج 1 ص 157).
وقد كان الإمام صلوات الله عليه يتقّي أحياناً من أبي حنيفة لعلاقته
بالسلطان؛ ففي الخبر عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي عبد الله سلام
الله عليه وعنده أبو حنيفة فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة. فقال لي:
يا ابن مسلم هاتها؛ فإن العالم بها جالس ـ وأومأ بيده إلى أبي حنيفة ـ.
قال: فقلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت عليّ فكسرت جوزاً
كثيراً ونثرته عليَّ، فتعجبت من هذه الرؤيا. فقال: أبو حنيفة أنت رجل
تخاصم و تجادل لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن
شاء الله.
قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت: جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا
الناصب. فقال: يا ابن مسلم لا يسؤك الله، فما يواطى تعبيرهم تعبيرنا، ولا
تعبيرنا تعبيرهم، وليس التعبير كما عبّره. قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك:
أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم حلفت عليه أنه أصاب الخطأ. قال: فقلت
له: فما تأويلها؟ قال: يا ابن مسلم إنك تتمتع بامرأة فتعلم بها أهلك
فتمزّق عليك ثياباً جدداً؛ فإن القشر كسوة اللب. قال ابن مسلم: فوالله ما
كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا إلا صبيحة الجمعة، فلما كان غداة الجمعة أنا
جالس بالباب إذ مرت بي جارية فأعجبتني فأمرتُ غلامي فردَّها ثم أدخلها
داري فتمتعتُ بها فأحسّت بى وبها أهلي، فدخلت علينا البيت فبادرت الجارية
نحو الباب وبقيت أنا فمزّقت عليَّ ثياباً جدداً كنت ألبسها في الأعياد.
(الكافي ج 8 ص 292).
ومع ذلك فإن الإمام سلام الله عليه كان يواجه أبا حنيفة ويتصدّى لانحرافاته
قدر إمكانه؛ يقول ابن أبي شبرمة : دخلت أنا وأبو حنيفة على أبي عبد الله
سلام الله عليه فقال لأبي حنيفة: إتّق الله ولا تقس في الدين برأيك... إلى
أن قال: ويحك أيّهما أعظم، قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس، قال: فإن
الله قد قبل في النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، ثم أيهما أعظم،
الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق الله و لا تقس. (الفصول المهمّة ج 1 ص
533).
وفضلاً عن تصدّي الإمام الصادق سلام الله عليه بنفسه لأهل المذاهب والأفكار
المختلفة فقد ربَّى صلوات الله عليه مجموعة كبيرة من الفقهاء وأهل الكلام
ليذودوا عن التشيع وينصروا العقيدة أمام الحملات الضارية المختلفة التي
كانت تكال إليها، ويكفينا في ذلك ما نقله كثير من المؤرخين عن يونس بن
يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله سلام الله عليه فورد عليه رجل من أهل
الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك. فقال
أبو عبد الله سلام الله عليه: كلامك من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله
أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ومن عندي، فقال
أبو عبد الله: فأنت إذاً شريك رسول الله؟ قال: لا. قال: فسمعتَ الوحي عن
الله عزّ وجلّ يخبرك؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله
صلّى الله عليه وآله؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله سلام الله عليه إليّ
فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم. ثم قال: يا يونس
لو كنت تحسن الكلام كلّمته. قال يونس: فيالها من حسرة. فقلت: جُعلت فداك
إنى سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون، هذا ينقاد
وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال
أبو عبد الله سلام الله عليه: إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا
إلى ما يريدون. ثم قال لي: اُخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلّمين
فأدخله؟ قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان
يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر
وكان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليهما
السلام، فلما استقرّ بنا المجلس - وكان أبو عبد الله سلام الله عليه قبل
الحج يستقرّ أياماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة، قال: فأخرج
أبو عبد الله رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب. فقال: هشام ورب الكعبة.
قال: فظننا أن هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له. قال: فورد هشام
بن الحكم وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا الا من هو أكبر سنّاً منه.
قال: فوسع له أبو عبد الله سلام الله عليه وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه و
يده. ثم قال: يا حمران كلِّم الرجل. فكلَّمه فظهر عليه حمران. ثم قال: يا
طاقى كلّمه. فكلّمه فظهر عليه الأحول. ثم قال: يا هشام بن سالم كلّمه.
فتعارفا، ثم قال أبو عبد الله سلام الله عليه لقيس الماصر: كلّمه. فكلّمه.
فأقبل أبو عبد الله سلام الله عليه يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي.
فقال للشامي: كلّم هذا الغلام - يعني هشام بن الحكم - فقال: نعم. فقال
لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا. فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي: يا
هذا أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربّي أنظر لخلقه.
قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال، أقام لهم حجّة ودليلاً كيلا يتشتتوا أو
يختلفوا، يتألفّهم و يقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم. قال: فمن هو؟ قال:
رسول الله صلّى الله عليه وآله. قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه
وآله؟ قال: الكتاب والسنّة. قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في
رفع الاختلاف عنّا؟ قال الشامي: نعم. قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا
من الشام في مخالفتنا إيّاك؟ قال: فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله سلام
الله عليه للشامي: ما لك لا تتكلّم؟ قال الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت،
وإن قلت: إنّ الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لانهما يحتملان
الوجوه، وان قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحق فلم ينفعنا إذن
الكتاب والسنة إلا أن لي عليه هذه الحجة، فقال أبو عبد الله سلام الله
عليه: سله تجده مليّاً. فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربّهم أو
أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام من
يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت
رسول الله صلى الله عليه وآله أو الساعة؟ قال الشامي: وقت رسول الله صلّى
الله عليه وآله والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذى تشدّ إليه الرحال،
ويخبرنا بأخبار السماء (والأرض) وراثة عن أب عن جدّ. قال الشامي: فكيف لي
أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عمّا بدا لك. قال الشامي، قطعت عذري فعليّ
السؤال. فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: يا شامي، أخبرك كيف كان سفرك؟
وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة.
فقال أبو عبد الله سلام الله عليه: بل آمنت بالله الساعة، إن الاسلام قبل
الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون. فقال الشامي:
صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله صلّى الله
عليه وآله وأنّك وصيّ الأوصياء. (الكافي ج 1 ص 171).
وهكذا كان الإمام الصادق سلام الله عليه يوصل الحقّ للعالم ويكشف لهم
أحقّية التشيع على سائر المذاهب الأخرى، فما أحوجنا اليوم إلى الاقتداء
بنهجه النيّر وسيرته العطرة في بيان أحقيّة التشيع أزاء بقية المذاهب.
|