الإمام الصادق والدعوة الصامتة

 

 

 

قال الإمام الصادق سلام الله عليه لأصحابه:

(أوصيكم بتقوى الله واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وان تكونوا لنا دعاة صامتين).
كان الامام الصادق سلام الله عليه على جانب كبير من رصانة التفكير، وبعد النظر في العواقب، وخبرة فائقة بأحوال الناس ونزعاتهم وميولهم، وعلماً بالظروف ومقتضيات الزمن، فلم يستجب للمحاولات التي كانت تدعوه للحضور وسط المعترك السياسي المائج بالفتن والهائج بالأهواء، ولم يتحول عن منهجه فيغامر بنفسه وبأهل بيته مغامرة عقيمة النتائج، تعود على المجتمع بأخطار جسيمة؛ لذلك كان ينهى أبناء عمه عن القيام بكل نشاط ثوري، لثقته بفشل كل محاولة في ذلك الوقت. فلم يتجاوز في نشاطه الحد الذي يهدم جهوده التعليمية، أو يحول دون متابعة دعوته الإصلاحية، ولو أنه أجاب أبا سلمة أو أبا مسلم لما ندباه إليه، لكان عرضةً لتلك الأخطار التي حلت بغيره ممن عرف بنشاطه الثوري. فكان لتلك الأحداث أثر سييء في نفوس الناس. ولا بد لداعي الإصلاح من أنصار ينصهرون بمباديء الدعوة وأهدافها يشاركونه بذلك الشعور عن نية صادقة وعزيمة ثابتة، لينتصر بهم ويركن إليهم، ويكونوا أعواناً مخلصين يأمنهم في كل خطوة يخطوها بطريق الإصلاح. وكم من إنسان يأمل النصر من أناس، ولكنهم يخذلونه عند حاجته إلى النصر، لعدم اختباره لهم وعدم علمه بأحوالهم، لذلك كان من الحزم تحسس ذلك النوع من الأنصار كما فعل الإمام الصادق، ويظهر أثره في جوابه لأبي مسلم بقوله: ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني. وكذلك قوله لرسول أبي سلمة: ما أنا ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري، فلا يمكنه القيام بثورة دموية وقد عرف عواقبها واتضح للجميع نتائج القيام بها مع علمه بذلك المجتمع الذي أنهكت قواه الحروب المتتالية والثورات المتتابعة.

الامام ينشر الوعي الاسلامي

وقد وجد عليه السلام أن الأمر يدعو إلى الحزم التريث، وأن يتحين الفرص المؤاتية إذ القيام بأمر في غير أوانه لابد وأن يفشل وينهار، فصمم على الاحتفاظ بالاتجاه العلمي، والوقوف موقف المصلح المتسلح بالإيمان بالله، وأن يتحمل الأذى في خدمة الأمة، موجهاً عنايته لتوجيه الناس إلى الدين، ونشر تعاليمه، وبعث الوعي الإسلامي بالقوة الروحية، التي هي أقوى العوامل لتوجيه الإسلام نحو الخير، وقد جعلها الإسلام هي الأساس الوحيد للحياة الدنيا، لأن المجتمع الإسلامي حسب تعاليمه ونظمه لايقوم إلا على الإيمان بالله بعقيدة راسخة، ومنه تنبعث القوة الروحية، لأداء الوجب والشعور بالمسؤولية والتضامن بين الأفراد والتكافل الاجتماعي، وبذلك يسعد المجتمع وينعم أفراده.

فكان الإمام الصادق سلام الله عليه خير داعية للاصلاح لما اتصف به من صدق القول ومثابرة العمل، ولم يقعد به عن ذلك ما لقيه من الأذى وما نزل به من مصائب، فلم تهن عزيمته ولم تفتر همته، بل ثبت في نشر دعوته، وواصل أداء رسالته بالدعوة إلى العمل الصالح وهو دليل رسوخ العقيدة والإيمان بالله.وكلما ازداد الإيمان بالله ازداد العمل الصالح، وبذلك تهون المخاطر التي تحوط دعوة المصلح وتهددها، ويكسبها قوة الصمود، واجتياز العراقيل والعقبات.

وكيف ينجو المصلح من مجابهة الشدائد؟ ومهمته أن يحول بين نفوس الناس وشهواتها، ويباعد بينها وبين ما ألفته من العادات، فمن العسير أن يخلعوا أنفسهم مما هم فيه وأن يمدوا أعناقهم للحق الذي ابتعدوا عنه.

والمصلح يحتاج إلى ثبات فلا يتسرب اليأس إلى نفسه، ولاتهن عزيمته عندما يصطدم بعقبة تعترض سبيل دعوته. ولايحصل ذلك الثبات إلا بقوة الإيمان بالله. وهناك يستطيع أن يوجد أمة تصرخ بوجه الطغاة الذين استبدوا بالحكم، وظلموا العباد وخربوا البلاد (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). فالذين آمنوا بالله حق الإيمان يجاهدون في الله حق جهاده، لتكون كلمة الله هي العليا، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم.

أُسس الدعوة إلى الاصلاح:

اتجه عليه السلام منذ تفرده بالزعامة واستقلاله بمهمة الإمامة إلى الدعوة لله، وقد ألزم دعاة الخير وقادة الصلاح بأن يدعوا الناس بأعمالهم قبل الدعوة لهم بأقوالهم، لأن الناس من شأنهم أن ينظروا أعمال من يدعونهم إلى الخير، فإن رأوا منهم العمل بما يدعونه إليه والوقوف عند حدوده اتبعوهم، وإن رأوا عملهم يخالف قولهم نبذوهم. ولذلك قالوا: إن تأثير العمل على الناس فوق تأثير القول.

وان أمثل قاعدة يسترشد بها في اصطفاء من يتخذه الناس زعيماً لهم وقدوة هي أعماله، فهي التي تجعله أهلا يسلم إليه الناس قيادهم، ويأتمنوه على عقولهم يثقفها ويغذيها، وعلى أخلاقهم يقومها ويزكيها، وإن أثر الحكمة الخلقية تسمع من أفواه الوعاظ أو الدعاة إلى الخير ليس بأكثر منها وهي مسطورة في الكتب، أو منقوشة في الجدار، إذ الأقوال الخالية عن العمل من قبل قائلها تدعو الناس إلى عدم الاعتداد بها؛ لأنهم لايرون أثراً منها على من يأمر بامتثالها. فلهم الحق إذا نفروا عنه. وكان ذلك من جملة العوامل التي دعت الإمام إلى تقرير القيام بالدعوة الصامته كما جاء في وصيته لأصحابه بقوله :«أوصيكم بتقوى الله وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دعاة صامتين».

فوقع هذا القول عندهم موقع الاستغراب. أجل، كيف يكون الداعي للخير صامتاً؟ وكيف يقومون بهذه المهمة وهم لايتكلمون؟ فطلبوا منه إيضاح الإمر وإزالة الاشتباه ليزول الاستغراب فقالوا : يا ابن رسول الله وكيف ندعو ونحن صامتون؟

الدعوة الصامتة هي طاعة الله

قال عليه السلام: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولايطلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فتنازعوا إليه. وبذلك أراد أن تكون الواسطة بينه وبين المجتمع تعكس واقع تعاليمه، وتحبذ منهجه ومبادئه، فركز على أن ينهج أصحابه منهج العمل الصحيح والقول الصادق.

ولم يزل يكرر هذه القاعدة ويلزم أصحابه بالالتزام بها، ويحثهم على العمل بما أمرهم به، وقد ورد عنه كثير من الأقوال بهذا المضمون.

قال أبو أسامة: سمعت أبا عبدالله الصادق يقول: عليكم بتقوى الله والورع والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة وحسن الخلق، وحسن الجوار، وكونوا دعاة لأنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً، ولاتكونوا شيناً.

وقال ابن أبي يعفور: سمعت الصادق يقول: كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم. ليروا منكم الاجتهاد، والصدق، والورع.

فال الإمام الصادق سلام الله عليه كان يحاول أن تكون الدعوة أساسها العمل الصالح والخلق الطيب، فهي أنجع وسيلة لخوض معركة صامتة، تكافح المظالم بكافة أنواعها، وتقف إلى جنب المظلومين، ليظهر بذلك خطأ أولئك الذين اغتصبوا حقوق الأمة وترأسوا على المسلمين، وقد انحرفوا كل الانحراف عن مبادىء الإسلام وتعاليمه.

فالمسلم الذي يتحلى بصفات الإسلام لا يمكنه النفاق ولا المسايرة لذلك الركب المنحرف عن طريق الحق والرشاد.

نعم إنه سلام الله عليه يرى أن الدعوة الإصلاحية بالإقوال والمواعظ الخلقية والاجتماعية لايتحقق أثرها إلا إذا كانت الأعمال مظاهر لها، وأن الاتصاف بتقوى الله واجتناب معاصيه، ومعاملة الناس بعاطفة نبيلة وخلق رفيع، وأداء الأمانة وحسن الصحبة والجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل صفة من صفات الخير والصلاح كما جاء في وصيته، لجدير بأن يكون صاحبها مقبولا قوله مؤثراً بدعوته، لأنه يملك مشاعر أبناء جنسه، فهم يحبونه ويخلصون له بالمودة، وناهيك بما وراء الحب من أثر في تغيير الطباع لاتباع المحبوب.

وقد قرر علماء الاجتماع: أنه لايتم إصلاح لأمة من الأمم أو لشعب من الشعوب إلا إذا أفعمت القلوب حباً للمصلح وطاعة لأوامره.
وإن الاتصاف بالأخلاق الفاضلة والانتصار على النفس ما هو إلا خطوة نحو الثورة الشاملة لجلب قلوب الناس، لمن اتصف بتلك الصفات، وإن المرء إذا استطاع ضبط نفسه وتنظيمها لجدير بأن تنقاد الناس إلى دعوته.

مهمة الداعي

إن مهمة الداعي إلى الله مهمة عظيمة وعليه مسؤولية كبرى، ولا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة من ترمي بهم المصادفات، لأنه ليس كل فرد صالحاً لهذا العمل الشاق، ولا كل فرد قادراً على تحمل أعبائه، فالداعي يجب أن تتوفر فيه صفات عقلية وأخلاقية تخوله أداء واجبه على الوجه المطلوب، إذاً فلا بد لمن يقوم بالنصح أن يتصف بالصبر ومحامده، ويتحمل الأذى وشدائده، فلا يبالي بما يلاقيه من أذى في سبيل أداء رسالته ونشر عقيدته، وأن تكون له برسول الله أسوة حسنة وكل هذا إنما يتفرع عن الإيمان بالله والعمل بطاعته.

وقد تضمنت فقرات تلك الوصية المتضمنة لهذه القاعدة الإصلاحية (الدعوة الصامتة) كل نواحي الخير في الإنسان الدالة على كماله النفساني وهي ثلاثة:
1. الناحية الاعتقادية التي تكمن وراءها القوة الروحية، وعليها تبتني صحة أعماله، وهي تتمثل في إدراكه بصلته بالله، وامتثال أوامره، وتلك القوة هي أعظم أثراً في قيام الإنسان بالعمل. وهذا الإدراك العقلي، أو الشعورالوجداني بصلة الإنسان بالله يجعل الإنسان مدفوعاً إلى العمل بطاعته.

2. ناحية خلقه الفردي وتهذيب نفسه بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، لأن بناء المجتمع الصالح إنما هو بصلاح أفراده، وإعدادهم لأن يكونوا أعضاء صالحين، وتزويد كل فرد منهم بما يجب عليه للأسرة وللمجتمع فإذا صلح الفرد وتهذبت الأسرة صلحت الأمة، واتجهت لسبيل الصلاح.

3. الناحية الاجتماعية التي تنشأ عن مخالطة الناس ومعاشرته لهم من حسن الصحبة، وحسن الجوار، وأداء الأمانة وغيرها، فاذا كملت في الشخص هذه النواحي الثلاثة، كان هو الإنسان الذي يصلح لأن يدعو إلى الخير وسواء السبيل . وعلى هذا فليست العبرة بالصلاح هي المظاهر التي يكون مرجعها القلب، وما قد نواه في ذلك، ولكل امرء ما نوى، فربما يكون الداعي مظهراً للدعوى بطول السجود وكثرة التسبيح، ولكن باطنه غير ظاهره، بل العبرة بالاستقامة ظاهراً وباطناً، وإتيان الأعمال الصالحة التي تنبعث عن النية الصادقة والإيمان، بما يعود على المجتمع بالسعادة في حسن المعاملة مع الناس ولذلك يقول الإمام الصادق سلام الله عليه:

لاتنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك ربما يكون شيء قد اعتاده، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء الأمانة.

والغرض أنه عليه السلام كان حريصاً على توجيه الأمة توجيهاً صحيحاً لتسير إلى المثل الإعلى في الحياة، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى تطبيق نظم الإسلام وتعاليمه. ففي ذلك صلاح المجتمع وسعادته، وأي إصلاح أعظم من نشر دين يهدي الناس إلى المحبة والتعاون والأخوة الصادقة.

الاسلام رحمة للأنسانية

الإسلام هو دين الله الذي أنزله رحمة بالإنسانية المعذبة، فهو دين شامل بتعاليمه يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الظلم والفحشاء، ويجعل المجتمع كنفس واحدة، لأنه يبعث في نفس كل فرد شعوراً يلزمه احترام جميع الأفراد، كما يشعر بأضرار أبناء جنسه وآلامهم، كشعوره بأضرار نفسه وآلامها، ويحس بمنافع أبناء مجتمعه كإحساسه بمنافع نفسه، طبقاً للتعاليم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ومنها :«حب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك».

ويقول الإمام الصادق: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئاً منه وجد ذلك في سائر جسده، إن المؤمن أخو المؤمن هو عينه ودليله، لايخونه ولايظلمه ولايغشه ولايعده عدة فيخلفه».

الإسلام يتناول الحياة كلها بجميع ما تشتمل عليه من تنظيم، وهو يرسم للبشر صورة كاملة لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم في هذه الأرض.

الإسلام يتناول الإنسان فرداً في جميع أحواله يوجهه ويهذبه، ويتناوله وهو يعيش في مجتمعه مع غيره من الأفراد، فأعطى للمجتمع دروساً يبين له كيف تكون الصلات بين أفراده، وكيف تكون العلاقات وتنشأ المودة والإخاء والحب والتكافل والتعاون، ولو نفذ المسلمون دستور دينهم، وساروا على منهاجه وتعاليمه، لكانوا المثل الأعلى للانسانية الراقية، ولسادوا العالم بأسره ولأصبح كل فرد منهم مثالا للفضيلة ورمزاً للكمال.

شخصية الداعي

وصفوة القول إنه سلام الله عليه اتجه إلى الإصلاح بالدعوة للعمل الصالح، لأن العمل الصالح من شأنه أن يحول بين الناس وبين ظلمهم بعضهم بعضاً، وهو أعظم حاجز بينهم وبين الشرور، ومن شأنه أن يهذب النفوس ويطهرها من الخبث، لأنه يربط الإنسان بربه بصلة الإيمان به، فهو يخشاه في سره وعلانيته، ومن كان كذلك فلا يخشى ضرره، ولايقع منه ظلم، ولايصبح أسير شهواته، وصريع أهوائه، ومن كان يدعو الناس إلى دعوة هذا أساسها، فجدير به أن يتحمل الأذى ويصبر على ما يلاقيه من أعداء الحق وأنصار الباطل، فلا يهون لشدة، ولا يضعف لإضطهاد، بل يقابلها بالحزم والعزم، وبقلب لايعرف الضعف إليه سبيلا، ولا يجد الخوف من الناس فيه مكاناً.

فلقد كان سلام الله عليه قوياً في دينه لايهن لشدة، ولا يضعف عند النكبة، بل يتلقى كل ذلك بقلب لايتسرب إليه الضعف، وفؤاد لايتزلزل عند النوازل، وهو قوي الثقة بربه وخالقه، كثير الرجوع إليه في حاجاته ومهماته، يلجأ إليه في كل شدة، وينتصر به على أعدائه، ويرد بالالتجاء إليه كيدهم، وما يريدونه به من سوء وما يدبرون له من مكائد.

ولقد مرت عليه أيام مختلفة تبدلت فيها سياسات، وتقلبت فيها أمور، وشاهد أنواعاً من الحكم وكانت الأيام تبسم له مرة وتعبس أخرى، ويقسو عليه الحكم تارة، ويلين تارة أخرى، وهو يتحمل الأذى ويصبر على المحن، وكيف لايكون كذلك وهو يحمل رسالة الإصلاح وأعظم مصلح عرفه التأريخ في عصره وبعد عصره.كان هدفه تقويم المعوج وإرشاد الضال وتوجيه الشاذ، ليسير بالقافلة في طريق الخير مرحلة إثر مرحلة، ولا تحول دونه ودون عزيمته المخاطر والأهوال، ولا يخشى انفجار مشاعر أعدائه المكبوتة. وغيظهم المتوقد، وقد مر غير مرة محاولة أعدائه للفتك به، والقضاء عليه، وترويج التهم حوله، ولكن الله عصمه ورد كيدهم عنه، ولما حل قضاؤه ولا راد لقضائه نفذ ما أرادوه، وتم ما حاوله من المكيدة . فمضى بعد أن ترك للأجيال دروساً وعبراً لم تكن مقصورة على أتباعه فحسب، بل كانت عامة لجميع الأمة.

ملاحظات حول دعوته الاصلاحية:

1. إن قوله سلام الله عليه: كونوا دعاة صامتين. لم يكن المقصود منه كون الداعي للعمل الصالح صامتاً مطلقاً، لأن ذلك ينافي قوله سلام الله عليه: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايكونان مع الصمت، ولكن المقصود بأن يكون القول مقروناً بالعمل، إذ هو بدونه لغو كما تقدم بيانه، فجعل سلام الله عليه الدعوة بالعمل الصالح قبل الدعوة بالقول.

2. إنه كان يأمر بالإقدام في النصح، وأن لا يحول بين الداعي وبين نشر دعوته خوف ظالم؛ لأن الإمر بالمعروف من أهم فروض الإسلام وأكبر واجباته، إذ هو أساس نشر الحق، وإعلان المبادىء السامية. فيقول في الحث عليه : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلا ولم يبعدا رزقاً. ويقول: ويل لقوم لايدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3. يتجلى لنا أن هذه الدعوة قد وقفت في طريقها عقبات وحواجز، لأن في انتشارها انتشار لمبادىء الإسلام ونظمه وتعاليمه، ولم يبق من وراء ذلك لظالم طمع بالحكم، ولا لمعادي الإسلام من وسيلة يحاربه بها انتصاراً لمبادئه، لذلك فقد أحست العناصر المعادية للاسلام بخطر هذه الدعوة، وإنها بدون شك ستقضي على مآربهم التي من أجلها اندسوا في صفوف المسلمين، وبدون شك انها تهدم آمالهم المعقودة على ذلك التدخل، من إثارة الفتنة وتشويه محاسن الإسلام، عندما يغيرون الحقائق ويقلبون الأوضاع، ولهذا أطلقوا دعاتهم ضد تحقيق هذه الدعوة الإصلاحية، فانتحلوا لأنفسهم حب أهل البيت وأظهروا ولاءهم للامام الصادق، الذي انفرد بزعامة ذلك البيت الطاهر.

وقد تبرأ منهم وأمر بهجرهم . لأن تلك الفئة المعادية للاسلام انطلقت بكل قوة، فاستغلت جهالة العامة ممن لم تساعدهم ظروفهم على الاتصال بأهل البيت، فصدقوا بما ادعاه أولئك المندسين بصفوف الأمة من الغلو في أهل البيت.

4. إن الناس في مقابلة الدعوة الإصلاحية ثلاثة طوائف. فطائفة تتقبل الدعوة وتناصرها ظاهراً وباطناً ويضحون في سبيل مناصرتها، وهم ذوي العقول الراجحة الذين لم تستطع العاطفة أن تسيطر على عقولهم، بل غايتهم اتباع الحق والحق أحق أن يتبع.

وطائفة أخرى تعادي تلك الدعوة ظاهراً وباطناً، مع اتضاح صدق الداعي وظهور حجته، ووضوح برهانه، وهم المعاندون، والمعاند لايقنع بشيء، لأنه لا يطلب حقاً ولا يحيد عن باطل، وإنما هو متعنت يخالف الواقع، ويبعد عن سنن الطريق لخبث في نفسه وفساد في طويته.

وطائفة ثالثة تعادي في الباطن وتناصر في الظاهر وهم المنافقون وهؤلاء أشد ضرراً من الفئة الثانية، وهم المعادون لها ظاهراً وباطناً، لأنهم شاركوهم بتلك الصفات الخبيثة، وقد امتازوا عليهم بالجبن والخور وضعف القلب، فلا يستطيعون أن يصارحوا المصلح بأنهم أعداء له، إذ ليست لهم قابلية للقيام بالجرأة الأدبية، ولاتسمح نفوسهم بأن يظهروا بالمظهر الواقعي، ويتقبلوا تلك الدعوة بقبول حسن عندما يصطدمون بالواقع، لخبث نفوسهم وفساد نيتهم.

5. نظراً لأهمية هذا الموضوع وما يتعلق به، فإن المجال لايتسع للاحاطة بجميع أطراف البحث، وإن للامام الصادق أقوالا كثيرة ومواقف متعددة حول الدعوة بالعمل الصالح، فلذلك اخترنا الوقوف عند هذا الحد من البحث حول الدعوة الصامتة التي قام بها سلام الله عليه في عصر انطلاق الفكر، وازدهار العلم، وهو رئيس أعظم مدرسة إسلامية، وزعيم تلك الحركة العلمية، وكان خير قدوة صالحة في العلم والعمل الصالح، لايفتر عن تعليم الناس وتوجيههم إلي الخير والفضيلة، كما لايفتر عن عبادة الله والعمل بطاعته ويخشاه في سره وعلنه.

وكان موقف الامام سلام الله عليه تجاه حكام الجور هو مقاطعتهم، وقد أمر الناس بالابتعاد عنهم، كما أبعد عنه المتقرب منهم إليه، وحرم الولاية لهم، لأنه عليه السلام يرى أن ولاية الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله.

وكان يحرم معاونتهم حتى في بناء المساجد، لأنهم لايملكون هذه الأموال فلا يقبل منهم العمل فيها حتى في وجه الخير، والإمام سلام الله عليه يهدف بهذه المقاطعة وعدم التعاون مع حكام الجور، الذين ادعوا لحلافة الإسلامية، أن يضيق دائرة نفوذهم، ويوقظ الناس من غفلة اتباع أناس لايليق بهم هذا المنصب؛ لأن المقاطعة لحكام الجور ترغمهم على الاعتدال؛ أو التخلي عن الحكم بدون إراقة دماء، وقد أمر الله تعالى بقوله: «ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار».

فكانت مهمة الإمام الصادق سلام الله عليه تطبيق هذا الأمر، لأنه أنجع وسيلة تنتصر بها الأمم على حكام الجور، الذين يسيرون بغير صواب ويحكمون بغير العدل.

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم