كان كل شيء هادئا والصمت يقرع آذان الوافدين
الجدد إلى (مدرسة الإمام المهدي (عج) الدينية)، وضعنا أمتعتنا عند باب
الإدارة وانتظرنا تسجيل أسمائنا في سجل المدرسة، وكنا على التوالي:
ثلاثة من حلب (سوريا)، واحد من إيران، أربعة
من بيروت، خمسة من الجنوب، ستة من البقاع، سبعة من طرابلس،
في الصباح الباكر لليوم الثاني أيقظنا ناظر
المدرسة وقال هيا هبوا إلى الصلاة، إن السيد الشيرازي هنا وهو صاحب المدرسة
ويريدكم في قاعة المدرسة جميعاً، وعلى باب القاعة وقفت لأشاهد السيد الشيرازي
جالساً في صدر القاعة، فاقتربت منه وأنا أنظر إليه بوقار وهيبة وقد تمثل لي
كأنه من زهاد القرون الأولى، تسمّرت في مكاني حياءً وخوفاً وقلت السلام عليكم
يا مولانا، فردّ علي السلام ثم اقتربت منه فأخذت يده وقبلتها وبعد الصلاة بقي
في المدرسة من الخامسة حتى السابعة يتفقد أحوالنا ويلاطفنا ويحاورنا.
وبعد أيام اكتمل نصاب الأساتذة، وكان السيد
حسن الشيرازي يعلمنا الفقه والمنطق، وكان لكل أستاذ شخصية ونفسية، وكل واحد
منهم يختلف عن الآخر بالوعي والفهم والإدراك وكلهم يرجعون في أمورهم الدينية
والدنيوية إلى السيد (رحمه الله).
كنا نتسابق مع الزمن لخلق جيل جديد دأب السيد
الشيرازي على تنشئته وتحضيره ليقدمه إلى المجتمع، كان كل شيء على نفقة
المدرسة فهي بالفعل مسؤولية كبيرة حملها السيد الشيرازي على عاتقه.
لقد كان برنامج الدرس مكثفاً بشكل غير طبيعي،
والسيد الشيرازي لم نعد نشاهده إلا مرة في الأسبوع وذلك نهار الأربعاء أو قل
ليلة الأربعاء حيث كنا نذهب إلى بيته في (الشيّاح) لنأخذ درس المنطق، وعددنا
ثمانية تلاميذ أو تسعة على الأرجح، كنا صغاراً على الفهم، ورغم جهلي بطبيعة
ما يدور وما أشاهد كنت قلقاً مشدوداً بكل كياني لكل هذه الحركات، لقد نضج
عقلي فجأة وسمت في داخلي معرفة الأشياء، ولم أعرف سر تلك الدهشة إلا بعد
أعوام!!.
وذات مرة تحاورت مع نفسي لعلي أستطيع الإجابة
على هذه التساؤلات فقلت: يا ترى لماذا يقدم السيد الشيرازي على هذه التضحية
الكبيرة؟!، ما هي الدوافع وما هي الأهداف؟ وما معنى أن يبذل العلم مجاناً لكل
طلاب العلم، وهل هناك أناس يفكرون على طريقته؟ وهل الدين الإسلامي أغرقه في
بحر المحبة وتاه في ظلال العطاء فكان يعطي بلا ثمن ولا يطلب جزاءً ولا
شكورا؟.
عطاؤه كان يخترق الحدود والآفاق ليخضع
الإنسان والواقع إلى تجربة دقيقة مدروسة، ربما نجحت ونجح معها في حركته
وإحساسه، لكني كنت بالرغم من هواجسي اقرأ كل مقومات التحدي والصمود التي
تتجلى في عينيه.
ولم يقتصر نشاطه(رحمه الله) على مدرستنا، بل
كان يوزع جهوده يميناً وشمالاً، ولقد سألته ذات مرة ونحن في داره، فقلت له:
يا مولانا ألا تستريح؟ ففي النهار عمل وفي الليل عمل أليس لجسدك عليك حق؟،
قال لي:
(الإنسان لم يخلق في هذا الكون للراحة، وغداً
سوف نموت ونخلد إلى الراحة الأبدية، وأما اليوم فعمل وعلينا أن نتغلب بوعينا
وبمعرفتنا على كل الأشياء كي تنتصر فينا تجربة الروح المدفونة في هذا الجسد،
على المادة، فالكون بما فيه، صراع بين الروح والمادة، بين الحق والباطل
والإنسان هو الفارس الجلي في هذه الحلبة، إما أن ينتصر فيرتقي وإما أن يستسلم
لمغريات المادة فيفشل في تجربته ويخضع لشهوات المادة والنفس وينتهي روحاً
وجسداً).
صدمتني هذه اللغة وهذه الرؤية العميقة التي
يكتمها، ورحت أتحدث مع نفسي ترى أي روح تختبئ خلف هذا الجسد النحيل الرقيق؟!.
سألت الأستاذ (كمال) ناظر المدرسة عن السيد
حسن الشيرازي، قال لي:
إن السيد حسن الشيرازي هو واحد من أربعة أخوة
كلهم علماء ومجتهدون، يأتي السيد محمد الشيرازي المرجع الأعلى بالمرتبة
الأولى، والسيد حسن بالمرتبة الثانية، ومن ثم السيد صادق والسيد مجبتى
الشيرازي، وهذه العائلة ورثت المجد والفضيلة عن سلالة عريقة بالشرف والكمال
والمؤهلات العلمية، وقد نشأ السيد حسن على غرار المواهب الفذة التي تمتلك
قدرات عالية، درس وحصّل من العلم ما يجعله في عداد المجتهدين في سن مبكرة.
وكان أحد الرجال الذين وقفوا وجهاً لوجه
وعارضوا بشدة السلطة العراقية الحاكمة، وحيث كتب في كل الجرائد والمجلات
مهاجماً ومندداً بطغيان وتجاوزات الحكام في بغداد، فاعتقل وتعرض لمختلف
أساليب التعذيب والتنكيل، ولم يطلق سراحه إلا منذ فترة وجيزة، وأذكر أنه
أنشدني أحد الأبيات الشعرية قبيل اعتقاله:
واسحق جباه المعتدين مردداً لا السجن يرهبني
ولا الإعدام
إن السيد حسن ذكر لنا بعضاً من هذه الذكرى
المؤلمة، قال:
(كان عندي الكثير من المؤلفات التي أتلفتها
المخابرات العراقية الذين كانوا يداهموننا في الليل والنهار في الصباح
والعشاء لا يستقرون على حال ولا يهدأ لهم بال سعياً وراء خنق صوت الحق، وكان
لدي مجموعة من كتب المنطق وهي من تأليفي أحرقوها وأتلفوها وأنا أنظر إليهم).
لم يكن(رحمه الله) ينتبه إلى راحة جسده ولم
تقلقه سويعات الغد بل يبقى مبتسماً ضاحكاً رغم كل الآلام التي كانت تعتصر
جسده النحيل.
فالشهيد الشيرازي لم يكن عالماً وأديباً
وشاعراً وفقيهاً فحسب بل كان مجاهداً وثائراً ضد الظلم والطغيان. |