1) الله: آياته في الأنفس والكون
كلها توقع على الحس البشري لتوجيهه إلى هذه الحقيقة
الفاعلة في بنية الكون وبنية الحياة..(20) فهو منه البدء
واليه الانتهاء.. كما في قوله:
ولكل مسيرهُ ولك المطلق تحت الثرى وفوق الفضاء(21)
2) الإنسان:
الإنسان يؤخذ كما هو ولا يؤخذ بعضه ويهمل بعضه حتى ينقلب
عن حقيقته المفضلة إلى حقيقة مشوهة لا يعرف موقعها من
الكون..
إن الإنسان المفضل على كثير من خلق الله، هو هذا الإنسان
كما خلقه الله بجميع دوافعه ونوازعه وأشواقه وشهواته لأن
الله لم يخلق مشوهاً طلب منه تشذيبه وإنما خلق كاملاً طلب
منه الانطلاق في حدود ما خلق له لا في غير حدوده..(22)
كما عبر الشاعر الشهيد بقوله:
نفخ الله روحه في كيان أبجديات :تراب.. وماء
نفخ الله نفخة سميت روحاً بها الروح.. والهدى.. والرجاء
فغدى محور التقاء، تنادى في مداه، الغبراء.. والخضراء
وهو في سكرة التململ ما انقادت ولا استحكمت به الأعضاء
إنه قبل كل شيء... وفيما بعد .. إما هدى .. وإما غثاء(23).
فالإنسان في شعر الشهيد مخلوق أبدعه الله وأشهده منذ كان
في عالم الذر إنما هو عبد لمولاه وقد كتب عليه قصر العمر
وناط به المسؤولية وهو خلال هذه الرحلة قد يرتكس، إلا أن
بإمكانه النهوض والاستقامة من جديد، ويتقلب على الإنسان في
حياته الدنيا شدة ورخاء، وقوة وذبول وليس له في كل ذلك من
الأمر شيء إن هو إلا قضاء واقع وقدر نافذ..
يقول شاعرنا الشهيد:
يا إله الأسماء والآلاء ردني بالبقاء لا بالفناء
أنت ركزتني ملاكاً وشيطاناً.. لا بقى مأرجح إلا رجاء
ويقول في القصيدة نفسها:
إن تراخى اشتكى عناء الرخاء أو تسامى اشتكى ارتفاع
السماء(24)
3) الواقع:
على الأدب أن يصور اللحظات الشفافة واللحظات المعتمة
أيضاً، لأن صراع الجسد حقيقة، وغلبة النوازع الفطرية على
المثل حقيقة، ولكن ارتفاع الإنسان فوق نوازعه الفطرية
حقيقة أيضاً، ومن الخطأ اغتيال حقيقة لمراعاة حقيقة أخرى
بل اللازم جمع الحقائق كلها بلا تمييز حتى يتحقق الواقع
الكامل(25).
يقول شاعرنا الشهيد:
أيها الإنسان يا أصل الضياء أنت – في أصلك – من أصل السماء
لك حالات تعادي ذاتها كصراعات بقاء وفناء
فإذا شئت وقود حارق وإذا شئت ولي الأولياء
فاندمج في الله تغدو عالماً واسعاً.. في مده الدنيا
هباء(26)
4) القدر:
إذا اطمأن الإنسان إلى عدالة القدر وحكمته، لا يرهبه ولا
يتوجس، فلا يرتبك إزاءه ولا يثور، بل يهدأ ويرضى وترتفع
علاقة البغضاء والشحناء بين البشر وبين الله الذي هو مصدر
القدر– تلك العلاقة التي لوثتها الوثنيات القديمة والحديثة
وشوهتها أساطير الإغريق- لتحل محلها علاقة الحب والرضا من
الجانبين (رضي الله عنهم ورضوا عنه)..(27).
5) العقيدة:
يكون الأدب الذي يتحدث عن سبحات العقيدة قمة الآداب
الإنسانية حينما يؤدى أداءً صحيحاً، ولا يعني أنه من
المفروض بالأدب الذي يسير على ضوء العقيدة أن يتحدث دائماً
عن ذات العقيدة نفسها، وإنما نعني أن ينطلق على ضوئها لا
في ظلمات المادية الحيوانية.. وبأن يتخذ من العقيدة
قاعدتها حتى يصور كل شيء بذلك الأسلوب المتفتح الذي تصوره
به العقيدة ليكون أدباً كونياً واسعاً يتكلم كما يتكلم
العالم الواسع الجامع لا كما يلثغ الطفل الساذج
المحدود..(28)
يقول الشاعر الشهيد:
أنا عندي حكمة الإيمان بالله المجيد
أنا عندي فكرة العرفان بالكون العنيد
فهو يفني كل شيء
ما عدا الإنسان والفعل الحميد
فأنشد الإنسان في نفسك تلقى ما تريد
وستبقى وتزيد..(29)
6) العاطفة:
الأدب الإسلامي إنما يكون أكثر واقعية وأصدق تعبيراً من
بقية الآداب لأنه ينبثق من التصور الإسلامي الشامل للكون
والحياة والإنسان، فيفسح المجال للوجدانات البشرية كلها من
مشاعر الجنس وصور الصراع، ومظاهر المحبة والكراهية، ثم
يضعها في مواقعها الخاصة من اللوحة ليرسم في بقية اللوحة
بقية الطاقات والنوازع والأشواق، كما نجد نماذج هذا الأدب
الرائع في القرآن ونهج البلاغة وبقية القطع الأدبية التي
استندت إلى الفلسفة الإسلامية..(30).
7) الجمال:
جمال الإنسان يكون باندماجه في المجموعة الكونية التي
يسودها النظام الدقيق، وحين تكون متوازنة متناسقة مترابطة
متحركة، فإنه الجمال الكامل الذي تقيمه المقاييس الإنسانية
الرفيعة.. والنظرة إلى الجمال الإنساني على هذا المستوى
المستمد من جمال الكون كفيلة بتوسيع المفاهيم الجمالية في
الإنسان وإطلاقها من حدودها الضيقة المعروفة(31)..
ومعلوم إن من واجب الشعراء أن يرتقوا بالمجتمع من حولهم لا
أن يرتكسوا به، ومن يطالع أشعار الشهيد في أغراضه العديدة
والمتنوعة يجده يرسل النصائح تترى لكي يتحلى الناس بمعيار
الإنسان الصالح، ويتجنبوا الارتكاس في خصائص المرء غير
الصالح.. وكان من إسهاماته في هذا المجال الإصلاحي طائفة
من النقد الاجتماعي لبعض الحكام والانشقاق الديني
والانحراف والميل عن الفطرة السوية وغيرها من آفات
المجتمع..
يقول الشاعر الشهيد واصفاً حكام العراق:
الشعب الخائف
والحزب المتورط في الثار
والجيش الجرار بقمقمة السحار
والوزراء الأسرى
ورئيس الجمهورية بالإيجار
هذا كل عراق البعث
وهذا.. ما يطلبه الاستعمار..(32)
ويقول مخاطباً العراق مستتهفاً هممهم وبطولاتهم عبر
التاريخ:
هل ماتت – فيك – تعاليم علي
وحسين؟
هل نسيت ظلمات التاريخ بطولات رجال
الدين؟
من عهد خليل الرحمن إلى شيخ
العشرين
أين المختار؟ فهذا ابن زياد يلتهم الأخضر.. واليابس
كالتنين.. أين رجال البصرة والموصل
أين هتافات العمال.. و(هوسات)
الفلاحين؟
أصبحنا نحلم حتى بالذبح
ونهتف: ألف نعم.. حتى للتوابين
وتنام على السجّين(33)
فهو قد استلهم تلك الأسماء التي حضرت مكاناً لها في ذاكرة
التاريخ فذكر إبراهيم الخليل)عليه السلام( المولود في أور
وكيف قام بتحطيم الأصنام ووقف بوجه طغيان حكامه وسدنة
الشرك والكفر.. مدوراً بالدم الطاهر الذي أريق في محراب
الكوفة ثمناً غالياً لتعاليم الإسلام في سبيل بقائها..
ومثله الإمام الحسين )عليه السلام( في كربلاء حفاظاً على
رسالة جده )صلى الله و عليه و آله و سلم( أمام تحريف
الطواغيت وصولاً إلى ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني
والتي كانت وقفة عز رائعة بوجه الطغيان حمل رايتها رجال
الدين ومن خلفهم كافة فئات الشعب.. ومن الرموز الأخرى في
قصيدته المختار الثقفي الذي أيقظ الثأر الراقد في الضمائر
وحمل سيفه وخرج مطالباً بدم الحسين)عليه السلام( ولم يضع
سيفه في غمده حتى استأصل شأفة جميع من اشترك في قتل
الحسين)عليه السلام(..
فالأدب في معيار الشاعر الشهيد )ينبغي أن يكون عادلاً في
توجيهه فيحارب التصورات والقيم المنحرفة والمسرفة لإقامة
تصورات وقيم عادلة تنبثق من واقع البشر العادل لتوجه واقع
البشر المنحرف أو المسرف(34).. من خلال طرق جميع الأغراض
والمجالات التي تتيح لغة الشعر الدخول إليها فليس هناك ما
هو محظور طالما أنه ينطلق من قاعدة فكرية رصينة لأن هدف
الأدب هو توجيه الحياة وفق القاعدة الفكرية التي انطلق
منها.. لأنه انفجار شاعر ينبثق عن نفس جاشت بشعور معين حتى
الانفجار فلا يكون هنالك باب مغلق على الأدب ولا منطقة
محرمة عليه بل مجاله كل المجالات ومسرحه كل المسارح، لأن
الأدب كالحياة إذ هو مرآتها المعبر عنها فلا يستوعبه مذهب
معين ولا هدف خاص((35).