( 700 )


وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاُْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ(1)، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ.
     وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاِْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالاِْلْحَافِ(2)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاِْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ(3) الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ(4) لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.
     وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ(5) عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ(6) النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ
____________
     1. يجحِف برضى الخاصة: يذهب برضاهم.
     2. الالحاف: الالحاح والشدة في السؤال.
     3. جِماع الشيء ـ بالكسر ـ : جمعه، أي جماعة الاسلام.
     4. الصِغْو ـ بالكسر والفتح ـ : الميل.
     5. أشنؤهم: أبغضهم.
     6. الاطلب للمعائب: الاشد طلباً لها.


( 701 )


مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.
     أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد(1)، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر(2)، وَتَغَابَ(3) عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ(4) لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ(5) غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.
     وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ(6)، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ(7)، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الاُْمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ(8) بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ
____________
     1. أطلق عقدة كل حقد: احلل عقد الاحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم.
     2. الوِتْر ـ بالكسر ـ : العداوة.
     3. تَغَابَ: تغافَلْ. 4. يَضِح: يظهر، والماضي و َضَحَ.
     وفي بعض النسخ: يَصِحُّ
     5. الساعي: هو النمام بمعائب الناس. 6. الفضل ـ هنا ـ : الاحسان بالبذل.
     7. يَعِدُك الفقر: يخوفك منه لو بذلت.
     8. الشّرَه ـ بالتحريك ـ : اشد الحرص.


( 702 )


الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ(1) شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.
     شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلاَْشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الاْثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً(2)، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَْثَمَةِ(3)، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ(4)، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ(5) وَأَوْزَارِهِمْ(6) وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً(7)، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لاَِوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ.
    
____________
     1. غرائز: طبائع متفرقة.
     2. بِطانة الرجل ـ بالكسر ـ : خاصته، وهو من بِطانة الثوب خلاف ظهارته.
     3. الاثمة: جمع آثم، وهو فاعل الاثم أي الذنب.
     4. الظّلَمَة: جمع ظالم.
     5. الاصار: جمع إصر بالكسر، وهو الذنب والاثم. 6. الاوزار: جمع وِزْر، وهو الذنب والاثم أيضاً.
     7. الالف ـ بالكسر ـ : الالفة والمحبة.


( 703 )


وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ(1) عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ(2) بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ(3)، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ(4).
     وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لاَِهْلِ الاِْحْسَانِ فِي الاِْحْسَانِ،تَدْرِيباً لاَِهْلِ الاِْسَاءَةِ عَلَى الاِْسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ.
     وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَال بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ(5)، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً(6) طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ
____________
     1. رُضْهُم: أي عوّ دهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك.
     2. لا يُبجّحُوك: أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته.
     3. الزَهْو ـ بالفتح ـ : العُجْب.
     4. تدني: أي تقرب. والعزة ـ هنا ـ : الكِبْر.
     5. قِبَلَهُمْ ـ بكسر ففتح ـ أي: عندهم.
     6. النَصَب ـ بالتحريك ـ : التعب.


( 704 )


حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ(1).
     وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَاجْتَمَعتْ بِهَا الاُْلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ،لاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيء مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الاَْجْرُ بِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.
     وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ(2) الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.
     وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ،مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الاِْنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ(3)، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ(صلى الله عليه وآله)عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً.
     فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَْمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ.
    
____________
     1. ساء بلاؤك عنده: البلاء ـ هنا ـ الصنع مطلقاً حسناً أوسيئاً.
     2. المنافثة: المجالسة
     3. سهمه: نصيبه من الحق.


( 705 )


ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهَادِ عَدُوِهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيَما أصْلَحهُمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ(1).
     ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ(2)، وَيَجْمَعُونَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الاُْمُورِ وَعَوَامِّهَا.
     وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ(3)، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ(4) بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ.
     ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ(5) وَمَعُونَتُهُمْ.
     وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ.
    
____________
     1. يكون من وراء حاجتهم: أي يكون محيطاً بجميع حاجاتهم دافعاً لها.
     2. المعاقد: العقود في البيع والشراء وما شابههما مما هو شأن القضاة.
     3. المرافق: أي المنافع التي يجتمعون لاجلها.
     4. الترفق: أي التكسب بأيديهم ما لا يبلغه كسب غيرهم من سائر الطبقات.
     5. رِفْدهم: مساعدتهم وصلتهم.


( 706 )


[وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذلِكَ إِلاَّ بِالاِْهْتَِمامِ وَالاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيَما خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ].
     فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلاِِمَامِكَ، [وَأَنْقَاهُمْ ]جَيْباً(1)، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً(2) مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى(3) الاَْقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ.
     ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاَْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ(4)، وَشُعَبٌ(5) مِنَ الْعُرْفِ(6).
    
____________
     1. جيب القميص: طوقه; ويقال: تقي الجيب، أي: طاهر الصدر والقلب.
     2. الحِلم ـ هنا ـ : العقل.
     3. ينبو عليه: يتجافى عنهم ويبعد.
     4. جماع من الكرم: مجموع منه.
     5. شُعب ـ بضم ففتح ـ : جمع شعبة.
     6. العُرف: المعروف.


( 707 )


ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ(1) فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً(2) تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ.
     وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ.
     وَلْيَكُنْ آثَرُ(3) رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ(4) فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ(5) مِنْ جِدَتِهِ(6) بِمَا يَسَعُهُمْ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ(7)،
____________
     1. تفاقم الامر: عظم، أي لا تعدّ شيئاً قويتهم به غاية في العظم زائداً عما يستحقون، فكل شيء قويتهم به واجب عليك اتيانه، وهم مستحقون لنيله.
     2. لا تحقرَنّ لطفاً: أي لاتعد شيئاً من تلطفك معهم حقيراً فتتركه لحقارته، بل كل تلطف ـ وإن قل ـ فله موقع من قلوبهم.
     3. آثر: أي أفضل وأعلى منزلة.
     4. وَاسَاهُمْ: ساعدهم بمعونته لهم.
     5. أفضل عليهم: أي أفاض.
     6. الجِدَة ـ بكسر ففتح ـ : الغنى.
     7. خلوف أهليهم: جمع خَلْف ـ بفتح وسكون ـ وهو من يبقى في الحي من النساء والعَجَزَة بعد سفر الرجال.


( 708 )


حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ.
     [وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ،] وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ(1) عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ.
     فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلى ذَوُوالْبَلاَءِ(2) مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ(3)، إِنْ شَاءَ اللهُ.
     ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِىء(4) إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىء إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَضَعَةُ امْرِىء إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ يَلاَئِهِ
____________
     1. حِيطة ـ بكسر الحاء ـ : من مصادر حاطة، بمعنى حفظه وصانه.
     2. ذووالبلاء: أهل الاعمال العظيمة.
     3. يحرض الناكل: يحث المتأخر القاعد.
     4. بلاء امرىء: صنيعه الذي أبلاه.


( 709 )


مَاكَانَ عَظيِماً.
     وَارْدُدْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ(1)، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الاُْمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللهُ سبحانه لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ: الاَْخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ(2)، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ: الاَْخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.
     ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ(3)، وَلاَ يَتَمادَى(4) فِي الزَّلَّةِ(5)، وَلاَ يَحْصَرُ(6)مِنَ الْفَيْءِ(7) إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ(8) عَلَى طَمَع،
____________
     1. ما يُضْلِعُك من الخطوب: ما يؤودك ويثقلك ويكاد يُمِيلك من الامور الجسام.
     2. مُحْكَم الكتاب: نصّه الصريح.
     3. تمحّكه الخصوم: تجعله ما حقاً لجوجاً، يقال: مَحَك الرجل ـ كمنَعَ ـ إذا لجّ في الخصومة، وأصرّ على رأيه.
     4. يتمادى: يستمر ويسترسل.
     5. الزَلّة ـ بالفتح ـ : السقطة في الخطأ.
     6. لا يَحْصر: لا يعيا في المنطق.
     7. الفيء: الرجوع إلى الحق.
     8. لا تشرف نفسه: لاتطلع. والاشراف على الشيء: الاطلاع عليه من فوق.


( 710 )


وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ(1)، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ(2)، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً(3) بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ(4) عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ(5)، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ،أُولئِكَ قَلِيلٌ.
     ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ(6) قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ(7) مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ
____________
     1. أدنى فهم وأقصاه: أقربه وأبعده.
     2. الشبهات: ما لا يتضح الحكم فيه بالنصّ، وفيها ينبغي الوقوف على القضاء حتى يرد الحادثة إلى أصل صحيح.
     3. التبرم: الملل والضجر. 4. أصرمهم: أقطعهم للخصومة وأمضاهم.
     5. لا يزدهيه إطراء: لا يستخفه زيادة الثناء عليه.
     6. تعاهده: تتبعه بالاستكشاف والتعرف.
     7. افسح له في البذل: أي أوْسِع له في العطاء بما يكفيه.


( 711 )


خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ.
     فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً، فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَْشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا.
     ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً(1)، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً(2) وأَثَرَةً(3)، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ(4).
     وَتوَخَّ(5) مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ(6) فِي الاِْسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاُْمُورِ نَظَراً.
     ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاَْرْزَاقَ(7)، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ
____________
     1. اسْتَعْمِلْهُمْ اختباراً: وَلِّهم الاعمال بالامتحان.
     2. محاباة: أي اختصاصاً وميلاًمنك لمعاونتهم. 3. أثَرَة ـ بالتحريك ـ أي: استبداداً بلا مشورة.
     4. فإنهما جماع من شُعَب الجور والخيانة أي: يجمعان فروع الجور والخيانة.
     5. توخّ: أي اطلب وتحرّ أهل التجربة.
     6. القَدَم ـ بالتحريك ـ : واحدة الاقدام، أي الخطوة السابقة، وأهلها هم الاولون. 7. أسبغ عليه الرزق: أكمله وأوسع له فيه.


( 712 )


ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ(1).
     ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ(2) مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُِمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ(3) عَلَى اسْتِعْمَالِ الاَْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ.
     وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَْعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.
     وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.
     وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ(4) الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة
____________
     1. ثلموا أمانتك: نقصوا في أدائها أوخانوا.
     2. العيون: الرقباء.
     3. حَدْوَة: أي سَوق لهم وحثّ.
     4. في بعض النسخ: بالجيم والحاء والخاء.


( 713 )


أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.
     فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً(1)، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب(2) أَوْ بَالَّة(3)، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض(4) اغْتَمَرَهَا(5) غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ(6)، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ، وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ(7) بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ(8) فِيهِمْ، مُعْتَمِداً
____________
     1. إذا شكوا ثِقَلاً أوعلّة: يريد المضروب من مال الخراج أو نزول علة سماوية بزرعهم أضرت بثمراته.
     2. إنقِطاع شِرْب ـ بالكسر ـ أي: ماء تسقى في بلاد تسقى بالانهار.
     3. إنقطاع بالّة: أي ما يبلّ الارض من ندى ومطر فيما تسقى بالمطر.
     4. إحالة أرض ـ بسكر همزة إحالة ـ أي: تحويلها البذور إلى فساد بالتعفن. 5. اغتمرها: أي عمها من الغرق فغلبت عليها الرطوبة حتى صار البذر فيها غمقاً ـ ككتف ـ أي له رائحة خمة وفساد.
     6. أجحف العطش: أي أتلفها وذهب بمادة الغذاء من الارض فلم ينبت.
     7. التبجح: السرور بما يرى من حسن عمله في العدل.
     8. استفاضة العدل: انتشاره.


( 714 )


فَضْلَ قُوَّتِهِمْ(1)، بِمَا ذَخَرْتَ(2) عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ(3) لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فِي رِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاُْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاَْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ(4) أَهْلِهَا،إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ(5)، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.
     ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الاَْخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ(6) الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِىءَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ(7)،
____________
     1. معتمداً فضل قوتهم: أي متحداً زيادة قوتهم عماداً لك تستند اليه عند الحاجة.
     2. ذَخَرت: وفّرْت.
     3. الاجْمام: الترفيه والاراحة.
     4. الاعْواز: الفقر والحاجة.
     5. إشراف أنفسهم على الجمع: لتطلع أنفسهم إلى جمع المال، ادخاراً لما بعد زمن الولاية إذا عزلوا.
     6. لا تُبْطِره: أي لا تطغيه.
     7. ملا: جماعة من الناس تملا البصر.


( 715 )


وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ(1) عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ(2)، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ(3)، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفسِهِ فِي الاُْمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.
     ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ(4) وَاسْتِنَامَتِكَ(5) وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ(6) بِتَصَنُّعِهِمْ(7) وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، لَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَْمَانَةِ شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا
____________
     1. لا تُقصر به الغفلة: أي لا تكون غفلته موجبة لتقصيره في اطلاعك على ما يرد من أعمالك، ولا في إصدار الاجوبة عنه على وجه الصواب.
     2. عَقْداً اعْتَقَدَه لك: أي معاملة عقدها لمصلحتك.
     3. لايعجز عن إطلاق ما عُقِد عليك: إذا وقعت مع أحد في عقد كان ضرره عليك لا يعجز عن حل ذلك العقد.
     4. الفِراسة ـ بالكسر ـ : قوة الظن وحسن النظر في الامور.
     5. الاستنامة: السكون والثقة.
     6. يتعرفون لفراسات الولاة: أي يتوسلون اليها لتعرفهم.
     7. بتصنعهم: بتكلفهم إجادة الصنعة.


( 716 )


وَلُوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لاَِحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالاَْمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لله وَلِمَنْ وَلِيتَ أَمْرَهُ.
     وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ(1) عَنْه أُلْزِمْتَهُ.
     ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ(2)، وَالْمُتَرَفِّقِ(3) بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ(4)، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ(5)، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا(6)، وَلاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ
____________
     1. تغابيت: أي تغافلت.
     2. المضطرب بماله: المتردد به بين البلدان.
     3. المترفّق: المكتسب.
     4. المَرَافِق: ما ينتفع به من الادوات والانية.
     5. المطارح: الاماكن البعيدة.
     6. لايلتئم الناس لمواضعها أي: لا يمكن التئام الناس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق من تلك الامكنة.


( 717 )


سِلْمٌ(1) لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ(2)، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ.
     وَاعْلَمْ ـ مَعَ ذلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً(3) فَاحِشاً، وَشُحّاً(4) قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً(5) لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ.
     وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ(6)، فَمَنْ قَارَفَ(7) حُكْرَةً(8) بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ(9)،
____________
     1. أنهم سِلْم: أي أن التجار والصناع مسالمون.
     2. البائقة: الداهية.
     3. الضيق: عسر المعاملة.
     4. الشحّ: البخل.
     5. الاحتكار: حبس المطعوم ونحوه عن الناس لا يسمحون به إلا بأثمان فاحشة.
     6. المبتاع ـ هنا ـ : المشتري.
     7. قارف: أي خالط.
     8. الحُكْرَة ـ بالضم ـ : الاحتكار.
     9. نَكّل: أي أوقع به النكال والعذاب، عقوبة له.


( 718 )


وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إِسْرَاف(1).
     ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى(2) وَالزَّمْنَى(3)، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً(4) وَمُعْتَرّاً(5)، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ(6) مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ(7) صَوَافِي(8) الاِْسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ لِلاَْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَْدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ
____________
     1. في غير إسراف: أي من غير أن تجاوز حد العدل.
     2. البؤسى ـ بضم أوله ـ : شدة الفقر.
     3. الزَمْنَى ـ بفتح أو له ـ : جمع زمين وهو المصاب بالزَمانة ـ بفتح الزاي ـ أي العاهة، يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.
     4. القانع: السائل. 5. المُعْترّ ـ بتشديد الراء ـ : المتعرض للعطاء بلا سؤال.
     6. اسْتَحْفَظَك: طلب منك حفظه.
     7. غَلاّت: ثمرات.
     8. صوافي الاسلام: جمع صافية، وهي أرض الغنيمة.


( 719 )


عَنْهُمْ بَطَرٌ(1)، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ(2) لاِِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ.
     فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ(3) عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ(4)، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ(5)، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لاُِولئِكَ ثِقَتَكَ(6) مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالاِْعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى(7) يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الاِْنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.
     وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ(8) مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ، وَلاَ يَنْصِبُ
____________
     1. بَطَر: طغيان بالنعمة.
     2. التافه: الحقير.
     3. لا تُشْخص همك: أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.
     4. صعّر خدّه: أماله إعجاباً وكبراً.
     5. تقتحمه العين: تكره أن تنظر اليه احتقاراً وازدراءً.
     6. فَرِّغ لاولئك ثقتك: أي اجعل للبحث عنهم أشخاصاً يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم.
     7. بالاعذار إلى الله تعالى: أي بما يقدم لك عذراً عنده.
     8. ذووالرقّة في السن: المتقدمون فيه.


( 720 )


لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.
     وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ(1) مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ(2) وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ(3) وَشُرَطِكَ(4)، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِع(5)، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(عليه السلام)يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن(6): "لَنْ تُقَدَّسَ(7) أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع". ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ(8)
____________
     1. لذوي الحاجات: أي المتظلمين تتفرغ لهم فيه بشخصك للنظر في مظالمهم.
     2. تُقْعِد عنهم جندك: تأمر بأن يقعد عنهم ولايتعرض لهم جندك. 3. الاحراس: جمع حرس ـ بالتحريك ـ وهو من يحرس الحاكم من وصول المكروه.
     4. الشُرَط ـ بضم ففتح ـ : طائفة من أعوان الحاكم، وهم المعروفون بالضابطة، واحده شرطة ـ بضم فسكون ـ .
     5. التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز وعِي، والمراد غير خائف تعبيراً باللازم.
     6. في غير موطن: أي في مواطن كثيرة.
     7. التقديس: التطهير، أي لا يطهر الله أمة ... .
     8. الخُرق ـ بالضم ـ : العنف ضد الرفق.


( 721 )


مِنْهُمْ وَالْعِيَّ(1)، وَنَحِّ(2) عَنْكَ الضِّيقَ(3) وَالاَْنَفَ(4)، يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بَذلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ(5)، وَيُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً(6)، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار(7)!
     ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا(8)عَنْهُ كُتَّابُكَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ مِمَّا تَحْرَجُ(9) بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ.
    
____________
     1. العِي ـ بالكسر ـ : العجز عن النطق.
     2. نَحِّ: فعل أمر من نحّى ينحي، أي ابعِدْ عنهم.
     3. الضيق: ضيق الصدر بسوء الخلق.
     4. الانَف ـ محركة ـ : الاستنكاف والاستكبار.
     5. أكناف الرحمة: أطرافها.
     6. هنيئاً: سهلاً لا تخشنه باستكثاره والمن به.
     7. امنع في إجمال وإعذار: وإذا منعت فامنع بلطف وتقديم عذر.
     8. يعيا: يعجز. 9. حَرِجَ يَحْرَج ـ من باب تَعِب ـ : ضاق، والاعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، ويحبون المماطلة في قضائها استجلاباً للمنفعة، أوإظهاراً للجبروت.


( 722 )


وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْم عَمَلَهُ، فإِنَّ لِكُلِّ يَوْم مَا فِيهِ، وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ تعالى أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ، وَأَجْزَلَ(1) تِلْكَ الاَْقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لله إِذَا صَلَحَتْ فيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ.
     وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ لله بِهِ دِينَكَ: إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِن بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللهِ مِنْ ذلِكَ كَاملاً غَيْرَ مَثْلُوم(2) وَلاَ مَنْقُوص، بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ.
     وَإِذَا قُمْتَ فِي صلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلاَ مُضَيِّعاً(3)، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ. وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الَيمنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: "صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً".
     وَأَمَّا بَعْدَ هذا، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ، وَالاِْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ
____________
     1. أجزلها: أعظمها.
     2. غير مثلوم: أي غير مخدوش بشيء من التقصير ولا مخرق بالرياء.
     3. لا تكوننّ منفّراً ولا مضيعاً: أي لا تُطِل الصلاة فتكرّه بها الناس ولا تضيع منها شيئاً بالنقص في الاركان، بل التوسط خير.


( 723 )


الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاُْمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ(1) تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنَِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ(2) فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل كَرِيم تُسْدِيهِ، أَوْ مُبْتَلَىً بِالْمَنعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا(3) مِنْ بَذْلِكَ! مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ [مـ] ما لاَ مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ(4) مَظْلِمَة، أَوْ طَلَبِ إِنْصاف فِي مُعَامَلَة.
     ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف [فِي مُعَامَلَة، ]فَاحْسِمْ(5) مَادَّةَ أُولئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الاَْحْوَالِ، وَلاَ تُقْطِعَنَّ(6) لاَِحَد مِنْ حَاشِيتِكَ وَحَامَّتِكَ(7) قَطِيعةً، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ(8)
____________
     1. سمات: جمع سمة ـ بكسر ففتح ـ : وهي العلامة. 2. البذل: العطاء.
     3. أيِسُوا: قنطوا ويئِسوا.
     4. شكاة ـ بالفتح ـ : شكاية.
     5. فاحسم: أي اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعديهم، وإنما يكون بالاخذ على أيديهم ومنعهم من التصرف في شؤون العامة.
     6. الاقطاع: المنحة من الارض، والقطيعة: الممنوح منها. 7. الحامّة ـ كالطامّة ـ : الخاصّة والقرابة.
     8. الاعتقاد: الامتلاك، والعقدة ـ بالضمّ ـ : الضيعة، واعتقاد الضيعة: اقتناؤها، وإذا اقتنوا ضيعة فربما أضروا بمن يليها، أي يقرب منها من الناس.


( 724 )


عُقْدَة، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْب(1) أَوْ عَمَل مُشْتَرَك، يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ(2) لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ.
     وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ خَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ(3) ذلِكَ مَحْمُودَةٌ.
     وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً(4)، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ(5)، وَاعْدِلْ(6)
____________
     1. الشِّرْب ـ بالكسر ـ : هو النصيب في الماء.
     2. مهنأ ذلك: منفعته الهنيئة.
     3. المَغَبَّة ـ كَمَحَبّة ـ : العاقبة.
     4. حَيْفاً: أي ظلماً.
     5. أصْحِرْ لهم بعذرك: أي أبرز لهم، وبيّن عذرك فيه، وهو من الاصحار: الظهور، وأصله البروز في الصحراء.
     6. عَدَل الشيءُ عن نفسه: نحّاه عنه.


( 725 )


عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ [رِيَاضَةً(1) مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَ ]إِعْذَاراً(2) تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.
     وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّ كَ لله فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً(3)لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ(4)، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ.
     وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً(5)، فَحُطْ عَهْدَكَ(6) بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالاَْمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً(7) دُونَ مَا
____________
     1. رياضةً: أي تعويداً لنفسك على العدل.
     2. الاعذار: تقديم العذر أوإبداؤه.
     3. الدَعَة ـ محرّكة ـ : الراحة. 4. قارَبَ ليتغفّل: أي تقرّب منك بالصلح ليلقي عليك عنه غفلة فيغدرك فيها.
     5. أصل معنى الذمّة: وجدان مودع في جبلة الانسان، ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق عليه، ويدفعه لاداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد، وجعل العهد لباساً لمشابهته له في الرقابة من الضرر.
     6. حُطْ عهدك: أمر من حاطه يحوطه بمعنى حفظه وصانه.
     7. الجُنّة ـ بالضم ـ : الوقاية، أي حافظ على ما أعطيت من العهد بروحك.


( 726 )


أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عزوجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتَِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ(1)، فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ(2)، وَلاَ تَخْتِلَنَّ(3) عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِىءُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ.
     وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ(4) بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً(5)يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ(6)،يَسْتَفِيضُونَ(7) إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ(8)،
____________
     1. لِمَا اسْتَوْبَلوا من عواقب الغدر: أي وجدوها وَبيلة، مهلكة.
     2. خاس بعهده: خانه ونقضه.
     3. الخَتْل: الخداع.
     4. أفضاه ـ هنا ـ : بمعنى أفشاه.
     5. الحريم: ما حرم عليك أن تمسه. 6. المَنَعة ـ بالتحريك ـ : ما تمتنع به من القوة.
     7. يستفيضون: أي يفزعون اليه بسرعة.
     8. الادغال: الافساد.


( 727 )


وَلاَ مُدَالَسَةَ(1)، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ(2)، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل(3) بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيق تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ(4)، لاَتَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ.
     إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لاَِنَّ فِيهِ قَوَدَ(5) الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ(6) [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ
____________
     1. المدالسة: الخيانة.
     2. العلل: جمع عِلّة، وهي في النقد والكلام، بمعنى ما يصرفه عن وجهه ويحوله إلى غير المراد، وذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه وعدم صراحته.
     3. لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية والتعريض.
     4. أن تحيط بك من الله فيه طلبة: أي تأخذك بجميع أطرافك مطالبة الله إياك بحقه في الوفاء الذي غدرت به.
     5. القَوَد ـ بالتحريك ـ : القصاص، وإضافته للبدن لانه يقع عليه.
     6. أفْرَطَ عليك سوْطك: عَجّلَ بما لم تكن تريده، أَردت تأديباً فأعْقَبَ قتلاً.


( 728 )


يَدُكَ بِعُقُوبَة، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ(1) فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ(2) نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ.
     وَإِيَّاكَ وَالاِْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاِْطْرَاءِ(3)، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِـيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْـمُحْسِنِينَ.
     وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ(4) فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاِْحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ(5) عِنْدَاللهِ وَالنَّاسِ، قَالَ اللهُ سبحانه: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)
    
____________
     1. الوَكْزَة ـ بفتح فسكون ـ : الضربة بجُمع الكف ـ بضم الجيم ـ أي قبضته، وهي المعروفة باللكمة.
     2. تَطْمَحَنّ بك: ترتفِعَنّ بك.
     3. الاطراء: المبالغة في الثناء.
     4. التزيّد ـ كالتقيّد ـ : إظهار الزيادة في الاعمال عن الواقع منها في معرض الافتخار.
     5. المقت: البغض والسخط.


( 729 )


[و] إيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالاُْمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ الَّلجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ(1)، أَوِ الْوَهْنَ(2) عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَل مَوْقِعَهُ.
     وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ(3) بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ(4)، وَالتَّغَابِيَ(5) عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلَيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الاُْمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ، امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ(6)، وَسَوْرَةَ(7) حَدِّكَ(8)، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ(9) لِسَانِكَ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ
____________
     1. اللجاجة: الاصرار على النزاع. وتنكّرَت: لم يعرف وجه الصواب فيه.
     2. الوَهْن: الضعف.
     3. الاستئثار: تخصيص النفس بزيادة.
     4. الناس فيه أُسوة: أي متساوون.
     5. التغابي: التغافل.
     6. يقال: فلان حمّي الانف: إذا كان أبياً يأنف الضيم.
     7. السَوْرة ـ بفتح السين وسكون الواو ـ : الحِدة.
     8. الحَدّة ـ بالفتح ـ : البأس.
     9. الغَرْب ـ بفتح فسكون ـ : الحدّ تشبيهاً له بحد السيف ونحوه.


( 730 )


الْبَادِرَةِ(1)، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاْخْتِيَارَ، وَلَنْ تَحْكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ.
     وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ: مِنْ حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة، أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا(صلى الله عليه وآله) أَوْفَرِيضَة فِي كِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا، فَلَنْ يَعْصِمَ مِنَ السُّوءِ وَلاَ يُوَفِّقَ لِلْخَيْرِ إلاَّ اللهُ تَعَالى.
     وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ إليَّ رَسُولُهُ(عليه السلام) فِي وَصَايَاهُ: "تَحضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"، فَبِذَلِكَ أَخْتِمُ لَكَ مَا عَهِدَ، وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ العَظِيمِ.

ومن هذا العهد وهو آخره:


     وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَة، أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فيهِ رِضَاهُ مِنَ الاِْقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَى خَلْقِهِ، مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ، وَجَمِيلِ الاَْثَرِ فِي الْبَلاَدِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ(2)، وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلَكَ بالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنَّا إِلَيْهِ رَاغِبُونَ، وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ كثيراً.
____________
     1. البادرة: ما يبدومن اللسان عند الغضب من سباب ونحوه.
     2. تضعيف الكرامة: زيادة الكرامة اضعافاً.


( 731 )


[ 54 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى طلحة والزبير، مع عمران بن الحصين الخزاعي


     وقد ذكره أبو جعفر الاسكافي في كتاب المقامات
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُما، وَإِنْ كَتَمْتُما، أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي، وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي، وَإِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَبَايَعَنِي، وَإِنَّ العَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَان غَاصِب، وَلاَ لِعَرَض(1) حَاضِر، فَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي طَائِعَيْنِ، فارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيب، وَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي كَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُما لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ(2) بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ، وَلَعَمْرِي مَا كُنْتُما بِأَحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمانِ، وَإِنَّ دَفْعَكُمَا هذَا الاَْمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلاَ فِيهِ، كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ، بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ.
     وَقَدْ زَعَمْتُما أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمانَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَعَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِىء بَقَدْرِ مَا احْتَمَلَ.
     فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا، فَإِنَّ الاْنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعَارُ وَالنَّارُ،السَّلاَمُ.
____________
     1. العَرَض ـ بالتحريك ـ : هو المَتاع وما سوى النَقْدَيْن من المال.
     2. جعلتما لي عليكما السبيل: أي الحجّة.


( 732 )



[ 55 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ [قَدْ] جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا، لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلاَ بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا، وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيها لِنُبْتَلَى بِهَا، وَقَدِ ابْتَلاَنِي [اللهُ] بِكَ وَابْتَلاَكَ بِي: فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الاْخَرِ، فَعَدَوْتَ(1) عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلاَ لِسَانِي، وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّامِ بِي، وَأَلَّبَ(2) عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ، وَقَائِمُكُمْ(3) قَاعِدَكُمْ.
    
____________
     1. عَدَوْت: أي وثبت.
     2. ألّب ـ بفتح الهمزة وتشديد اللام ـ أي: حرّض.
     3. قالوا: يريد بالعالم أبا هريرة وبالقائم عمروبن العاص.


( 733 )


فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ(1)، وَاصْرِفْ إِلَى الاْخِرَةِ وَجْهَكَ، فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ.
     وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَة(2) تَمَسُّ الاَْصْلَ(3)، وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ(4)، فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللهِ أَلِيَّةً(5) غَيْرَ فَاجِرَة، لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَإِيَّاكَ جَوَامِعُ الاَْقْدَارِ لاَ أَزَالُ بِبَاحَتِكَ(6)(حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)

____________
     1. القِياد ـ بالكسر ـ : الزمام. ونازعه القِياد: إذا لم يسترسل معه.
     2. القارعة: البلية والمصيبة.
     3. تمسّ الاصل: أي تصيبه فتقلعه.
     4. الدابر: هوالاخر.
     5. أولي ألية: أي احلف بالله حلفة غير حانثة.
     6. الباحة: كالساحة وزناً ومعنى.


( 734 )


[ 56 ]
ومن كلام
وصىّ به شريح بن هانىء
لما جعله على مقدمته إلى الشام


     اتَّقِ اللهَ فِي كُلِّ صَبَاح وَمَسَاء، وَخَفْ عَلَى نَفْسِكَ الدُّنْيَا الْغَرُورَ، وَلاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَال، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِير مِمَّا تُحِبُّ، مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ، سَمَتْ(1) بِكَ الاَْهْوَاءُ(2) إِلَى كَثِير مِنَ الضَّرَرِ.
     فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً، وَلِنَزْوَتِكَ(3) عِنْدَ الْحَفِيظَةِ(4) وَاقِماً(5) قَامِعاً(6).

[ 57 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أهل الكوفة
عند مسيره من المدينة إلى البصرة


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي خَرَجْتُ مِنْ حَيِّي(7) هذَا: إِمَّا ظَالِماً، وَإِمَّا مَظْلُوماً، وَإِمِّا بَاغِياً، وَإِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْهِ.
     وَأنا أُذَكِّرُ اللهِ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَىَّ(8)، فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أعَانَنِي، وَإِنْ كُنْتُ مُسْيئاً استَعْتَبَنِي(9).
____________
     1. سمت: أي ارتفعت.
     2. الاهواء: جمع هوى وهو الميل مع الشهوة حيث مالت.
     3. النزوة: من نزاينزونزواً: أي وثب.
     4. الحفيظة: الغضب.
     5. وقمه فهو واقم: أي قهره.
     6. قمعه: رده وكسره.
     7. الحي: موطن القبيلة أو منزلها.
     8. لمّا نفرَ إلي: بتشديد "لمّا" وتقديره "إلاّ".
     9. استعتبني: طلب مني العتبى أي الرضى، أي طلب مني أن أرضيه بالخروج عن إساءتي.


( 735 )


[ 58 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى أهل الامصار


     يقتصّ فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين
     وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ(1)، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الاِْسْلاَمِ وَاحِدَةٌ، لاَ نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الاِْيمَانِ(2) باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ(صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يَسْتَزِيدُونَنَا، الاَْمْرُ وَاحِدٌ، إِلاَّ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ!
     فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نُدَاوِ مَا لاَ يُدْرَكُ الْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ(3)، وَتَسْكِينِ الْعَامَّةِ،
____________
     1. والظاهر أن ربنا واحد: الواوللحال، أي كان التقاؤنا في حال يظهر فيها أننا متحدون في العقيدة لااختلاف بيننا إلا في دم عثمان.
     2. لانستزيد هم في الايمان: أي لانطلب منهم زيادة في الايمان لانهم كانوا مؤمنين.
     3. النائرَة ـ بالنون الموحدة ـ : بمعنى الثائرة بالتاء المثلثة، وأصلها من ثارت الفتنة إذا اشتعلت وهاجت.


( 736 )


حَتَّى يَشْتَدَّ الاَْمْرُ وَيَسْتَجْمِعَ، فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ.
     فَقَالُوا: بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ(1)!
     فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ(2) وَرَكَدَتْ(3)، وَوَقَدَتْ(4) نِيرَانُهَا وَحَمِشَتْ(5).
     فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا(6) وَإِيَّاهُمْ، وَوَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَفِيهِمْ، أَجَابُوا عِنْدَ ذلِكَ إِلَى الَّذي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا، وَسَارَعْنَاهُمْ(7) إِلَى مَا طَلَبُوا، حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ.
     فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَمَنْ لَجَّ وَتَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ(8) الَّذِي رَانَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ(9) ، وَصَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ.

____________
     1. المكابرة: المعاندة.
     2. جنحت الحرب: مالت وأقبلت، ومنه قد جنح الليل إذا أقبل.
     3. ركدت: استقرت وثَبَتَتْ.
     4. وَقَدَتْ ـ كَوَعَدَتْ ـ أي: اتّقدَت والتهَبَت.
     5. حَمِشَتْ: استقرّت وشَبّتْ.
     6. ضرّستنا: عضتنا أضراسها.
     7. سارعناهم: سابقناهم.
     8. الراكس: الناكث الذي قلب عهده ونكثه.
     9. ران على قلبه: غطى.


( 737 )


[ 59 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى الاسود بن قُطْبَةَ صاحب جند حُلوان(1)


     أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ(2) مَنَعَهُ ذلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ، فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ، وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيَما افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ، رَاجِياً ثوَابَهُ، وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ.
     وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّة لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا قَطُّ فِيهَا سَاعَةً إِلاَّ كَانَتْ فَرْغَتُهُ(3) عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ،أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ أَبَداً، وَمِنَ
____________
     1. حلوان: إيالة من إيالات فارس.
     2. اختلف هواه: جرى تَبَعاً لمآربه الشخصية.
     3. الفَرْغَة: الواحدة من الفراغ، والمراد بها هنا خلوّ الوقت من عمل يرجع بالنفع على الامة.


( 738 )


الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ، وَالاْحْتسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ(1) بِجُهْدِكَ، فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 60 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى العمال الذين يطأ عمَلَهُمْ(2) الجيشُ


     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِالْمُؤمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَعُمَّالِ الْبِلاَدِ.
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَقَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لله عَلَيْهِمْ مِنْ كَفِّ الاَْذَى، وَصَرْفِ الشَّذَى(3)، وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ(4)، إِلاَّ مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ(5)، لاَ يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إلَى شِبَعِهِ.
    
____________
     1. الاحْتِساب على الرعية: مراقبة أعمالها وتقويم ما أعوجّ منها وإصلاح ما فسد.
     2. يَطَأ عملَهم: أي يمرّ بأراضيهم.
     3. الشّذَى: الضرب والشر.
     4. مَعَرَّة الجيش: أذاه.
     5. جَوْعَة ـ بفتح الجيم ـ : الواحدة من مصدر جاع، ويُراد بجَوْعة المضطرّ حال الجوع المهلك.


( 739 )


فَنَكِّلُوا(1) مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ [شَيْئاً] ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ، وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيما اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ، فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ، وَمَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلاَ تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إِلاَّ بِاللهِ وَبِي، أُغَيِّرْهُ بِمَعُونَةِ اللهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

[ 61 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى كميل بن زياد النخعي


     وهو عامله على هيت، يُنكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالباً الغارة
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ تَضْيِيعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّيَ، وَتَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ، لَعَجْزٌ حَاضِرٌ، وَرَأْيٌ مُتَبَّرٌ(2)، وَإِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا(3)، وَتَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ(4) الَّتي وَلَّيْنَاكَ ـ لَيْسَ بِهَا مَنْ يَمْنعُهَا، وَلاَ يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا ـ لَرَأْيٌ شَعَاعٌ(5).
____________
     1. نَكِّلُوا: أي أوقعوا النكال والعقاب.
     2. رأيٌ مُتَبّرٌ ـ كمعظّم ـ : من تبره تتبيراً: إذا أهلَكَه، أي هالك صاحبه.
     3. قِرْقِيسيا ـ بكسر القافين بينهما ساكن ـ : بلد على الفرات.
     4. المَسالِح: جمع مَسْلحة، وهي موضع الحامية على الحدود.
     5. رَأيٌ شَعَاعٌ ـ كسحاب ـ أي: متفرّق.


( 740 )


فَقَدْ صِرْتَ جِسرْاً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ، غَيْرَ شَدِيدِ الْمَنْكِبِ(1)، وَلاَ مَهِيبِ الْجَانِبِ، وَلاَ سَادٍّ ثُغْرَةً(2)، وَلاَ كَاسر لِعَدُوّ شَوْكَةً، وَلاَ مُغْن عَنْ(3) أَهْلِ مِصْرِهِ، وَلاَ مُجْز عَنْ أَميِرِهِ.

[ 62 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى أهل مصر
مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارَتَها


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِناً(4) عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
     فلمَّا مَضى(صلى الله عليه وآله) تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي
____________
     1. المَنكِب ـ كمسجد ـ : مجتَمَع الكَتِف والعَضُد، وشدته كناية عن القوة والمنعة.
     2. الثُغْرة: الفرجة يدخل منها العدو.
     3. مُغْن عنه: نائب منابه.
     4. المُهَيْمِن: الشاهد، والنبي شاهد برسالة المرسلين الاولين.


( 741 )


رُوعِي(1)، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ(صلى الله عليه وآله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ!
     فَمَا رَاعَنِي(2) إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ(3) عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي(4)حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ(5) النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الاِْسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الاِْسْلاَمَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً(6) أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الاَْحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ(7) الْبَاطِلُ وَزَهَقَ(8)، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ(9).

____________
     1. الرُوع ـ بضم الراء ـ : القلب، أو موضع الرَوْع منه ـ بفتح الراء ـ أي الفَزَع.
     2. راعَني: أَفْزَعَني.
     3. انثِيال الناس: انصبابهم.
     4. أمْسَكْت يدي: كففتها عن العمل وتركت الناس وشأنهم. 5. رَاجِعَة الناس: الراجعون منهم.
     6. ثَلْماً: أي خرقاً.
     7. زَاح: ذهب.
     8. زَهَقَ: خرجت روحه ومات، مجاز عن الزوال التام.
     9. تَنَهْنَهَ: أي كَفّ.


( 742 )


ومن هذا الكتاب:


     إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ(1) الاَْرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ، وَإِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلى بَصِيرَة مِنْ نَفْسِي وَيَقِين مِنْ رَبِّي.
     وَإِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللهِ لَمُشْتَاقٌ، وَلِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاج، وَلكِنَّنِي آسَى(2) أَنْ يَلِيَ [أَمْرَ ]هذِهِ الاُْمَّةِ(3) سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً(4)، وَعِبَادَهُ خَوَلاً(5)، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً(6)، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً، فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ
____________
     1. الطِلاع ـ ككتاب ـ : مِلْء الشيء.
     2. آسى ـ مضارع أسِيت عليه كرَضِيت ـ أي: حزنت.
     3. يلي أمْرَ الامّة: يتولاها ويكون عنها مسؤولاً.
     4. دُوَلاً ـ بضم ففتح ـ : جمع دُولَة ـ بالضم ـ أي: شيئاً يتداولونه بينهم.
     5. الخَوَل ـ محركة ـ : العبيد.
     6. حَرْباً: أي محاربين.


( 743 )


شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ(1)، وَجُلِدَ حَدّاً فِي الاِْسْلاَمِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الاِْسْلاَمِ الرَّضَائِخُ(2)، فَلَوْلاَ ذلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ(3) وَتَأنِيبَكُمْ، وَجَمْعَكُمْ وَتَحْرِيضَكُمْ، وَلَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَوَنَيْتُمْ(4).
     أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ(5) قَدِ انْتَقَصَتْ(6)، وَإِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ، وَإِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى(7)، وَإِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى!
     انْفِرُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ، وَلاَ تَثَّاقلُوا إِلَى الاَْرْضِ فَتُقِرُّوا(8) بِالْخَسْفِ(9)، وَتَبُوؤُوا(10) بِالذُّلِّ، وَيَكُونَ نَصِيبُكُمُ الاَْخَسَّ، وَإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الاَْرِقُ(11)، وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ، وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. شرب الحرام: يريد الخمر.
     2. الرَضَائخ: جمع رضية، وهي شيء قليل يعطاه الانسان يُصانِع به عن شيء يطلب منه كالاجر، ورضخت له: أَعطيت له.
     3. تَأليبكم: تحريضكم وتحويل قلوبكم عنهم. 4. وَنَيْتم: أي ضَعُفْتم وفَتَرْتُمْ.
     5. أطْرَاف البلاد: جوانبها.
     6. انتقصت: حصل فيها النقص باستيلاء العدو عليها.
     7. تُزْوَى ـ مبني للمجهول ـ : تُقْبَضُ، وهي من زوَاه إذا قبضه عنه.
     8. تُقِرّوا: تعترفوا. 9. الخَسْف: أي الضيم.
     10. تَبُوؤوا: أي تعودوا بالذل.
     11. الارِق ـ بفتح فكسر ـ أي: الساهر.


( 744 )


[ 63 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى أبي موسى الاشعري


     وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطُه(1) الناسَ عن الخروج إليه لمّا ندبهم لحرب أصحاب الجمل
     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْس.
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَعَلَيْكَ، فإذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولي فارْفَعْ ذَيْلَكَ، واشْدُدْ مِئْزَرَكَ(2)، واخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ(3)، وَانْدُبْ(4) مَنْ
____________
     1. التثبيط: الترغيب في القعود والتخلف.
     2. رفع الذيل وشدّ المِئْزر: كناية عن التشمير للجهاد.
     3. اخْرج من جُحْرِك: كنى بجحره عن مقرّه.
     4. انْدُب: أي ادْعُ من معك.


( 745 )


مَعَكَ، فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ(1)، وَإِنْ تَفَشَّلْتَ(2) فَابْعُدْ!
     وَايْمُ اللهِ لَتُؤْتَيَنَّ حَيْثُ أَنْتَ، وَلاَ تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ(3)، وَذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ، وَحَتَّى تُعْجَلَ عَنْ قِعْدَتِكَ(4)، وَتَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ، وَمَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى(5) الَّتِي تَرْجُو، وَلكِنَّهَا الدَّاهِيةُ الْكُبْرَى، يُرْكَبُ جَمَلُهَا، وَيُذَلُّ صَعْبُهَا، وَيُسَهَّلُ جَبَلُهَا.
     فَاعْقِلْ عَقْلَكَ(6)، وَامْلِكْ أَمْرَكَ، وَخُذْ نَصِيبَكَ وَحَظَّكَ، فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ
____________
     1. إن حقّقْت: أي أخذت بالحق والعزيمة. فانْفُذ: أي امْضِ الينا.
     2. تفشّلت: أي جبنت.
     3. الخاثِر: الغليظ، والكلام تمثيل لاختلاط الامر عليه من الحيرة، وأصل المثل "لايدري أيخثر أم يذيب". قالوا: إن المرأة تملا السمن فيختلط خاثره برقيقه فتقع في حيرة، إن أو قدت النار حتى يصفو احترق، وإن تركته بقي كَدِراً.
     4. تُعْجَل عن قِعْدَتِك، القِعْدة ـ بالكسر ـ : هيئة القعود، وأعجله عن الامر: حال دون إدراكه، أي يحال بينك وبين جلستك في الولاية.
     5. الهُوَيْني: تصغير الهُوني ـ بالضم ـ مؤنث أهون.
     6. اعْقِل عقلك: قيّدْه بالعزيمة، ولا تدعه يذهب مذاهب التردد من الخوف.


( 746 )


إِلَى غَيْرِ رَحْب وَلاَ فِي نَجَاة، فَبِالْحَرِيِّ(1) لَتُكْفَيَنَّ(2) وَأَنْتَ نَائِم، حَتَّى لاَ يُقَالَ: أَيْنَ فُلاَنٌ؟ وَاللهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقّ، وَمَا أُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 64 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
كتبه إلى معاوية، جواباً عن كتاب منه


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الاُْلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَفَرَّقَ بيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَكَفَرْتُمْ، وَالْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَفُتِنْتُمْ، وَمَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلاَّ كَرْهاً(3)، وَبَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الاِْسْلاَمِ(4) كُلُّهُ لِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)حرباً(5).
    
____________
     1. بالحرىّ: أي بالوجه الجدير بك.
     2. لَتُكْفَيَنّ ـ بلام التأكيد ونونه ـ أي: إنا لنكفيك القتال ونظفر فيه.
     3. كَرْهاً: أي من غير رغبة، فإن أباسفيان إنما أسلم قبل فتح مكة بليلة، خوف القتل، وخشية من جيش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) البالغ عشرة آلاف ونيف.
     4. أنْفُ الاسلام: كناية عن أشراف العرب الذين دخلوا فيه قبل الفتح.
     5. في بعض النسخ: "حزباً".


( 747 )


وَذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَشَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ(1)، وَنَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ(2)! وَذلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ، فَلاَ عَلَيْكَ، وَلاَ الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ.
     وَذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ، فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ(3)، فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اللهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ! وَإِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَد:

مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ

بِحَاصِب(4) بَيْنَ أَغْوَار(5) وَجُلْمُودِ(6)


     وَعِنْدِيَ السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ(7) بِجَدِّكَ وَخَالِكَ وَأَخِيكَ فِي مَقَام
____________
     1. شَرّدَ به: طرده وفرق أمره.
     2. المِصْرَانِ: الكوفة والبصرة.
     3. فاسْتَرْفِهْ: فعل أمر، أي استحِ ولا تستعْجلْ.
     4. الحاصِب: ريح تحمل التراب والحصى.
     5. الاغْوَار: جمع غَوْر بالفتح، وهو الغبار.
     6. الجُلْمُود ـ بالضم ـ : الصخر.
     7. أَعْضَضْتُه به: جعلته يَعَضّه، والباء زائدة.


( 748 )


وَاحِد، وَإِنَّكَ وَاللهِ مَا عَلِمْتُ الاَْغْلَفُ الْقَلْبِ(1)، الْمُقارِبُ الْعَقْلِ(2)، وَالاَْوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ: إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوء عَلَيْكَ لاَ لَكَ، لاَِنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ(3)، وَرَعَيْتَ غَيْرَ سَائِـمَتِكَ(4)، وَطَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَلاَ فِي مَعْدِنِهِ، فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ!! وَقَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَام وَأَخْوَال! حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ، وَتَمَنِّي الْبَاطِلِ، عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ(5) حَيْثُ عَلِمْتَ، لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً، وَلَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً، بِوَقْعِ سُيُوف مَا خَلاَ مِنْهَا الْوَغَى(6)، وَلَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى(7).
     وَقَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمانَ، فَادْخُلْ فِيَما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ حَاكِمِ الْقُوْمَ إِلَيَّ، أَحْمِلْكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللهِ.
     وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ(8) الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ(9)، وَالسَّلاَمُ لاَِهْلِهِ.
____________
     1. أَغْلَف القلب: الذي لا يدرك، كأن قلبه في غلاف لا تنفذ اليه المعاني.
     2. مُقَارِب العقل: ناقصه ضعيفه، كأنه يكاد يكون عاقلاً وليس به عقل.
     3. الضَالّة: ما فقدته من مال ونحوه، ونشد الضالة: طلبها ليردها، مثل يضرب لطالب غير حقه.
     4. السَائِمَة: الماشية من الحيوان.
     5. صُرِعُوا مَصَارعَهُمْ: سقطوا قتلى في مطارحهم.
     6. الوَغَى: الحرب.
     7. لم تُمَاشِها الهُوَيْنى: أي لم ترافقها المُسَاهَلَة.
     8. الخُدْعَة ـ مثلّثة الخاء ـ : ما تصرف به الصبي عن اللبن وطلبه أول فطامه، ما تصرف به عدوّك عن قصدك به في الحروب ونحوها.
     9. الفِصَال: الفِطَام.


( 749 )


[ 65 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إليه أيضاً


     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِالَّلمْحِ الْبَاصِرِ(1) مِنْ عِيَانِ الاُْمُورِ(2)، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلاَفِكَ بِادِّعَائِكَ الاَْباطِيلَ، وَإقْحَامِكَ(3) غُرُورَ الْمَيْنِ(4) وَالاَْكَاذِيبِ، وَبِانْتِحَالِكَ(5) مَا قَدْ عَلاَ عَنْكَ(6)، وَابْتِزَازِكَ(7) لِمَا قَدِ
____________
     1. اللّمح الباصر: الامر الواضح.
     2. عِيان الامُور: مشاهدتها ومعاينتها.
     3. اقحامك: إدخالك في أذهان العامة غرور المين.
     4. المَيْن: الكَذِب. 5. انتحالك: ادعاؤك لنفسك.
     6. ما قَدْ عَلاَ عنك: ما هو أرفع من مقامك.
     7. ابتزازك أي: سلبك.


( 750 )


اخْتُزِنَ(1) دُونَكَ، فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ، وَجُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَدَمِكَ(2)، مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ، وَمُلِىءَ بِهِ صَدْرُكَ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ، وَبَعْدَ الْبَيَانِ إِلاَّ الَّلبْسُ(3)؟
     فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَاشْتَِمالَهَا عَلَى لَبْسَتِهَا(4)، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلاَبِيبَهَا(5)، وَأَغْشَتِ الاَْبْصَارَ(6) ظُلْمَتُهَا.
    
____________
     1. اخْتُزِنَ أي: مُنِعَ دون الوصول اليك.
     2. المراد بالذي هو ألزم له من لحمه ودمه: البَيْعة بالخلافة لاميرالمؤمنين.
     3. اللَبْس ـ بالفتح ـ : مصدر لبس عليه الامر يلبس ـ كضرب يضرب ـ : أي خلطه، وفي التنزيل: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيهم ما يَلْبِسون)
     4. اللُبْسَة ـ بالضم ـ : الاشكال.
     5. أَغْدَفَت المرأة قِنَاعَها: أرسلته على وجهها فسترته، وأَغْدَف الليل: أرخى سدوله ـ أي أغطيته ـ من الظلام. والجلابيب: جمع جلباب، وهو الثوب الاعلى يغطي ما تحته، أي طالما أسْدَلَت الفتنة أَغطية الباطل فأخفت الحقيقة.
     6. أغشت الابصار: أَضعفتها ومنعتها النفوذ إلى المرئيات الحقيقية.


( 751 )


وَقدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفانِينَ مِنَ الْقَوْلِ(1) ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ(2)، وَأَسَاطِيرَ(3) لَمْ يَحُكْهَا(4) مِنْكَ عِلْمٌ وَلاَ حِلْمٌ(5)، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ(6)، وَالخَابِطِ(7) فِي الدِّيمَاسِ(8)، وَتَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَة(9) بَعِيدَةِ الْمَرَامِ، نَازِحَةِ الاَْعْلاَمِ(10)، تَقْصُرُ دوُنَهَا الاَْنُوقُ(11)، وَيُحَاذَى
____________
     1. أفَانِينُ القول: ضروبه وطرائقه.
     2. السِّلْم: ضد الحرب.
     3. الاساطير: جمع أُسْطُورة، بمعنى الخرافة لا يعرف لها منشأ.
     4. حاكَه يحوكه: نسجه، ونسج الكلام: تأليفه.
     5. الحِلْم ـ بالكسر ـ : العقل.
     6. الدَهاس ـ كسَحَاب ـ : أَرض رِخْوَة لا هي تراب ولا رمل، ولكن منهما، يعسر فيها السير.
     7. الخابط في السير: الذي لايهتدي.
     8. الدِيماس ـ بالكسر ـ : المكان المظلم تحت الارض.
     9. المَرْقبة ـ بفتح فسكون ـ : مكان الارتقاب، و هو العلو و الاشراف، أي رفعت نفسك إلى منزلة بعيد عنك مَطْلبها.
     10. نازحة أي: بعيدة، والاعلام: جمع عَلَم، وهو ما يُنْصَب ليُهْتَدى به، أي خَفيّة المسالك.
     11. الانوق ـ كصَبُور ـ : طير أصلع الرأسِ، أصفر المِنْقار، يقال: أعزّ من بيض الانُوق، إذْ تحرزه فلا تكاد تظفر به، لان أو كارها في القُلَل الصعبة، ولهذا الطائر خصال عدّها صاحب القاموس.


( 752 )


بَهَا الْعَيُّوقُ(1).
     وَحَاشَ لله أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً(2)، أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً!! فَمِنَ الاْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ، وَانْظُرْ لَهَا، فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ(3) إِلَيْكَ عِبَادُ اللهِ أُرْتِجَتْ(4) عَلَيْكَ الاُْمُورُ،مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَقْبُولٌ.

[ 66 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى عبدالله بن العباس رحمه الله
وقد مضى هذا الكتاب فيما تقدّم بخلاف هذه الرواية


     أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ العَبْدَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، وَيَحْزَنُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، فَلاَ يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ في نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّة أَوْ شِفَاءُ غَيْظ، وَلكِنْ إطْفَاءُ بِاطِل أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ.
     [وَلْيَكُنْ سُرورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ، وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ(5)، وَهَمُّكَ فِيَما بَعْدَ الْموْتِ].
____________
     1. العَيّوق ـ بفتح فضم مشدّد ـ : نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الايمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
     2. الصَّدَر ـ بالتحريك ـ : الرجوع بعد الشرب. والوِرْد ـ بالكسر ـ : الاشراف على الماء.
     3. ينهَد: ينهض لحربك.
     4. أُرْتِجَتْ: أُغْلِقَتْ، وتقول: أرْتَجَ الباب كَرَتَجَهُ، أي أغلقه.
     1. خَلّفت: تركت.


( 753 )


[ 67 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
إلى قُثَمِ بن العباس(رحمه الله)
وهو عامله على مكة


     أَمَّا بَعْدُ، فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ(1)، وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ(2)، فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ، وَذَاكِرِ الْعَالِمَ، وَلاَ يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلاَّ لِسَانُكَ، وَلاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُكَ، وَلاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَة عَنْ لِقَائِكَ بِهَا، فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ(3) عَنْ أَبْوَابِكَ في أَوَّلِ وِرْدِهَا(4) لَمْ تُحْمَدْ فيَِما بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا.
    
____________
     1. أيّام الله: هي التي عاقب فيها الماضين على سوء أعمالهم.
     2. العَصْرَان: هما الغَداة والعشيّ على سبيل التغليب.
     3. ذِيدَتْ أي: دُفِعَت ومُنِعَت، مبني للمجهول من ذاده يذوده: إذا طرده ودفعه.
     4. وِرْدَها ـ بالكسر ـ : ورودها.


( 754 )


وَانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ(1) مِنْ ذَوِي(2) الْعِيَالِ وَالْـمَجَاعَةِ، مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ المَفَاقِرِ وَالْخَلاَّتِ(3)، وَمَا فَضَلَ عَنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا.
     وَمُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِن أَجْراً، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) فَالْعَاكِفُ: الْمُقيِمُ بِهِ، وَالْبَادِي: الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ.
     وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ لَِمحَابِّهِ(4)، وَالسَّلاَمُ.

[ 68 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى سلمان الفارسي(رحمه الله)
قبل أيام خلافته


     أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ: لَيِّنٌ مَسُّهَا، قَاتِلٌ سُمُّهَا، فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا، لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا، وَضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا، لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ
____________
     1. قِبَلَكَ ـ بكسر ففتح ـ أي: عِندك.
     2. في المخطوطتين: "ذي" وما اتثبناه من المطبوع.
     3. الخَلّة ـ بالفتح ـ : الحاجة.
     4. مَحَابّ ـ بفتح الميم ـ : مواضع محبته من الاعمال الصالحة.


( 755 )


فِرَاقِهَا، وَكُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا، أَحْذَرَ مَا تَكُونَ مِنْهَا(1)، فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُور أشْخْصَتْهُ(2) عَنْهُ إِلىَ مَحْذُور، [أ] وْ إِلَى إِينَاس أَزالَهُ عَنْهُ إِيحَاشٌ!

[ 69 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى الحارث الهَمْدَاني


     وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرآنِ، وَانْتَصِحْهُ، وَأَحِلَّ حَلاَلَهُ، وَحَرِّمْ حَرَامَهُ، وَصَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ، وَاعْتَبِرْ(3) بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا [لِـ] مَا بَقِي مِنْهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً، وَآخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا! وَكُلُّهَا حَائِلٌ(4) مُفَارِقٌ.
     وَعَظِّمِ اسْمَ اللهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلاَّ عَلَى حَقّ.
    
____________
     1. كُنْ آنَسَ ما تكون بها أحْذَرَ ما تكون منها، آنس: أفْعَل تفضيل من الانس، أي أشدّ أُنساً، وهي هنا حال من اسم "كن"، وأحْذَر: خبر، والمراد: فليكن أشدّ حذرك منها في حال شدة أنسك بها.
     2. أشْخَصَتْه أي: أذْهَبَتْه.
     3. اعْتبِر: قِسْ.
     4. حائل أي: زائل.


( 756 )


وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَ الْمَوتِ، وَلاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلاَّ بِشَرْط وَثِيق(1).
     وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَل يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، وَيُكْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلِ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ، وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ، واحْذَرْ كُلَّ عَمَل إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ أَوِ اعتَذَرَ مِنْهُ.
     وَلاَ تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْلِ، وَلاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ، فَكَفَى بِذلِكَ كَذِباً، وَلاَ تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ، فَكَفَى بِذلِكَ جَهْلاً.
     وَاكْظِمِ الْغَيْظَ، وَاحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَتَجاوَزْ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، وَاصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ(2)، تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ.
     وَاسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَة أَنْعَمَهَا اللهُ عَلَيْكَ، وَلاَ تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ عِنْدَكَ، وَلْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ.
     وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً(3)
     مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْر يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ، وَمَا
____________
     1. وثيق: مُحْكَمٌ قوِيّ.
     2. اصْفَحْ مع الدَوْلَة أي: عندما تكون لك السلطة.
     3. تَقْدِمَة ـ كتَجْرِبة ـ : مصدر قدّم بالتشديد أي بذلاً وإنفاقاً.


( 757 )


تُؤخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ.
     وَاحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ(1) رَأْيهُ، وَيُنْكَرُ عَمَلُهُ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ مَعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ.
     وَاسْكُنِ الاَْمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَالْجَفَاءِ وَقِلَّةَ الاَْعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَاقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ، وَإِيَّاكَ وَمَقَاعِدَ الاَْسْوَاقِ، فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَمَعَارِيضُ(2) الْفِتَنِ.
     وَأَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ(3)، فإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ.
     وَلاَ تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَة حَتّى تَشْهَدَ الصَّلاَةَ إِلاَّ فَاصِلاً(4) فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ فِي أَمْر تُعْذَرُ بِهِ.
     وَأَطِعِ اللهَ فِي جُمَلِ أُمُورِكَ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا.
     وَخَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ، وَارْفُقْ بِهَا وَلاَ تَقْهَرْهَا، وَخُذْ عَفْوَهَا(5)
____________
     1. فَال الرَأي يَفِيلُ أي: ضَعُفَ.
     2. المَعَارِيض: جمع مِعْرَاض كمِحْرَاب، وهو سهم بلا ريش رقيق الطرفين، غليظ الوسط يصيب بعرضه دون حدّه.
     3. من فُضِّلْت عليه أي: مَن دونك ممن فضلك الله عليه.
     4. فاصلاً في سبيل الله أي: خارجاً ذاهباً.
     5. خُذْ عَفْوَها أي: وقت فراغها وارتياحها إلى الطاعة وأصله العفو، بمعنى ما لا أثر فيه لاحد بملك، عبر به عن الوقت الذي لا شاغل للنفس فيه.


( 758 )


وَنَشَاطَهَا، إِلاَّ مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وتَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّها.
     وَإِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ آبِقٌ(1) مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ، فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ.
     وَوَقِّرِ اللهَ، وَأَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ، وَاحْذَرِ الْغَضَبَ، فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 70 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى سهل بن حُنَيف الانصاري


     وهو عامله على المدينه، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ(2) يَتَسَلَّلُونَ(3) إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفى لَهُمْ غَيّاً(4)، وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى والْحَقِّ، وَإِيضَاعُهُمْ(5) إِلَى
____________
     1. آبق أي: هارب منه متحوّل عنه.
     2. قِبَلك ـ بكسر ففتح ـ أي: عندك.
     3. يتسلّلون: يذهبون واحداً بعد واحد.
     4. غَيّاً: ضلالاً.
     5. الايضاع: الاسراع.


( 759 )


الْعَمَى وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَمُهْطِعُونَ(1) إِلَيْهَا، قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ، وَسَمِعُوهُوَعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الاَْثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً(2)!!
     إِنَّهُمْ ـ وَاللهِ ـ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْر، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْل، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هذَا الاَْمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللهُ لَنَا صَعْبَهُ،يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ(3)، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَالسَّلاَمُ علَيْكَ.

____________
     1. مُهْطِعُون: مسرعون.
     2. الاثَرَة ـ بالتحريك ـ : اختصاص النفس بالمننفعة وتفضيلها على غيرها بالفائدة.
     والسُحْق ـ بضم السين ـ : البُعْد.
     3. حَزْنُهُ ـ بفتح فسكون ـ أي: خَشِنُه.


( 760 )


[ 71 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى المنذر بن الجارود العَبْدي
وقد خان في بعض ما ولاّه من أعماله


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ(1)، وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ، فَإِذَا أَنْتَ فِيَما رُقِّيَ إِلَيَّ(2) عَنْكَ لاَتَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً، وَلاَ تُبْقِي لاِخِرَتِكَ عَتَاداً(3)، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بَخَرَابِ آخِرَتِكَ، وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ.
     وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ(4) نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْل أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ، أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَة، أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى خِيَانَة(5).
     فَأقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هذَا إِنْ شَاءَ اللهُ.
     وَالمنذر هذا هو الذي قال فيه أميرالمؤمنين(عليه السلام): إنه لنظّارٌ في عِطْفَيْهِ(6)، مُختالٌ في بُرْدَيْه(7)، تَفّالٌ في شِرَاكَيْهِ(8).
    
____________
     1. الهَدْي ـ بفتح فسكون ـ : الطريقة والسيرة.
     2. رُقيَ إليّ: رُفع وأُنهي إليّ.
     3. العَتاد ـ بالفتح ـ : الذَخِيرة المُعَدة لوقت الحاجة.
     4. الشِسْع ـ بالكسر ـ : سِيرٌ بين الاصبع الوسطى والتي تليها في النعل العربي، كأنه زمام ويسمى قِبالاً ككتاب.
     5. أي: على دفع خيانة.
     6. نَظّار: كثير النظر.والعِطْف ـ بالكسر ـ : الجانب، أي كثير النظر في جانبيه عُجْباً وخُيلاء.
     7. البُرْدَانِ: تثنية بُرْد بضم الباء، وهو ثوب مخطّط، والمُختال: المُعجَب.
     8. الشِرَاكانِ: تثنية شِراك ككتاب، وهو سِير النعْل كله، وتَفّال: كثير التَفَل، والتّفَلُ ـ بالتحريك ـ : البُصاق، وإنما يفعله المعجب بشراكيه ليذهب عنهما الغبارالوسخ، يتفل فيهما ثم يمسحهما ليعودا كالجديدين.


( 761 )


[ 72 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عبدالله بن العباس


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِسَابِق أَجَلَكَ، وَلاَ مَرْزوُق مَا لَيْسَ لَكَ.
     وَاعْلَمْ بِأنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، وَأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَل(1)، فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بقُوَّتِكَ.

[ 73 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ، وَالاسْتَِماعِ إِلَى كِتَابِكَ، لَمُوَهِّنٌ(2) رَأْيِي، وَمُخَطِّىءٌ فِرَاسَتي(3).
     وَإِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي الاُْمُورَ(4) وَتُرَاجِعُنِي السُّطُورَ(5)، كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ
____________
     1. دُوَل ـ جمع دُولة بالضم ـ : ما يُتَداول من السعادة في الدنيا.
     2. مُوَهِّن: مضعف. 3. فِراستي ـ بالكسر ـ أي: صدق ظني.
     4. حَاوَل الامر: طلبه ورَامَهُ، أي تطالبني ببعض غاياتك كولاية الشام ونحوها.
     5. تراجعني السطور أي: تطلب مني أن أرجع إلى جوابك بالسطور.


( 762 )


تَكْذِبُهُ أَحَلاَمُهُ(1)، وَالْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ(2) مَقَامُهُ، لاَ يَدْرِي أَلَهُ مَا يَأَتِي أَمْ عَلَيْهِ، وَلَسْتَ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ.
     وَأُقْسِمُ بِاللهِ لَوْ لاَ بَعْضُ الاِْسْتِبْقَاءِ(3) لَوَصَلَتْ إِلَيْكَ مِنِّي قَوَارِعُ(4)، تَقْرَعُ الْعَظْم(5)، وَتَهْلِسُ اللَّحْمَ(6)!
     وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ(7) عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ، وَتَأْذَنَ(8)لِمَقَالِ نَصِيحَتِكَ، وَالسَّلاَمُ [لاَِهْلِهِ].
    
____________
     1. كالمُسْتَثْقِل النائم: يقول أنت في محاولتك كالنائم الثقيل نومه: يحلم أنه نال شيئاً، فإذا انتبه وجد الرؤيا كذبت، أي عليه، فأمانيك فيما تطلب شبيهة بالاحلام، إنْ هي إلاّ خيالات باطلة.
     2. يُبْهِظه: أي يُثْقِله ويشقّ عليه مقامه.
     3. الاستبقاء: الابقاء، والمراد إبقائي لك وعدم إرادتي لاهلا كك.
     4. القَوَارِع أي: الدواهي.
     5. تَقْرَع العظم أي: تصْدِمه فتكسره.
     6. تَهْلِسُ اللحمَ أي: تذيبه وتنهكه.
     7. ثَبّطَكَ أي: أقعدك.
     8. تَأذَن ـ بفتح الذال ـ أي: تسمع.


( 763 )


[ 74 ]
وَمن حلْف كتبه(عليه السلام)
بين اليمن وربيعة
نُقل من خط هشام بن الكلبي


     هذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْل الْـيَمَنِ حَاضِرُهَا وَبَادِيهَا، وَرَبِيعَةُ حَاضِرُهَا(1) وَبَادِيهَا(2): أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ، وَيُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ، لاَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً، وَلاَ يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلاً، وَأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَتَرَكَهُ، أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْض، دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، لاَيَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ(3) عَاتِب، وَلاَ لِغَضَبِ غَاضِب، وَلاَ لاِسْتِذْلاَلِ قَوْم قَوْماً، وَلاَ لِمَسَبَّة ِ قَوْم قَوْماً!
     عَلَى ذلِكَ شَاهِدُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، [وَسَفِيهُهُمْ وَعَالِمُهُمْ، ]وَحَلِيمُهُمْ وَجَاهِلُهُمْ.
     ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذلِكَ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ، إنَّ عَهْدَ اللهِ كَانَ مسْؤولاً.
     و كتب: علي بن أبي طالب.

____________
     1. الحاضر: ساكن المدينة. 2. البادي: المتردّد في البادية.
     3. المِعْتَبَة ـ كالمِصْطَبَة ـ : الغيْظ.


( 764 )


[ 75 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية في أول ما بويع له بالخلافه
ذكره الواقدي في كتاب الجمل


     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ:
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي(1) فِيكُمْ، وَإِعْرَاضِي عَنْكُمْ، حَتَّى كَانَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ دَفْعَ لَهُ، وَالْحَدِيثُ طَوِيلٌ، وَالْكَلاَمُ كَثِرٌ، وَقَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ، وَأَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ، فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ(2)، وَأَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْد(3) مِنْ أَصْحَابِكَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 76 ]
ومن وصية له(عليه السلام)
لعبد الله بن العباس
عند استخلافه إياه على البصرة


     سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَحُكْمِكَ، وإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ(4).
     وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللهِ يُبَاعِدُكَ مِنْ النَّارِ، وَمَا بَاعَدَكَ مِنَ اللهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ.
____________
     1. إعْذَارِي أي: إقامتي على العذر.
     2. قِبَلَك أي: عندك.
     3. الوَفْد ـ بفتح فسكون ـ : الجماعة الوافدون، أي القادمون.
     4. طَيْرة من الشيطان ـ بفتح الطاء وسكون الياء ـ أي خِفّة وطيش.


( 765 )


[ 77 ]
ومن وصيته(عليه السلام) لَهُ
لما بعثه للا حتجاج على الخوارج


     لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ(1) ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلكِنْ حاجّهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً(2).

[ 78 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أبي موسى الاشعري
جواباً في أمر الحكمين


     ذكره سعيد بن يحيى الاموي في كتاب المغازي
     فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِير مِنْ حَظِّهِمْ، فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا، وَنَطَقُوا بِالْهَوى، وَإِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هذَا الاَْمْزِ مَنْزِلاً مُعْجِباً(3)، اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ
____________
     1. القرآن حَمّال أي: يحمل معاني كثيرة.
     2. مَحِيصاً أي: مَهْرَباً.
     3. مُعْجِباً أي: مُوجباً للتعجّب.


( 766 )


أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، فإنِّي أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً(1) أَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَلَقاً(2).
     وَلَيْسَ رَجُلٌ ـ فَاعْلَمْ ـ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ ]وَسَلَّمَ ـ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ الْمَآبِ(3)، وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأيْتُ(4) عَلَى نَفْسِي، وَإِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَإِنِّي لاََعْبَدُ(5) أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِل،أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللهُ، فَدَعْ مَا لاَ تَعْرِفُ، فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاويِلِ السُّوءِ، وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. القَرْح: في الاصل الجرح، وهو ـ هنا ـ مجاز عن فساد بواطنها.
     2. العَلَق ـ بالتحريك ـ : الدم الغليظ الجامد.
     3. المَآب: المَرْجِع.
     4. وَأيْتُ: وَعَدْتُ وأخذت على نفسي.
     5. إني لاعْبَدُ: أي آنَفُ، فهو من عَبِد يَعْبَدُ، كَغَضِب يَغْضَبُ، عَبَداً، وَالمراد: إني لانف أن يقول غيري قولاً باطلاً، فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي.


( 767 )


[ 79 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
لما استُخْلِف
إلى أمراء الاجناد


     أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ، وَأَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ(1).

تمّ الباب بحمدالله.


    
____________
     1. أخَذُوهم بالباطِل فاقْتَدَوْه: كلّفو هم بإتيان الباطل فأتوه، وصار قُدْوة يتبعها الابناء بعد الاباء.

 

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها