في 17 تموز عام 1967م نزت على السلطة في بغداد عصابة
من البعثيين العفالقة، يتزعمهم أحد أبرز مجرمي العصابة وهو الطاغية صدام.
وقتها اختلف (المعنيون) في فهم هذه الزمرة، إما جهلاً
بأصولها وعدم معرفة صحيحة بخططها وأهدافها ودوافعها، وإما للا أباليتهم وعدم
اكتراثهم بما يجري في القصر الجمهوري بالعاصمة بغداد، وإما خوفاً من العواقب
غير المحمودة فكان شعار الأغلبية (ما لنا والدخول بين السلاطين) أو القول
المشهور:)الصلاة خلف علي أتم، والقصعة مع معاوية ادسم، والوقوف على التل
أسلم(، وهذا ما كان يرقص له طرباً الحكام الجدد.
أما الشهيد الشيرازي، فقد نجح في تحديد هوية العصابة
وأهدافها بكامل الوعي ونفاذ البصيرة، بالرغم من أن العصابة حاولت في البداية
التستر على هويتها الحقيقية والتخفي وراء شعارات وأسماء وعناوين مختلفة، إلا
أن الشهيد لم ينطل عليه كل ذلك، ولذلك تعامل مع العهد الجديد باستراتيجية
واضحة داعياً الآخرين وعموم الشعب العراقي إلى التصدي الفوري لهذه الزمرة،
اليوم وقبل فوات الأوان، لأنها في بداية الرحلة تكون ضعيفة القوى غير منسجمة
التركيب ومراكز القوى، قد تفجرها التناقضات في أية لحظة، والانقلابيون اللصوص
عادة ما ينشغلون بأنفسهم في بداية سيطرتهم على الحكم حتى إذا صفّى القوي منهم
الضعيف واستتبّت له دعائم الحكم، تفرغ للشعب وقواه المخلصة والواعية
والحقيقية الرافضة لهذه الطريقة في الحكم والسلطة، فكان كل أمل الشهيد أن
يتحرك ويحرك معه الشعب ضد السلطة قبل أن يستفحل أمرها وتتفرغ لهم، ولكن للأسف
الشديد لم يكن الوعي الجماهيري بمستوى التصدي فحصل ما حصل، فقد صفّى الرفاق
بعضهم بعضاً بسرعة البرق وخرج الطاغية صدام أقوى، ليتجه صوب النجف وكربلاء
باعتبارهما مصدراً للإزعاج الأول والأهم الذي يقلق سلطته، فبدأ حملته الشعواء
ضد الحوزات والمراجع والفقهاء والعلماء والمثقفين والكتاب والخطباء والأدباء،
مبتدئاً حملته بأنشط رجلين وأخطر الموجودين آنئذ وهما الشهيد السيد حسن
الشيرازي في كربلاء والشهيد السيد مهدي الحكيم في النجف، لما كانا يمثلانه
كذلك من امتداد مرجعي خطير على السلطة، الأول متمثلاً بمرجعية الإمام السيد
محمد الشيرازي وهي المرجعية الحضارية الناشطة والمجددة والمتجددة والناهضة
التي كانت وقتها تواصل امتدادها بخطى استراتيجية ثابتة ومدروسة، والثاني
ممثلاً بمرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، وهي المرجعية العليا آنئذ، وكأن
النظام أراد أن يقضي على المرجعية بشكل كامل من خلال القضاء على الجذر
والغصن.
وكانت خطة الشهيد التحذير من:
أولاً: الأحزاب
المنحرفة التي صدرها لنا الغرب ومنها الحزب العفلقي بقوله:
كم ذا جنى الأذناب والأحزاب فلتسقط الأحزاب والأذناب
لا توجد الأحزاب في أوطاننا فمـناورات تلك أو ألعاب
ثانياً: الحزب العفلقي
على وجه التحديد من خلال الكشف عن جذوره وارتباطاته الاستعمارية المعادية
للشعب والأمة ولقيمهم ومقدساتهم وتاريخهم وتراثم بقوله:
لو لم يكونوا ملحدين لما رضوا بالمشـركين وفـيهم
دخلاء
لكـنهم راحـوا قـيادة عـفلق إذ لـم يـكن فيه لـه
أكفاء
أوَليس قد سـماه يـعرب عفلقاً ولديه أحـقاد الصليب
دماء
وأبوه جاء لسـوريا مسـتعمراً والأم بـاريسـية عجـماء
ثالثاً: القيادات
المنحرفة وشد الشعب إلى قياداته الحقيقية والأصيلة بقوله:
وزعيمنا الـكدار لا ميـشيل لا ماركس لاالقسيس لا
الحاخام
وكذا قوله مخاطباً الإمام أمير المؤمنين )عليه
السلام( في ذكرى مولده المبارك في 13 رجب:
فالشعب نحن وأنت أنت إمـامنا ورعاتنا (العلماء)
لا(العملاء)
رابعاً: دعوته الصريحة
والواضحة للتصدي لهذه الزمرة من دون خوف أو تردد، ومن دون التلفّع بعباءة
التقية لأنه كان يرى وبنظرة المتيقن بأن الظروف التي تمر بالعراق خطيرة جداً
لا تتحمل السكوت أو التريث أو الانتظار أو التردد فكان يرى وجوب العمل السريع
والتحرك المباشر، وإلا فإن الأيام القادمة حبلى بأعظم المخاطر وأشدها ليس على
الشعب العراقي فحسب وإنما على الأمة وعلى الإسلام على حد سواء، و لذلك وقف
يدعو الجميع للتحرك الفوري على هدى الإسلام ومجده بقوله:
أمل الشعوب ومجدها الإسلام وسـواه كفـر زائف وظلام
فدع المبادئ كلـها في معزلٍ إن المـبـادئ كلـها
هـدّام
واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً إن الـعقيدة مصحف وحسام
واسحق جباه المـلحدين مردداً لا السجن يرهبني ولا
الاعدام
والبيت الأخير إشارة إلى شراسة المواجهة من جانب
والاستعداد التام لكل الاحتمالات التي قد يواجهها المرء في مثل هذه المواجهة
من جانب آخر، لمعرفته بمدى إرهابية وعدوانية العصابة الجديدة التي لم تتورع
عن ممارسة أي شيء من أجل الاحتفاظ بالكرسي، وبالفعل فلقد أثبت الشهيد أن
السجن والتعذيب بكل أشكاله وألوانه وأحكام الإعدام التي صدرت بحقه، إن كل ذلك
لم يثنه عن المضي في مسيرته الجهادية الصالحة.
وكان الشهيد قد أطلق رؤيته هذه ووضعها أمام الجميع
ليتحملوا المسؤولية بعد أن قرأ خريطة المستقبل برؤية استراتيجية كان يرى
فيها:
أرض العراق مجازر ومآتم والرافدان مدامـع ودماء
خامساً: وكانت أروع
رؤاه الاستراتيجية بهذا الصدد قوله:
ويل العراق فليله لا ينقضي حتى تقوم حكومة الإسلام
والذي حدد فيه الخط العام الصحيح الذي يلزم الجهاد
والنضال من أجل تحقيقه كمشروع استراتيجي لحل قضية العراق بشكل جذري ومن دون
ترقيعات لا تغني ولا تسمن.
ومن هنا نفهم أن رؤية الشهيد للعراق كانت استراتيجية
عميقة، خاطب فيها الشعب قبل أي واحد آخر من خلال تأسيسه لمشروع احتفالات مولد
الإمام علي بن أبي طالب )عليه السلام( الجماهيري، ليحمّله المسؤولية كاملة
باعتباره المعني قبل أي واحد آخر خاصة بعد أن رأى عزوف البعض عن تحمل
مسؤولياتهم الإنسانية والإسلامية والوطنية، حتى لا تبقى حجة لأحد من الناس
يتهرب من خلالها من المسؤولية لائماً الآخرين مبرّءاً نفسه بحجة جهله بالأمور
وعدم معرفته وإطلاعه على حقائق الأمور والقضايا والتي تمر بها الساحة
والساعة. |