باب المختار من كتب أميرالمؤمنين عليه السلام
و رسائله إلى أعدائه وأمراء بلاده
و يدخل في ذلك مااختير من عهوده
إلى عمّاله و وصاياه لاهله وأصحابه

 582 )

[ 1 ]
من كتاب له(عليه السلام)
إلى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة


     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، جَبْهَةِ(1) الاَْنْصَارِ وَسَنَامِ(2) الْعَرَبِ.
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ(3):
     إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ، فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَه(4)، وَأُقِلُّ عِتَابَهُ، وَكَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجيِفُ(5)، وَأَرْفَقُ حِدَائِهِمَا(6) الْعَنِيفُ، وَكَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَب، فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ، وَبَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَلاَ مُجْبَرِينَ، بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ.
    
____________
     1. شبّههم بالجبْهَة من حيث الكرم.
     2. شبّههم بالسَنام من حيث الرفعة.
     3. عِيانه: رؤيته.
     4. استعتابه: استرضاؤه.
     5. الوَجِيف: ضرب من سير الخيل والابل سريع.
     6. الحِدَاء: زجل الابل وسَوْقها.


( 583 )


وَاعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ(1) قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَقَلَعُوا بِهَا(2)، وَجَاشَتْ جَيْشَ(3) الْمِرْجَلِ(4)، وَقَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ، فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ، وَبَادِرُوا جَهَادَ عَدُوِّكُمْ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

[ 2 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إليهم، بعد فتح البصرة


     وَجَزَاكُمُ اللهُ مِنْ أَهْلِ مِصْر عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ، وَالشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ، فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ.

[ 3 ]
ومن كتاب كتبه(عليه السلام)
لشريح بن الحارث قاضيه


     روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أميرالمؤمنين(عليه السلام) اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه(عليه السلام)ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:
    
____________
     1. دار الهجرة: المدينة.
     2. قَلَعَ المكان بأهله: نَبَذَهم فلم يصلح لاستيطانهم.
     3. جاشَتْ: غَلَتْ واضطربت. والجَيْش: الغليان. 4. المِرْجَلْ: القدر.


( 584 )


بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَاراً، وَكَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً.
     فقال شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين.
     قال: فنظر إليه(عليه السلام) نظر مغضب ثمّ قال له:
     يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً(1)، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً.
     فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الاْخِرَةِ!
     أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَم فَمَا فَوْقُ.
     والنسخة هذه:
     هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّت قَدْ أُزْعِجَ لِلرحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ، وَخِطَّةِ(2) الْهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ: الْحَدُّ الاَْوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الاْفَاتِ، وَالْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيباتِ، وَالْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إلَى الْهَوَى الْمُرْدِي، وَالْحَدُّ
____________
     1. شاخصاً: ذاهباً مبعداً.
     2. خِطّة ـ بكسر الخاء ـ : الارض التي يختطّها الانسان ويعلم عليها بالخط ليعمرها.


( 585 )


الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي، وَفِيهِ يُشْرَعُ(1) بَابُ هذِهِ الدَّارِ.
     اشْتَرَى هذَا الْمُغْتَرُّ بِالاَْمَلِ، مِنْ هذَا الْمُزْعَجِ بِالاَْجَلِ، هذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ(2)، فَمَا أَدْرَكَ هذَا الْمُشْتَرِي فِيَما اشْتَرَى مِنْ دَرَك(3)، فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ(4) الْمُلُوكِ، وسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ، وَمُزِيلِ مُلْكِ الْفَراعِنَةِ، مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَتُبَّع وَحِمْيَرَ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ، وَمَنْ بَنَى وَشَيَّدَ(5)، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ(6)، وَادَّخَرَ واعْتَقَدَ(7)، وَنَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ، إِشْخَاصُهُمْ(8) جَمِيعاً إِلَى
____________
     1. يشرع: أي يفتح.
     2. الضراعة: الذِلّة.
     3. الدَرَك ـ بالتحريك ـ : التَبِعة.
     4. مُبَلْبِلُ الاجسام: مهيج داءاتها المهلكة لها.
     5. شيّد: رفع البناء.
     6. نجّد ـ بتشديد الجيم ـ : أي زين.
     7. اعتقد المال: اقتناه.
     8. إشخاصهم: إرسالهم وترحيلهم حتى يحضروا بأشخاصهم.


( 586 )


مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَمَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إذَا وَقَعَ الاَْمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ، (وَخَسِرَ هُنَا لِكَ الْمُبْطِلُونَ)
     شَهِدَ عَلَى ذلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَسَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا.

[ 4 ]
ومن كتاب كتبه
إلى بعض أُمراء جيشه


     فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ تَوَافَتِ(1) الاُْمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ، وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ، فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ(2) مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ شُهُودِهِ، وَقُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ.

____________
     1. توافى القوم: وافى بعضهم بعضاً حتى تمّ اجتماعهم.
     2. المُتكَارِهُ: المتثاقل بكراهة الحرب، وجوده بالجيش يضر أكثر مما ينفع.


( 587 )


[ 5 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى الاشعث بن قيس عامل أذربيجان


     وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَة(1)، وَلكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعىً لِمَنْ فَوْقَكَ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفتَاتَ(2) فِي رَعِيَّة، وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَة، وَفي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ(3) حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ(4) لَكَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 6 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْبِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى.
     وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَة عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى(5) ; فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. الطُعمة ـ بضم الطاء ـ : المأكلة.
     2. تَفْتَات: أي تستبد، وهو افتعال من الفَوْت كأنه يفوت آمره فيسبقه إلى الفعل قبل أن يأمره.
     3. خُزّان ـ بضم فتشديد ـ : جمع خازن، والمراد الحافظ.
     4. الوُلاة ـ جمع وال ـ : من ولي عليه.
     5. تجنّى ـ كتولّى ـ : ادعى الجناية على من لم يفعلها.


( 588 )


[ 7 ]
ومن كتاب منه(عليه السلام)
إليه أيضاً


     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَتْني مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ(1)، وَرِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ(2)، نَمَّقْتَهَا(3) بِضَلاَلِكَ، وَأَمْضَيْتَهَا(4) بِسُوءِ رَأْيِكَ، وَكِتَابُ امْرِىء لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ، وَلاَ قَائِدٌ يُرْشِدُهُ، قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ، وَقَادَهُ الضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ، فَهَجَرَ(5) لاَغِطاً(6)، وَضَلَّ خَابِطاً.
____________
     1. مُوَصّلة ـ بصيغة المفعول ـ : ملفّقة من كلام مختلف وصل بعضه ببعض على التباين، كالثوب المرقع.
     2. مُحَبّرَة: أي مزيّنه.
     3. نَمّقتها: حسنت كتابتها. 4. أمضيْتها: أنفذتها وبعثتها.
     5. هَجَرَ: هَذَى في كلامه ولغا.
     6. اللغط: الجَلَبة بلا معنى.


( 589 )


ومن هذا الكتاب


لاَِنَّهَا بَيْعَهٌ وَاحِدَةٌ لاَ يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ(1)، وَلاَ يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ، الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ، وَالْمُرَوِّي(2) فِيهَا مُدَاهِنٌ(3).

[ 8 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى جرير بن عبدالله البجلي لما أرسله إلى معاوية


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ(4)، وَخُذْهُ بَالاَْمْرِ الْجَزْمِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْب مُجْلِيَة(5)، أَوْ سِلْم مُخْزِيَة(6)، فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ(7)، وَإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ، وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. لا يُثني: لا ينظر فيها ثانياً بعد النظر الاول.
     2. المُرَوِّي: هو المتفكر هل يقبل الشيء أوينبذه.
     3. المُداهن: المنافق.
     4. الفصل: الحكم القطعي.
     5. حرب مُجْلِية: أي مخرجة له من وطنه.
     6. السلم المخزية: الصلح الدال على العجز.
     7. فانْبِذْ إليه: أي اطرح إليه عهد الامان وأعلنه بالحرب، والفعل من باب ضرب.


( 590 )


[ 9 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ(1) أَصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ(2)، وَفَعَلُوا بِنَا الاَْفَاعِيلَ(3)، وَمَنَعُونَا الْعَذْبَ(4)، وَأَحْلَسُونَا(5) الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا(6) إِلَى جَبَل وَعْر(7)، وَأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ، فَعَزَمَ اللهُ لَنَا(8) عَلَى الدَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ(9)، وَالرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ(10). مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذلِكَ الاَْجْرَ، وَكَافِرُنَا
____________
     1. الاجتياح: الاستئصال والاهلاك.
     2. هموا بنا الهموم: قصدوا إنزالها بنا.
     3. الافاعيل ـ جمع أُفْعولة ـ : الفَعْلة الرديئة.
     4. العذب: هنيء العيش.
     5. أحلسونا: ألزمونا.
     6. اضطرونا: ألجأونا.
     7. الجبل الوَعْر: الصعب الذي لا يرقى إليه.
     8. عزم الله لنا: أراد لنا أن نذبّ عن حوزته.
     9. المراد من الحَوْزة هنا: الشريعة الحقة.
     10. رمى من وراء الحُرْمة: جعل نفسه وقاية لها يدافع السوء عنها، فهو من ورائها أوهي من ورائه.


( 591 )


يُحَامِي عَنِ الاَْصْلِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيش خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْف يَمْنَعُهُ، أَوْ عَشِيرَة تَقُومُ دُونَهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْن. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) إذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ(1)، وَأَحْجَمَ النَّاسُ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصَحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالاَْسِنَّةِ(2)، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْر، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُد، وَقُتِلَ جعفر يَوْمَ مُؤْتَةَ(3)، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ،مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ.
     فَيَاعَجَباً لِلدَّهْرِ! إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي(4)، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي(5) الَّتِي لاَ يُدْلِي أحَدٌ(6) بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّع مَا لاَ أَعْرِفُهُ،
____________
     1. احمرار البأس: اشتداد القتال.
     2. حَر الاسنة ـ بفتح الحاء ـ : شدة وقعها.
     3. مؤتة ـ بضم الميم ـ : بلد في حدود الشام.
     4. بقدم مثل قدمى جَرَتْ وثَبَتَتْ في الدفاع عن الدين.
     5. السابقة: فضله السابق في الجهاد.
     6. أدلى إليه برَحِمِهِ: توسَّلَ، و بمال دفعه اليه ; و كلا المعنيين صحيح.


( 592 )


وَلاَ أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ، وَالْحَمْدُ لله عَلَى كُلِّ حَال. وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمانَ إِلَيْكَ، فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هذَا الاَْمْرِ، فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَلاَ إِلَى غَيْرِكَ، وَلَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ(1) عَنْ غَيِّكَ وَشِقَاقِكَ(2) لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيل يَطلُبُونَكَ، لاَ يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرّ وَلاَ بَحْر، وَلاَ جَبَللاَ سَهْل، إِلاَّ أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ، وَزَوْرٌ(3) لاَ يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ، وَالسَّلاَمُ لاَِهْلِهِ.

[ 10 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إليه أيضاً


     وَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلاَبِيبُ(4) مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا(5)، وَخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا، دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا، وَقَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا، وَأَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا، وَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لاَ يُنْجيِكَ مِنْهُ
____________
     1. تنْزِع ـ كتضرب ـ أي: تنتهي.
     2. الشقاق: الخلاف.
     3. الزَوْر ـ بفتح فسكون ـ : الزائرون.
     4. الجلابيب ـ جمع جِلْباب ـ : وهو الثوب فوق جميع الثياب كالمِلْحَفة.
     5. تَبَهّجَت: تحسنت.


( 593 )


مِجَنٌّ(1)، فَاقْعَسْ(2) عَنْ هذَا الاَْمْرِ، وَخُذْ أُهْبَةَ(3) الْحِسَابِ، وَشَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ، وَلاَ تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ(4) مِنْ سَمْعِكَ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنكَ مُتْرَفٌ(5) قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ.
     وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ(6) الرَّعِيَّةِ، وَوُلاَةَ أَمْرِ الاُْمَّةِ ؟ بِغَيْرِ قَدَم سَابِق، وَلاَ شَرَف بَاسِق(7)، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ(8) الاُْمْنِيَّةِ(9)، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ.
    
____________
     1. المِجَنّ: التُرْس، أي: يوشك أن يطلعك الله على مهلكة لك لاتتقي منها بترس، ورويت: "مُنْج " بدل مجنّ.
     2. قَعَسَ: تأخر.
     3. الاُهبة ـ بضم الهمزة ـ : العُدّة.
     4. الغُواة ـ جمع غاو ـ : قرين السوء الذي يزيّن لك الباطل ويغريك بالفساد.
     5. المُتْرَف: من أطْغَتْه النعمة.
     6. سَاسة: جمع سائس.
     7. الباسِق: العالي الرفيع.
     8. الغِرّة ـ بالكسر ـ : الغُرور.
     9. الاُمْنِيَة ـ بضم الهمزة ـ : ما يتمناه الانسان ويؤمل إدراكه.


( 594 )


وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ، وَأَعْفِ الْفَرِيقَينِ مِنَ الْقِتَالِ، لِتَعْلَمَ أيُّنَا الْمَرِينُ(1) عَلَى قَلْبِهِ، وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ! فَأَنَا أَبُو حَسَن قَاتِلُ جَدِّكَ وَخَالِكَ وأَخِيكَ شَدْخاً(2) يَوْمَ بَدْر،ذلكَ السَّيْفُ مَعِي، وَبِذلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي، مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً، وَلاَ اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وَإنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ(3) الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ، وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ.
     وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائراً بِدَمِ(4) عُثْمانَ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنتَ طَالباً، فَكَأَنِّي قدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ آلْجِمَالِ بِالاَْثْقَالِ، وَكَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ، وَمَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ، إِلَى كِتَابِ اللهِ، وَهِيَ كَافِرةٌ جَاحِدَهٌ، أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ(5).
    
____________
     1. المَرِين ـ بفتح فكسر ـ : اسم مفعول من رانَ ذنبهُ على قلبه: غلب عليه فغطى بصيرته.
     2. شدخاً: أي كسراً في الرطب.
     3. المِنْهاج: هو ـ هنا ـ طريق الدين الحق.
     4. ثأر به: طلب بدمه.
     5. حائدة: من حاد عن الشيء إذا مال عنه وعدل عنه إلى سواه.


( 595 )


[ 11 ]
ومن وصية
وصّى بها(عليه السلام) جيشاً بعثه إلى العدو


     فَإذَا نزَلتُمْ بِعَدُوّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ، فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ(1) الاَْشْرَافِ(2)، أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ(3)، أَوْ أثْنَاءِ(4) الاَْنْهَارِ، كَيْما يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً(5)، وَدُونَكُمْ مَرَدّاً(6)، وَلْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْه وَاحِد أَوِ اثْنيْنِ، واجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي(7) الْجِبَالِ، وَمَنَاكِبِ(8) الْهِضَابِ(9)، لِئَلاَّ يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَة أَوْ أَمْن.
____________
     1. قُبُل: قُدّام.
     2. الاشراف ـ جمع شَرَف محركة ـ : العلو والعالي.
     3. سِفاح الجبال: أسافلها.
     4. الاثناء: منعطفات الانهار.
     5. الرِدْء ـ بكسر فسكون ـ : العون.
     6. المَرَدّ ـ بتشديد الدال ـ : مكان الرد والدفع.
     7. صَيَاصي: أعالي.
     8. المَنَاكب: المرتفعات.
     9. الهِضاب ـ جمع هَضْبة بفتح فسكون ـ : الجبل لايرتفع عن الارض كثيراً مع انبساط في أعلاه.


( 596 )


    وَاعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَومِ عُيُونُهُمْ، وَعُيُونَ الْمُقَدِّمَةِ طَلاَئِعُهُمْ.
     وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفَرُّقَ، فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً، وَإذا ارْتحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً، وَإِذَا غشِيكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً(1)، وَلاَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً(2) أَوْ مَضْمَضَةً(3).

[ 12 ]
ومن وصيته
لمعقل بن قيس الرياحي
حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدّمةً له


     اتَّقِ اللهَ الَّذِي لاَبُدّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلاَ مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ، وَلاَ تُقَاتِلَنَّ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَكَ، وَسِرِ الْبَرْدَيْنِ(4)،غَوِّرْ(5) بِالنَّاسِ، وَرَفِّهْ(6) فِي السَّيْرِ، وَلاَ تَسِرْ
____________
     1. الرّماح كِفّة: أي بمثل كِفّة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم.
     2. الغِرار ـ بكسر الغين ـ : النوم الخفيف.
     3. المضمضة: أن ينام ثم يستيقط ثم ينام، تشبيهاً بمضمضة الماء في الفم يأخذه ثم يمجه، وهو أدق التشبيه وأجمله.
     4. البَرْدان: وقت ابتراد الارض والهواء من حر النهار، الغَداة والعَشيّ.
     5. غَوِّرْ: أي انزلْ بهم في الغائرة وهي القائلة: وقت اشتداد الحر.
     6. رفّه: هوّن ولا تتعب نفسك ولا دابتك.


( 597 )


أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَهُ سَكَناً، وَقَدَّرَهُ مُقَاماً لاَ ظَعْناً(1)، فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ، وَرَوِّحْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ السَّحَرُ(2)، أَوْ حِينَ يَنْفَجِرُ الْفَجْرُ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً، وَلاَ تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُريدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ، وَلاَ تَبَاعَدْ منهم تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُهُمْ(3) عَلَى قِتَالِهِمْ، قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَالاِْعْذَارِ إِلَيْهِمْ(4).

____________
     1. الظعن: السفر.
     2. ينبطح السّحَر: ينبسط، مجاز عن استحكام الوقت بعد مضي مدة منه وبقاء مدة.
     3. الشَنآن: البغضاء.
     4. الاعذار إليهم: تقديم ما يُعْذَرون به في قتالهم.


( 598 )


[ 13 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أمير ين من أُمراء جيشه


     وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَعَلى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا(1) مَالِكَ بْنَ الْحَارثِ الاَْشْترِ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعاً، واجْعَلاَهُ دِرْعاً(2) وَمِجَنّاً(3)، فَإِنّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ(4)، وَلاَ سَقْطَتُهُ(5)، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الاْسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ(6)، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطءُ عَنْهُ أَمْثَلُ(7).

[ 14 ]
ومن وصيّته (عليه السلام)
لعسكره قبل لقاء العدوبصفّين


     لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلَى حُجَّة، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً(8)، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيح(9)،لاَ تَهِيجُوا
____________
     1. الحَيّز: ما يتحيز فيه الجسم أي يتمكن، والمراد منه مقر سلطتهما.
     1. الدِرْع: ما يلبس من مصنوع الحديد للوقاية من الضرب والطعن.
     2. المِجَنّ: التُرْس.
     3. الوَهْن: الضعف.
     4. السَقْطة: الغلطة.
     5. أحزم: أقرب للحزم.
     6. أمثل: أولى وأحسن.
     7. المُعْورِ ـ كمجرم ـ : الذي أمكن من نفسه وعجز عن حمايتها، وأصله أعْوَرَ: أبدى عورته.
     8. أجهَزَ على الجريح: تمم أسباب موته.


( 599 )


النِّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالاَْنْفُسِ وَالْعُقُولِ، إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ(1) أَوِ الْهِرَاوَةِ(2) فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.

[ 15 ]
وكان(عليه السلام) يقول إذا لقى العدوّ محارباً:


     اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ(3) الْقُلُوبُ، وَمُدَّتِ الاَْعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الاَْبْصَارُ، وَنُقِلَتِ الاَْقْدَامُ، وَأُنْضِيَتِ(4) الاَْبْدَانُ.
     اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ(5)، وَجَاشَتْ(6) مَرَاجِلُ(7) الاَْضْغَانِ(8).
     اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُوا إِلَيكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَتَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا.
     (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)

____________
     1. الفِهْر ـ بالكسر ـ : الحجر على مقدار ما يدق به الجوز أو يملا الكف.
     2. الهِرَاوَة ـ بالكسر ـ : العصا أو شبه المِقمَعَة من الخشب.
     3. أفْضَتْ: انتهت ووصلت.
     4. أنْضَيْتُ: أبَلَيْتُ بالهُزالِ والضعف في طاعتك.
     5. صرّحَ مكنونُ الشّنآن: صرح القوم بما كانوا يكتمون من البغضاء.
     6. جاشت: غَلَت.
     7. المراجل: القُدُور.
     8. الاضغان: جمع ضِغْن وهو الحقد.
    


( 600 )


[ 16 ]
وكان يقول (عليه السلام)
لاصحابه عند الحرب


     لاَ تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ(1)، وَلاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ، وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا، وَوَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا(2)، وَاذْمُرُوا(3) أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الْدَّعْسِيِّ(4)، وَالضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ(5)، وَأَمِيتُوا الاَْصْوَاتَ(6)، فإِنَّهُ أَطْردُ لِلْفَشَلِ، [فـ] والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَسْلَمُوا وَلَكِنِ اسْتَسْلَمُوا، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ.

____________
     1. لا تشتدن عليكم فَرّة بعدها كرّة: لايشق عليكم الامر إذا انهزمتم متى عدتم للكَرّة، ولا تثقل عليكم الدورة من وجه العدوإذا كانت بعدها حملة وهجوم عليه.
     2. وَطّئوا: مهّدوا للجُنوب، جمع جَنْب. مَصارِعها: أماكن سقوطها، أي اذا ضربتم فأحكموا الضرب ليصيب، فكأنكم مهدتم للمضروب مصرعه.
     3. اذْمُرُوا ـ على وزن اكتبوا ـ أي: حرضوا.
     4. الدَعْسيّ: اسم من الدَعْس أي الطعن الشديد.
     5. الطِّلَحْفِيّ ـ بكسر الطاء وفتح اللام ـ : أشد الضرب.
     6. إماتة الاصوات: انقطاعها بالسكوت.


( 601 )


[ 17 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية، جواباً عن كتاب منه


     وَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لاُِعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ.
     وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُس بَقِيَتْ، فَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى [الْجَنَّةِ،مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى] النّارِ.
     وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ، وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الاْخِرَةِ.
     وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ(1) كَالطَّلِيقِ(2)، وَلاَ الصَّرِيحُ(3) كَاللَّصِيقِ(4)، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ
____________
     1. المُهَاجِر: من آمن في المخافة وهاجر تخلصاً منها. 2. الطّليق: الذي أسر فاطلق بالمنّ عليه أو الفدية، وأبوسفيان ومعاوية كانا من الطلقاء يوم الفتح.
     3. الصريح: صحيح النسب في ذوي الحسب.
     4. اللَصِيق: من ينتمي إليهم وهو أجنبي عنهم.


( 602 )


الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ(1)، وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
     وَفِي أَيْدِينَا بعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا(2) بِهَا الذَّلِيلَ.
     وَلَمَّا أَدْخَلَ اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هذِهِ الاُْمَّةُ طَوْعاً وَكَرْهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ: إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الاَْوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ.
     فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاَمُ.
____________
     1. المُدْغِل: المفسد.
     2. نَعَشْنا: رَفَعْنا.


( 603 )


[ 18 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عبد الله بن العباس وهو عامله على البصرة


     وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ، وَمَغْرِسُ الْفِتَنِ، فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالاِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَاحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
     وَقَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ(1) لِبَنِي تَمِيم، وَغِلْظَتُكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ بَنِي تَمِيم لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ(2) إِلاَّ طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ(3)، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْم(4) فِي جَاهِلِيَّة وَلاَ إِسْلاَم، وَإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً، وَقَرَابَةً خَاصَّةً، نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا، وَمَأزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا.
     فَارْبَعْ(5) أَبَا الْعَبَّاسِ، رَحِمَكَ اللهُ، فِيَما جَرَى عَلَى يَدِكَ وَلِسَانِكَ مِنْ خَيْر وَشَرّ! فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذلِكَ،كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلاَ يَفِيلَنَّ رَأَيِي(6) فِيكَ، وَالسَّلاَمُ.
____________
     1. تَنَمّرُكَ: أي تنكّر أخلاقك.
     2. غَيْبُوبة النجم: كناية عن الضعف.
     3. طلوع النجم: كناية عن القوة.
     4. الوَغْم ـ بفتح فسكون ـ : الحرب والحقد.
     5. اربَعْ: الرفُقْ وقف عند حد ما تعرف.
     6. فالَ رأيُهُ: ضعف.


( 604 )


[ 19 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى بعض عماله


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ(1) أهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً، وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لاََنْ يُدْنَوْا(2) لِشِرْكِهِمْ، وَلاَ أَنْ يُقْصَواْ(3) وَيُجْفَوْا(4) لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ(5) بِطَرَف مِنَ الشِّدَّةِ، وَدَاوِلْ(6) لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالاِْدْنَاءِ، وَالاِْبْعَادِ وَالاِْقْصَاءِ، إِنْ شَاءَاللهُ.

____________
     1. الدَهَاقين: الاكابر، الزعماء أرباب الاملاك بالسواد، واحدهم دِهقان ـ بكسر الدال ـ ولفظه معرّب.
     2. يُدْنَوا: يقرّبوا.
     3. يُقْصَوْا: يبعدوا. 4. يُجْفَوا: يعاملوا بخشونة.
     5. تشوبه: تخلطه.
     6. داول: اسلك فيهم منهجاً متوسطاً.


( 605 )


[ 20 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى زياد بن أبيه


     وهو خليفة عامله عبدالله بن العباس على البصرة، وعبد الله عامل أميرالمؤمنين(عليه السلام)يومئذ عليها وعلى كور الاهواز(1) وفارس وكرمان:
     وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللهِ قَسَماً صَادِقاً، لَئِنْ بَلَغَني أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ(2) الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، لاََشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ(3)، ثَقِيلَ الظَّهْرِ(4)، ضَئِيلَ الاَْمْرِ(5)، وَالسَّلاَمُ.

[ 21 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إليه أيضاً


     فَدَعِ الاِْسْرَافَ مُقْتَصِداً، وَاذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً، وَأَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ، وَقَدِّمِ الْفَضْلَ(6) لِيَوْمِ حَاجَتِكَ.
     أَتَرْجُوا أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ! وَتَطْمَعُ ـ وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ(7)، تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ والاَْرْمَلَةَ ـ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمتَصَدِّقِينَ؟ وَإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌ بَمَا [أ] سلَفَ(8)، وَقَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ، وَالسَّلاَمُ.
____________
     1. كُوَر: جمع كُورة وهي الناحية المضافة إلى أعمال بلد من البلدان. والاهواز: تسع كُوَر بين البصرة وفارس.
     2. فيئهم: ما لهم من غنيمة أو خراج.
     3. الوَفْر: المال.
     4. ثقيل الظهر: أي مسكين لا تقدر على مؤونة عيالك.
     5. الضَئِيل: الضعيف النحيف. وضئيل الامر: الحقير.
     6. الفضل: ما يفضل من المال. 7. المتمرّغ في النعم: المتقلب في الترف.
     8. أسلف: قدم في سالف أيامه.
    


( 606 )


[ 22 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عبدالله بن العباس


     وكان ابن عباس يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام:
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ(1)، وَيَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ(2)، فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ، وَلْيَكُنْ أسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا، وَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلاَ تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً، وَمَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ فِيَما بَعْدَ الْمَوْتِ.

____________
     1. يفوته الشيء: يذهب عنه إلى غير رجعة.
     2. يدركه: يناله ويصيبه.


( 607 )


[ 23 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
قاله قُبَيْلَ موته لمّا ضربه ابن ملجم على سبيل الوصية


     وَصِيَّتِي لَكُمْ: أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله) فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هذَيْنِ الْعَمُودَينِ، وَخَلاَ كُمْ ذَمٌّ(1).
     أَنَا بالاَْمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ، إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا (أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)
     وَاللهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِب(2) وَرَدَ، وَطَالِب وَجَدَ، (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلاَْبْرَارِ)

      وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدّم من الخطب، إلاّ أنّ فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره.

    
____________
     1. خلاكم ذمّ: عداكم وجاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصية.
     2. القارب: طالب الماء ليلاً، ولايقال لطالبه نهاراً.


( 608 )


[ 24 ]
ومن وصية له(عليه السلام)
بما يُعمل في أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين


     هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب أمِيرُالْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، لِيُولِجَني(1) بِهِ الْجَنَّةَ، وَيُعْطِيَني الاَْمَنَةَ(2).

منها:


     فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذلِكَ الْحَسنُ بْنُ علِيّ، يأْكُلُ مِنْهُ بِالْمعْروفِ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ فِي المَعْروفِ، فَإِنْ حَدَثَ(3) بِحَسَن حَدَثٌ وَحُسَيْنٌ حَيٌّ، قَامَ بِالاَْمْرِ بَعْدَهُ، وَأَصْدَرَهُ(4) مَصْدَرَهُ.
     وَإِنَّ لاِبْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقةِ عَلِيّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيّ، وَإِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَقُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ، وَتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ(5).
     وَيَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ(6)، وَيُنْقفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَهُدِيَ لَهُ،أَلاَّ يَبِيعَ مِنْ أَوْلاَدِ نَخِيلَ هذِهِ الْقُرَى
____________
     1. يُولِجُهُ: يُدْخله.
     2. الامَنَةُ ـ بالتحريك ـ : الامن.
     3. الحَدَث ـ بالتحريك ـ : الحادث، أي الموت.
     4. أصدره: أجراه كما كان يجري على يد الحسن.
     5. الوُصْلة ـ بالضم ـ : الصلة وهي ـ هنا ـ القرابة.
     6. ترك المال على أصوله: أن لا يباع منه شيء ولا يقطع منه غرس.


( 609 )


وَدِيَّةً(1) حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً.
     وَمَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي ـ اللاَّتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ(2) ـ لَهَا وَلَدٌ، أَوْهِيَ حَامِلٌ، فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَهِيَ مِنْ حَظِّهِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ، قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ، وَحَرَّرَهَا الْعِتْقُ.

      قوله(عليه السلام) في هذه الوصية: "وألا يبيع من نخلها وَدِيَّةً"، الوَدِيَّةُ: الفَسِيلَةُ، وجمعها وَدِيٌّ. وَقوله(عليه السلام): "حتى تشكل أرضها غراساً" هو من أفصح الكلام، والمراد به: أن الارض يكثر فيها غراس النخل حتّى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها.

    

[ 25 ]
ومن وصية له(عليه السلام)
كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات


     و إنما ذكرنا منها جملاً هاهنا ليُعلَمَ بها أنه(عليه السلام) كان يقيم عماد الحق، ويشرع أمثلة العدل، في صغير الامور وكبيرها، ودقيقها وجليلها.
     انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ تُرَوِّعَنَّ(3) مُسْلِماً، وَلاَ تَجْتَازَنَّ(4) عَلَيْهِ كَارِهاً، وَلاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ.
    
____________
     1. الوَدِيّة ـ كهديّة ـ : واحدة الودي أي صغار النخل، وهو ـ هنا ـ الفَسِيل. 2. أطوف عليهن: كناية عن غشيانهن.
     3. رَوّعه ترويعاً: خوّفه.
     4. الاجتياز: المرور.


( 610 )


فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ(1)، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ، لاِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ، فَلاَ تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ(2) مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ(3) أَوْ تُرْهِقَهُ(4)، فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة، فَإنْ كَانَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ تَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ، فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْها دُخُولَ مُتَسَلِّط عَلَيْهِ وَلاَ عَنِيف بِهِ، وَلاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلاَ تُفْزِعَنَّهَا،وَلاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا، وَاصْدَعِ الْمَالَ(5) صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ(6)، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقيَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ
____________
     1. أخْدَجَتِ السحابةُ: قَلّ مطرها، والمراد من قوله: "لاتخْدِج بالتحية لهم": لا تبخل بها عليهم.
     2. أنْعَمَ لك: أي قال لك نعم.
     3. تعْسِفه: تأخذه بشدة.
     4. تُرْهِقه: تكلّقُهُ ما يصعب عليه.
     5. صدع المال: قسمه قسمين.
     6. خيّره في الاشياء: ترك له أن يختار منها ما يشاء.


( 611 )


خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَ، فَلاَ تَزَالُ بِذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ، فَاقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ(1)، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا، ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ.
     وَلاَ تَأْخُذَنَّ عَوْداً(2)، وَلاَ هَرِمَةً(3)، وَلاَ مَكْسُورَةً، وَلاَ مَهْلُوسَةً(4)، وَلاَ ذَاتَ عَوَار(5).
     وَلاَ تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلاَّ مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ، رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ.
     وَلاَ تُوَكِّلْ بِهَا إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً، وَأَمِيناً حَفِيظاً، غَيْرَ مُعَنِّف وَلاَ مُجْحِف(6)، وَلاَ مُلْغِب(7) وَلاَ مُتْعِب.
    
____________
     1. إن استقالكَ فأقِلْهُ: أي إن ظن في نفسه سوء الاختيار وطلب الاعفاء من هذه القسمة فأعفه منها.
     2. العَوْد ـ بفتح فسكون ـ : المسنة من الابل.
     3. الهَرِمة من الابل: أسنّ من العَوْد.
     4. المهلوسة: الضعيفة، هَلَسَهُ المرض: أضعفه.
     5. العَوار ـ بفتح العين ـ : العيب.
     6. المُجْحِف: من يشتد في سَوْق الابل حتى تهزل.
     7. الملغب: الذي يعيي غيره ويتعبد، وهو من اللغوب: الاعياء.


( 612 )


ثُمَّ احْدُرْ(1) إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ، نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِهِ.
     فَإِذَا أَخذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ: أَلاَّ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَة وَبَيْنَ فَصِيلِهَا(2)، وَلاَ يَمْصُرَ لَبَنَهَا(3) فَيَضُرَّ ذلِكَ بِوَلَدِهَا، وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا، وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ(4)، وَلْيَسْتَأْنِ(5) بِالنَّقِبِ(6)وَالظَّالِعِ(7)، وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ(8)، وَلاَ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الاَْرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ(9)، وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ، وَلْـيُمْهِلْهَا عِنْدَ
____________
     1. حَدَرَ يَحْدرُ ـ كينصر ويضرب ـ : أسرع، والمراد سُقْ إلينا سريعاً.
     2. فَصِيل الناقة: ولدها وهو رضيع.
     3. مَصْر اللبن: حلب مافي الضرْع جميعه.
     4. ليرفّه عن اللاّغب: أي ليرح ما أُلْغِبَ أي أعياه التعب.
     5. ليستأن: أي يرفق من الاناة بمعنى الرفق.
     6. النَّقِب ـ بفتح فكسر ـ : ما نَقِبَ خُفّهُ ـ كفرح ـ أي: تَخَرَّق. 7. ظَلَعَ البعيرُ: غمز في مشيته.
     8. الغُدُر ـ جمع غدير ـ : ما غادره السيل من المياه.
     9. جوَادّ الطرق: يريد بها ـ هنا ـ الطرق التي لا مرعى فيها.


( 613 )


النِّطَافِ(1) وَالاَْعْشَابِ، حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللهِ بُدَّناً(2) مُنْقِيَات(3)، غَيْرَ مُتْعَبَات وَلاَ مَجْهُودَات(4)، لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ(عليه السلام) فَإِنَّ ذلِكَ أَعْظَمُ لاَِجْرِكَ، وَأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

[ 26 ]
ومن عهد له(عليه السلام)
إلى بعض عمّاله، وقد بعثه على الصدقة


     آمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أُمُورِهِ وَخَفِيَّاتِ أَعْمَالِهِ، حَيْثُ لاَ شَهِيدَ غَيْرُهُ، وَلاَ وَكِيلَ دُونَهُ.
     وَآمَرَهُ أَلاَّ يَعْمَلَ بَشَيْء مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيما ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيَما أَسَرَّ، وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ عَلاَنِيَتُهُ، وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ، فَقَدْ أَدّى الاَْمَانَةَ، وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ.
     وَآمَرَهُ أَلاَّ يَجْبَهَهُمْ(5)، وَلاَ يَعْضَهَهُمْ(6)، وَلاَ يَرْغَبَ عَنْهُمْ(7) تَفَضُّلاً
____________
     1. النِّطاف ـ جمع نُطْفة ـ : المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل. 2. البُدّن ـ بضم الباء وتشديد الدال ـ : السمينة.
     3. المُنْقِيات: اسم فاعل من أنْقَتِ الابلُ إذا سمنت، وأصله صارت ذات نِقْي ـ بكسر فسكون ـ أي: مُخّ.
     4. مجهودات: بلغ منها الجهد والعناء مبلغاً عظيماً.
     5. جَبَهَهُ ـ كمنعه ـ : أصله ضرب جَبْهته، والمراد: واجهه بما يكره.
     6. عَضِهَ فلاناً ـ كفرح ـ : بهته.
     7. لا يرغب عنهم: لايتجافى.


( 614 )


بِالاِْمَارَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الاِْخْوَانُ فِي الدِّينِ، وَالاَْعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ.
     وَإِنَّ لَكَ في هذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً، وَحَقّاً مَعْلُوماً، وَشُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَة، وَضَعَفَاءَ ذَوِي فَاقَة،إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ، فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبُؤْساً(1) لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالسَّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ وَالْغَارِمُ وَابْنُ السَّبِيلِ!
     وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالاَْمَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، وَلَمْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ(2)، وَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى.
     وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الاُْمَّةِ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الاَْئِمَّةِ، وَالسَّلاَم.

____________
     1. بئس ـ كسمع ـ بؤساً: اشتدّت حاجته.
     2. الخِزْي ـ بكسر الخاء وسكون الزاي ـ : أشد الذل.


( 615 )


[ 27 ]
ومن عهد له(عليه السلام)
إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر


     فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ(1) بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ(2)، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ.
     وَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ.
     وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الاْخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يُشَارِكُهم أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ; سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ(3)، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ، لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ، وَلاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّة.
     فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللهِ الْمَوْتَ وَقُرْبَهُ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْر
____________
     1. آسِ: أمر من آسى ـ بمد الهمزة ـ أي سَوّى، يريد: اجعلْ بعضهم أُسوة بعض أي مستوين. 2. حَيْفك لهم: أي ظلمك لاجلهم.
     3. المترفون: المنعمون.


( 616 )


عَظِيم، وَخَطْب جَلِيل، بِخَيْر لاَ يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً، أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً، فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا! وَمَنْ أَقْرَبُ إِلى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا! وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخْذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَككُمْ، وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ(1)، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ.
     فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ، دَارٌ لَيْسَ فِيها رَحْمَةٌ، وَلاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ، وَلاَ تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَهٌ.
     وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ، فَاجْمَعُوا بيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لله.
     وَاعْلَمْ ـ يَا مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْر ـ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ(2)، وَأَنْ تُنَافِحَ(3) عَنْ دِينِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ، وَلاَ تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَى أَحَد مِنْ
____________
     1. النَوَاصي ـ جمع ناصية ـ : مُقَدّم شعر الرأس.
     2. تخالف على نفسك: أي تخالف شهوة نفسك.
     3. المنافحة: المدافعة والمجالدة.


( 617 )


خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ(1)، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ.
     صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْمُوَقَّتِ لَهَا، وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغ، وَلاَ تُؤْخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاشْتِغَال، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْء مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ.

ومن هذا العهد:


     فَإِنَّهُ لاَ سَوَاءَ، إِمَامُ الْهُدَى وَإِمَامُ الرَّدَى،وَوَلِيُّ النَّبِىِّ وَعَدُوُّ النَّبِيِّ،وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله): "إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلاَ مُشْرِكاً، أَمَّا الْمُؤمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ(2) اللهُ بِشِرْكِهِ،لكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مَنَافِقِ الْجَنَانِ(3)، عَالِمِ اللِّسَانِ(4)، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ،وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ".

____________
     1. إنّ في الله خَلَفاً من غيره: أي عِوَضاً.
     2. يَقْمَعه: يقهره.
     3. منافق الجَنان: من أسرّ النفاق في قلبه.
     4. عالم اللسان: من يعرف أحكام الشريعة ويسهل عليه بيانها فيقول حقاً يعرفه المؤمنون ويفعل منكراً ينكرونه.


( 618 )


[ 28 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية جواباً


     وهو من محاسن الكتب.
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ [فِيهِ] اصْطِفَاءَ اللهِ تعالى مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) لِدِينِهِ، وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً(1)، إِذْ طَفِقْتَ(2) تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اللهِ(3) عِنْدَنَا، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ الَّتمْرِ إِلَى هَجَرَ(4)، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ(5) إِلَى النِّضَالِ(6).
     وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الاِْسْلاَمِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ(7) كُلُّهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ(8)، وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ! وَمَا لِلطُّلَقَاءِ(9) وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالـتَّمْييزَ
____________
     1. حَبّأَ عجباً: أخفى أمراً عجيباً ثم أظهره.
     2. طفقت ـ بفتح فكسر ـ : أخذت.
     3. بَلاء الله: إنعامه وإحسانه.
     4. ناقِل التّمر إلى هَجَر: مثل قديم. وهَجَر: مدينة بالبحرين كثيرة النخيل.
     5. المُسَدّد: معلم رمي السهام.
     6. النضال: الترامي بالسهام.
     7. اعتزلك: جعلك بمعزل عنه.
     8. ثَلْمه: عيبه.
     9. الطُلَقاء: الذين أُسروا في الحرب ثم أُطلقوا، وكان منهم أبو سفيان ومعاوية.


( 619 )


بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الاَْوَّلِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ! هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ(1) قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا، وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا!
     أَلاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا الاِْنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ(2)، وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ(3)، وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ! فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ، وَلاَ لَكَ ظَفَرُ الظَّافِرِ!
     وَإِنَّكَ لَذَهّابٌ(4) فِي التِّيهِ(5)، رَوَّاغٌ(6) عَنِ الْقَصْدِ(7).
     أَلاَ تَرَى ـ غَيْرَ مُخْبِر لَكَ، لكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ ـ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُهاجِرينَ،لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا(8)
____________
     1. حَنّ: صوّت. والقِدْح ـ بالكسر ـ : السهم، وإذا كان سهم يخالف السهام كان له عند الرمي صوت يخالف أصواتها، مثلٌ يضرب لمن يفتخر بقوم ليس منهم.
     2. الظّلْع: مصدر ظَلَعَ البعير بظلع إذا غمز في مشيته، يقال اربع على ظلعك، أي قف عند حدّك.
     3. الذرع ـ بالفتح ـ : بسط اليد، ويقال للمقدار.
     4. ذهّاب ـ بتشديد الهاء ـ : كثير الذهاب.
     5. التيه: الضلال.
     6. الرَوّاغ: المَيّال.
     7. القصد: الاعتدال.
     8. شهيدنا: هو حمزة بن عبدالمطلب استشهد في أُحد.


( 620 )


قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ!
     أَوَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْديِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَلِكُلّ فَضْلٌ ـ حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا(1) كمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُوالْجَنَاحَيْنِ!
     وَلَوْ لاَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً(2)، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا(3) آذَانُ السَّامِعِينَ.
     فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِه الرَّمِيَّةُ(4)، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا(5)، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا.
    
____________
     1. واحدنا: هو جعفر بن أبي طالب أخو الامام.
     2. جَمّة: أي كثيرة.
     3. تمجّها: تقذفها.
     4. الرَمِيّة: الصيد يرميه الصائد. ومالت به الرَمِيّة: خالفت قصده فاتبعها، مثل يضرب لمن اعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه.
     5. صنائع: جمع صَنِيعة، وصنيعة الملك: من يصطنعه لنفسه ويرفع قدره، وآل النبي أسراء إحسان الله عليهم، والناس أسراء فضلهم بعد ذلك.


( 621 )


لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلاَ عَادِيُّ(1) طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بَأَنفُسِنَا، فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنا، فِعْلَ الاَْكْفَاءِ(2)، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ! وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ(3)، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ(4) وَمِنْكُمْ أَسَدُ الاَْحْلاَفِ(5)، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ(6) وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ(7)، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينِ(8) وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ(9)، فِي كَثِير مِمَّا لَنَا
____________
     1. العادي: الاعتيادي المعروف.
     2. الاكْفَاء ـ جمع كُفْؤ بالضم ـ : النظير في الشرف.
     3. يريد بالمكذّب هنا: أبا جهل.
     4. أسد الله: حمزة.
     5. أسد الاحلاف: أبو سفيان، لانه حزّب الاحزاب وحالفهم على قتال النبي في غزوة الخندق.
     6. سيداشباب أهل الجنة: الحسن والحسين بنص قول الرسول.
     7. صبية النار: قيل هم أولاد مروان بن الحكم، أخبر النبي عنهم وهم صبيان بأنهم من أهل النار، ومرقوا عن الدين في كبرهم.
     8. خير النساء: فاطمة.
     9. حَمّالة الحطب: أم جميل بنت حرب، عمة معاوية وزوجة أبي لهب.


( 622 )


وَعَلَيْكُمْ!
     فَإِسْلاَمُنَا مَا قَدْ سُمِعَ، وَجَاهِلِيَّتُنَا لاَ تُدْفَعُ(1)، وَكِتَابُ اللهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (وَأُولُو الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤمِنِينَ)، فَنَحْنُ مَرَّةً أوْلَى بِالْقَرَابَةِ، وَتَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ.
     وَلَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الاَْنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ(2) بِرَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله)فَلَجُوا عَلَيْهِمْ(3)، فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالاْنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ.
     وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ، وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيْسَ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ.

وَتِلْكَ شَكَاةٌ(4) ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا(5)


    
____________
     1. جاهليتنا لا تُدْفَع: شرفنا في الجاهلية لا ينكره أحد.
     2. يوم السَقِيفَة: هو يوم اجتماع البعض في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول الله.
     3. فَلَجوا عليهم أي: ظفروا بهم.
     4. شَكاة ـ بالفتح ـ أي: نقيصة، وأصلها المرض.
     5. ظاهرٌ عنكَ عارها: أي بعيد، وأصلة من ظهر إذا صار ظهراً أي خلفاً.


( 623 )


وَقُلْتَ: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْـمَخْشُوشُ(1) حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ! وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَة(2) فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ، وَلاَ مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ!
     وَهذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا، وَلكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ(3)مِنْ ذِكْرِهَا.
     ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمانَ، فَلَكَ أ َنْ تُجَابَ عَنْ هذِهِ لِرَحِمِكَ منْهُ(4)، فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ(5)،أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ(6)! أَمْ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ(7) وَاسْتَكَفَّهُ(8)، أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاَخى عَنْهُ بَثَّ
____________
     1. الجمل المخشوش: هو الذي جُعِل في أنفه الخِشاش ـ بكسر الخاء ـ وهو ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب لينقاد.
     2. الغَضاضة: النقص.
     3. سنح: أي ظهر وعرض. 4. لِرَحِمِكَ منه: لقرابتك منه يصح الجدال معك فيه.
     5. أعدى: أشد عدواناً.
     6. المَقاتل: وجوه القتال ومواضعه.
     7. استقعده: طلب قعوده ولم يقبل نصره.
     8. اسْتَكَفّه: طلب كفّه عن الشيء.


( 624 )


الْـمَنُونَ إِلَيْهِ(1)، حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ، كَلاَّ وَاللهِ لَقَد عَلِمَ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ(2)مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لاِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأَتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَليلاً.
     وَمَا كُنْتُ لاَِعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ(3) عَلَيْهِ أَحْدَاثاً(4)، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَهِدَايَتِي لَهُ، فَرُبَّ مَلُوم لاَ ذَنْبَ لَهُ.

وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ(5) الْمُتَنَصِّحُ(6)


     وَمَا أَرَدْتُ (إِلاَّ الاِْصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)
     وَذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَلاَ لاَِصْحَابِي عِنْدَكَ إِلاَّ السَّيْفُ، فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ
____________
     1. بثّوا المَنُون إليه: أفضَوْا بها إليه.
     2. المعوِّقون: المانعون من النصرة.
     3. نَقَمَ عليه ـ كضرب ـ : عاب عليه.
     4. الاحداث ـ جمع حدث ـ : البدعة.
     5. الظِنّة ـ بالكسر ـ : التهمة.
     6. المتنصح: المبالغ في النصح.


( 625 )


بَعْدَ اسْتِعْبَار(1)! مَتَى أُلْفِيَتْ(2) بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الاَْعْدَاءِ نَاكِلِينَ(3)، وبِالسُّيُوفِ مُخَوَّفِينَ؟!

فَـ لَبِّثْ(4) قَلِيلاً يَلْحَقِ الْهَيْجَا(5) حَمَلْ(6)


     فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ، وَيَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ، وَأَنَا مُرْقِلٌ(7) نَحْوَكَ فِي جَحْفَل(8) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ [لَهُمْ] بِإِحْسَان، شَدِيد زِحَامُهُمْ، سَاطِع(9) قَتَامُهُمْ(10)، مُتَسَرْبِلِينَ(11) سَرَابِيلَ الْمَوْتِ، أَحَبُّ اللِّقَاءِ
____________
     1. الاستعبار: الكباء.
     2. ألفيْت: وجدت.
     3. ناكلين: متأخرين.
     4. لَبِّث ـ بتشديد الباء ـ : فعل أمر من لبثه إذا استزاد لبثه، أي مكثه، يريد امهل.
     5. الهَيْجاء: الحرب.
     6. حَمَل ـ بالتحريك ـ : هو ابن بدر، رجل من قشير أغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها.
     7. مُرْقِل: مسرع.
     8. الجَحْفَل: الجيش العظيم.
     9. الساطع: المنتشر.
     10. القَتام ـ بالفتح ـ : الغبار.
     11. متسربلين: لابسين لباس الموت كأنهم في أكفانهم.


( 626 )


إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ(1)، وَسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَخَالِكَ وَجَدِّكَ وَأَهْلِكَ(2)، (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد)

[ 29 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أهل البصرة


     وَقَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ(3) وَشِقَاقِكُمْ مَا لَوْ تَغْبَوْا عَنْهُ(4)، فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ، وَرَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ، وَقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ.
     فَإِنْ خَطَتْ(5) بِكُمُ الاُْمُورُ الْمُرْدِيَةُ(6)، وَسَفَهُ الاْرَاءِ(7) الْجَائِرَةِ(8)،
____________
     1. بَدْرِيّة: من ذراري أهل بدر.
     2. أخوه حنظلة، وخاله الوليد بن عتبة، وجده عتبة بن ربيعة.
     3. انتشار الحبل: تفرق طاقاته وانحلال فتله، مجاز عن التفرق.
     4. غبا عنه: جهله.
     5. خَطَتْ: تجاوزت.
     6. المُرْدِية: المهلكة.
     7. سَفه الاراء: ضعفها.
     8. الجائرة: المائلة عن الحق.


( 627 )


إِلَىُ مُنَابَذَتِي(1) وَخِلاَفِي، فَهَا أَنَاذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي(2)، وَرَحَلْتُ(3) رِكَابِي(4).
     وَلَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ، لاَُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ(5) لاَعِق، مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ، وَلِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ، غَيْرُ مُتَجَاوِز مُتَّهَماً إِلَى بَرِيّ، وَلاَ ناكِثاً(6) إِلَى وَفيّ.

____________
     1. المُنابذة: المخالفة.
2. قرّب خيله: أدناها منه ليركبها.
     3. رَحَل ركابه: شد الرحال عليها.
     4. الركاب: الابل.
     5. اللَعْقة: اللحسة، وقد شبه الوقعة باللَعْقة في السهولة وسرعة الانتهاء.
     6. الناكث: ناقض العهد.


( 628 )


[ 30 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     فَاتَّقِ اللهَ فِيَما لَدَيْكَ، وَانْظُرْ في حَقِّهِ عَلَيْكَ، وَارْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لاَ تُعْذَرُ بَجَهَالَتِهِ، فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلاَماً وَاضِحَةً، وَسُبُلاً نَيِّرَةً، وَمَحَجَّةً(1) نَهْجَةً(2)، وَغَايَةً مُطَّلَبَةً(3)، يَرِدُهَا الاَْكْيَاسُ(4)، وَيُخَالِفُهَا الاَْنْكَاسُ(5)، مَنْ نَكَبَ(6) عَنْهَا جَارَ(7) عَنِ الْحَقِّ، وَخَبَطَ(8) فِي التِّيهِ(9)، وَغَيَّرَ اللهُ نِعْمَتَهُ، وَأحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ.
    
____________
     1. المَحَجّة: الطريق المستقيم. 2. النَهْجَة: الواضحة.
     3. مُطّلَبة ـ بالتشديد ـ : مساعفة لطالبها بما يطلبه.
     4. الاكياس: العقلاء، جمع كَيّس كسيّد.
     5. الانكاس ـ جمع نِكْس بكسر النون ـ : الدنيء الخسيس.
     6. نَكَب: عدل.
     7. جَار: مال.
     8. خَبَطَ: مشى على غير هداية.
     9. التيه: الضلال.


( 629 )


فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ! فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَكَ سَبِيلَكَ، وَحَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ، فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْر(1)، وَمَحَلَّةِ كُفْر، وَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْحَلَتْكَ شَرّاً، وَأَقْحَمَتْكَ(2) غَيّاً(3)، وَأَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ، وَأَوْعَرَتْ(4) عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ.

____________
     1. أجرَيْت إلى غاية خُسْر: أجريت مطيتك مسرعاً إلى غاية خسران.
     2. أقحمتك: رمت بك.
     3. الغَيّ: ضد الرشاد.
     4. أوْعَرَت: أخشنت وصعبت.


( 630 )


[ 31 ]
ومن وصيّته (عليه السلام)
للحسن بن علي(عليه السلام)، كتبها إليه بـ "حاضرين"(1)
عند انصرافه من صفّين


     مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ(2)، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِ لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الاَْسْقَامِ(3)،رَهِينَةِ(4) الاَْيَّامِ، وَرَمِيَّةِ(5) الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ،قَرِينِ الاَْحْزَانِ، وَنُصْبِ الاْفَاتِ(6)، وَصَرِيعِ(7) الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الاَْمْوَاتِ.
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ فِيَما تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ(8) عَلَيَّ، وَإِقْبَالِ الاْخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي(9) عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالاْهْتَِمامِ بِمَا
____________
     1. حاضرين: اسم بلدة في نواحي صفّين.
     2. المقرّ للزمان: المعترف له بالشدة.
     3. غرض الاسقام: هدف الامراض ترمي إليه سهامها.
     4. الرهينة: المرهونة، أي أنه في قبضة الايام وحكمها.
     5. الرَمِيّة: ما أصابه السهم.
     6. نُصب الافات: لا تفارقه العلل، وهو من قولهم: فلان نصب عيني ـ بالضم ـ أي لا يفارقني.
     7. الصريع: الطريح. 8. جُموح الدهر: استقصاؤه وتغلّبه.
     9. يَزَعُني: يكفّني ويصدّني.


( 631 )


وَرَائِي(1)، غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَفَنِي(2)رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي(3)، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْق لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ.
     وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي،
     فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ(4) إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.
     فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ـ أَيْ بُنيَّ ـ وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالاْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثقُ مِنْ سَبَب بَيْنكَ وَبَيْنَ اللهِ عَزّوَجَلَّ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ!
     أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ(5)، وَبَصِّرْهُ(6) فَجَائِعَ(7) الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ
____________
     1. ماورائي: كناية عن أمر الاخرة.
     2. صَدَفَه: صرفه.
     3. محض الامر: خالصه.
     4. مستظهراً به: أي مستعيناً به.
     5. قَرِّرْه بالفناء: اطلب منه الاقرار بالفناء.
     6. بَصِّرْه: اجعله بصيراً.
     7. الفجائع: جمع فجيعة وهي المصيبة تفزع بحلولها.


( 632 )


صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الاَْوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ مَا فَعَلُواعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا! فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الاَْحِبَّةِ، وَحَلُّوا دَارَالْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ.
     فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ، فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الاَْهْوَالِ، وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ(1) مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئم، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ(2) إلَى الحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ، وَأَلْجِىءْ نَفْسَكَ فِي الاُمُورِ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى
____________
     1. باينْ: أي باعدْ وجانبْ.
     2. الغَمَرات: الشدائد.


( 633 )


كَهْف(1) حَرِيز(2)، وَمَانِع عَزِيز، وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ(3)، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ [عَنْكَ ]صَفْحاً(4)، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ.
     وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْم لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْم لاَ يَحِقُّ(5) تَعَلُّمُهُ.
     أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً(6)، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً(7)، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ(8) إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي
____________
     1. الكهف: الملجأ.
     2. الحريز: الحافظ
     3. الاستخارة: إجالة الرأي في الامر قبل فعله لاختيار أفضل وجوهه.
     4. صَفْحاً: جانباً.
     5. لايحق ـ بكسر الحاء وضمها ـ : أي لا يكون من الحق.
     6. بَلَغْتُ سناً: أي وصلت النهاية من جهة السن.
     7. الوَهْن: الضعف.
     8. أفضي: ألقي إليك.


( 634 )


جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ(1) النَّفُورِ(2)، وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالاَْرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيء قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالاَْدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ(3) مِنَ الاَْمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ(4) وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ، وَاسْتَبَانَ(5) لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ.
     أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ(6)،تَوَخَّيْتُ(7) لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ
____________
     1. الفرس الصعب: غير المذلل. 2. النّفُور: ضد الانس.
     3. جدّ رأيك: أي محقَّقُه وثابته. 4. كفاه بُغْية الشيء: أغناه عن طلبه.
     5. استبان: ظهر.
     6. النَخِيل: المختار المصفى.
     7. تَوَخّيت: أي تحرّيت.


( 635 )


عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ(1) مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ مُقْتَبَلُ(2) الدَّهْرِ، ذُونِيَّة سَلِيمَة، وَنَفْس صَافِيَة، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الاِْسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، لاَ أُجَاوِزُ ذلِكَ(3) بَكَ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ أَشْفَقْتُ(4) أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ(5) عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْر لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ(6)، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ.
    
____________
     1. أجمعت عليه: عزمت.
     2. مُقْتَبَل ـ بالفتح ـ من اقتبل الغلام فهو مقتبَل، وهو من الشواذ، والقياس مُقْتبِل بكسر الباء لانه اسم فاعل، ومُقْتبَل الانسان: أول عمره.
     3. لا أجاوز ذلك: لاأتعدى بك.
     4. أشفقت: أي خشيت وخفت.
     5. التبس: غمض.
     6. الهَلَكَة: الهَلاك.


( 636 )


وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ، وَالاِْقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالاَْخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الاَْوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا(1) أَنْ نَظَرُوا لاَِنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَْخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِْمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّم وَتَعَلُّم، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ.
     وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة(2) أَوْلَجَتْكَ(3) فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة.
     فَإذا أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ أنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ(4)،
____________
     1. لم يَدَعوا: لم يتركوا.
     2. الشائِبة: ما يشوب الفكر من شك وحيرة.
     3. أوْلجَتْك: أدخلتك.
     4. العَشْواء: الضعيفة البصر، أي تخبط خبط الناقة العشواء لا تأمن أن تسقط فيما لاخلاص منه.


( 637 )


وَتَتَوَرَّطُ(1) الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ، وَالاِْمْسَاكُ(2) عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ(3).
     فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَمَالِكُ الحَيَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَالاِْبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَاشَاءَ مِمَّا لاَ تعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ بِهِ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ جَاهِلاً ثُمَّ عَلِمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الاَْمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ ! فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ وَسَوَّاكَ، وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ(4).
     وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نَبِيُّنَا(صلى الله عليه وآله)فَارْضَ بِهِ رَائِداً(5)، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً، فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً(6)، وَإِنَّكَ لَنْ
____________
     1. تورّط الامر: دخل فيه على صعوبة في التخلص منه.
     2. الامساك عن الشيء: حبس النفس عنه. 3. أمثل: أفضل.
     4. شفقتك: خوفك.
     5. الرائد: من ترسله في طلب الكلا ليتعرف موقعه، والرسول قد عرف عن الله وأخبرنا فهو رائد سعادتنا.
     6. لم آلُكَ نصيحةً: أي لم أقصّر في نصيحتك.


( 638 )


تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ ـ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ ـ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ.
     وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لاََتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَة، عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر.
     فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ(1)، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ،عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَن، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيح.
     يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا، وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الاْخِرَةِ وَمَااُعِدَّ لاَِهْلِهَا فِيهَا،وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الاَْمْثَالَ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَعَلَيْهَا.
     إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا(2) كَمَثَلِ قَوْم سَفْر(3)، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ(4)
____________
     1. خطره: أي قدره.
     2. خَبَرَ الدنيا: عرفها كما هي بامتحان أحوالها.
     3. السَفْر ـ بفتح فسكون ـ : المسافرون.
     4. نَبَا المنزل بأهله: لم يوافقهم المقام فيه لوخامته.


( 639 )


جَدِيبٌ(1)، فأَمُّوا(2) مَنْزِلاً خَصِيباً وَجَنَاباً(3) مَرِيعاً(4)، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ(5) الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ(6) الْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْء مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّهِمْ.
     وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْم كَانُوا بِمَنْزِل خَصِيب، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِل جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ،
____________
     1. الجَدِيب: المُقْحِط لاخير فيه.
     2. أمّوا: قصدوا.
     3. الجَناب: الناحية.
     4. المَرِيع ـ بفتح فكسر ـ : كثير العشب.
     5. وَعْثاء السفر: مشقته.
     6. الجُشُوبة ـ بضم الجيم ـ : الغِلَظ.


( 640 )


إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ(1)، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ.
     يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.
     وَاعْلَمْ، أَنَّ الاِْعْجَابَ(2) ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاَْلْبَابِ(3). فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ(4)، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ(5)، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ.
     وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَة بَعِيدَة، وَمَشَقَّة شَدِيدَة، وَأَنَّهُ لاَ غِنَى
____________
     1. هجم عليه: انتهى إليه بغتة.
     2. الاعجاب: استحسان ما يصدر عن النفس مطلقاً.
     3. آفة: علّة. والالباب: العقول.
     4. الكَدْح: أشد السعي.
     5. خازناً لغيرك: تجمع المال ليأخذه الوارثون بعدك.


( 641 )


بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الاِْرْتِيَادِ(1)، وَقَدْرِ بَلاَغِكَ(2) مِنَ الزَّادِ، مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ(3) مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ، وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ.
     وَاعْلَمْ، أَنَّ أمَامَكَ عَقَبَةً كَؤوداً(4)، الْـمُخِفُّ(5) فِيهَا أَحْسَنُ حَالاً مِن الْمُثْقِلِ(6)، وَالْمُبْطِىءُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ، وَأَنَّ مَهْبِطَهَابِكَ لاَمَحَالَةَ عَلَى جَنَّة أَوْ عَلَى نَار، فَارْتَدْ(7) لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَوَطِّىءِ
____________
     1. الارتياد: الطلب. وحسنه: إتيانه من وجهه.
     2. البَلاَغ ـ بالفتح ـ : الكِفاية.
     3. الفاقة: الفقر.
     4. كؤوداً: صعبة المرتقى.
     5. المُخِفّ ـ بضم فكسر ـ : الذي خفف حمله.
     6. المُثْقِل: هو من أثقل ظهره بالاوزار.
     7. ارْتَدِهِ: ابعث رائداً من طيبات الاعمال توقفك الثقة به على جودة المنزل.


( 642 )


الْمنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ(1)، وَلاَ إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ(2).
     وَاعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكفَّلَ لَكَ بِالاِْجَابَةِ،أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَالنِّقْمَةِ، [وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالاِْنَابَةِ(3)]، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ [بِكَ أَوْلَى]، وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الاِْنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ(4) عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ(5)،
____________
     1. المُسْتَعْتَب: مصدر ميمي من استعتب، والاستعتاب: الاسترضاء، والمراد أن الله لا يسترضي بعد إغضابه إلاّ باستئناف العمل.
     2. المُنْصَرَف: مصدر ميمي من انصرف، والمراد لا انصراف إلى الدنيا بعد الموت.
     3. الانابة: الرجوع إلى الله.
     4. نُزوعك: رجوعك.
     5. المُنَاجاة: المكالمة سراً.


( 643 )


فَأَفْضَيْتَ(1) إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ(2) ذاتَ نَفْسِكَ(3)، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَك، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ(4)، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الاَْعْمَارِ، وَصِحَّةِ الاَْبْدَانِ، وَسَعَةِ الاَْرْزَاقِ.
     ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلتِهِ، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعَمِهِ، وَاسْتَمْطَرْتَ شآبِيبَ(5) رَحْمَتِهِ، فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ(6) إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الاِْجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لاَِجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ، وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجلاً أَوْ آجِلاً، أ َوْ صُرِفَ عَنْكَ
____________
     1. أفْضَيْت: ألقيت. 2. أبثثته: كاشفته.
     3. ذات النفس: حالتها.
     4. اسْتَكْشَفْته كروبك: طلبت كشف غمومك.
     5. شآبيب: جمع الشؤبوب بالضم، وهو الدفعة من المطر، وما أشبه رحمة الله بالمطر ينزل على الارض الموات فيحييها.
     6. القنوط: اليأس.


( 644 )


لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسَأَلَتُكَ فِيَما يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ.
     وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَة(1)، وَدَارِ بُلْغَة(2)، وَطرِيق إِلَى الاْخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَال سَيِّئَة، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكتَ نَفْسَكَ.

[ذكر الموت]


     يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ(3)، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ(4)، وَلاَ
____________
     1. قُلْعة ـ بضم القاف وسكون اللام وبضمتين وبضم ففتح ـ : يقال منزل قلعة أي لايُمْلَك لنازله، أولا يدري متى ينتقل عنه.
     2. البُلْغة: الكفاية وما يتبلغ به من العيش.
     3. الحِذْر ـ بالكسر ـ : الاحتراز والاحتراس.
     4. الازْر ـ بالفتح ـ : القوة.


( 645 )


يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ(1).
     وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا(2) إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ(3) عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ(4) لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ(5)، يَهِرُّ(6) بَعْضُهَا بَعْضاً،يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ(7) مُعَقَّلَةٌ(8)، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ(9)
____________
     1. بهر ـ كمنع ـ : غلب، أي يغلبك على أمرك.
     2. إخلاد أهل الدنيا: سكونهم إليها.
     3. التكالب: التواثب.
     4. نعاه: أخبر بموته، والدنيا تخبر بحالها عن فنائها.
     5. ضارية: مولعة بالافتراس.
     6. يهِرّ ـ بكسر الهاء ـ : يعوي وينبح، وأصلها هَرِير الكلب، وهو صوته دون حاجة من قلة صبره على البرد، فقد شبه الامام أهل الدنيا بالكلاب العاوية.
     7. النّعَم ـ بالتحريك ـ : الابل.
     8. مُعَقّلَة ـ من عَقّل البعير بالتشديد ـ : شدّ وَظِيفَهُ إلى ذراعه.
     9. أضلّت: أضاعت.


( 646 )


عُقُولَهَا،رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا(1)، سُرُوحُ(2) عَاهَة(3) بِوَاد وَعْث(4)، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقيِمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ(5) يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُواهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.

[الترفق في الطلب]


     رُوَيْداً يُسْفِرُ(6) الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الاَْظْعَانُ(7)، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ!
     وَاعْلَمْ، أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً(8).
    
____________
     1. مجهولها: طريقها المجهول لها.
     2. السُروح ـ بالضم ـ : جمع سَرْح ـ بفتح فسكون ـ وهو المال السارح السائم من إبل ونحوها.
     3. العاهة: الافة، فالمراد بقوله: سروح عاهة، أنهم يسرحون لرعي الافات.
     4. الوَعْث: الرخو يصعب السير فيه.
     5. مُسيم: من أسام الدابة يسيمها: سرحها إلى المرعى.
     6. يُسْفِر: يكشف.
     7. الاظْعان: جمع ظعينة، وهي الهودج تركب فيه المرأة، عبر به عن المسافرين في طريق الدنيا إلى الاخرة.
     8. الوادع: الساكن المستريح.


( 647 )


وَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ(1) فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ(2) فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَب(3)، فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق، وَلاَكُلُّ مُجْمِل بِمَحْروُم، وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة(4) وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ(5)، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً(6). وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، ويُسْر(7) لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْر(8)؟!
    
____________
     1. خَفِّضْ: أمر من خَفّضَ ـ بالتشديد ـ أي ارفق.
     2. اجمل في كَسْبِه: أي سعى سعياً جميلاً، لا يحرص فيمنع الحق، ولا يطمع فيتناول ما ليس بحق.
     3. الحَرَب ـ بالتحريك ـ : سلب المال.
     4. الدَنِيّة: الشيء الحقير المبتذل.
     5. الرغائب: جمع رغيبة، وهي ما يرغب في اقتنائه من مال وغيره.
     6. عِوَضاً: بدلاً.
     7. اليُسْر: السهولة، والمراد سعة العيش.
     8. العُسْر: الصعوبة، والمراد ضيق العيش.


( 648 )


وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ(1) بِكَ مَطَايَا(2) الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ(3) الْهَلَكَةِ(4)، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ بَيْنَ اللهِ ذُونِعْمَة فَافْعَلْ، فإِنَّكَ مُدْرِكٌ قِسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ.

[وصايا شتّى]


     وَتَلاَفِيكَ(5) مَا فَرَطَ(6) مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ(7) مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ(8)، وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ
____________
     1. تُوجِف: تسرع.
     2. المَطَايَا: جمع مطية، وهي ما يركب ويمتطى من الدواب ونحوها.
     3. المَناهل: ما ترده الابل ونحوها للشرب.
     4. الهلكة: الهلاك والموت.
     5. التلافي: التدارك لا صلاح ما فسد أو كاد.
     6. ما فرط أي: قصر عن إفادة الغرض أوإنالة الوطَر.
     7. إدراك ما فات: هو اللحاق به لاجل استرجاعه، وفات: أي سبق إلى غير عودة.
     8. بشدّ وكائها: أي رباطها.


( 649 )


إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ، وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ، وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ(1)، وَرُبَّ سَاعِ فِيَما يَضُرُّهُ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ(2)، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ، قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً(3) كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً، رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ(4).
     وَإِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى(5)، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى(6)، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ، بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً، لَيْسَ كُلُّ طَالِب يُصِيبُ، وَلاَ كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ، وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ،
____________
     1. أحْفَظُ لسرّه: أشد صوناً له وحرصاً على عدم البوح به.
     2. أهجرَ إهجاراً وهُجْراً ـ بالضم ـ : هذى يهذي في كلامه.
     3. الخُرْق ـ بالضم ـ : العنف.
     4. المُسْتَنْصَح ـ اسم مفعول ـ : المطلوب منه النصح.
     5. المُنى ـ جمع منية بضم فسكون ـ : ما يتمناه الشخص لنفسه ويعلل نفسه باحتمال الوصول إليه.
     6. النّوكى: جمع أنوك، وهو كالاحمق وزناً ومعنى.


( 650 )


وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، وَرُبَّ يَسِير أَنْمَى مِنْ كَثِير! لاَ خَيْرَ فِي مُعِين مَهِين(1)، وَلاَ فِي صَدِيق ظَنِين(2)، سَاهِلِ الدَّهْرَ(3) مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ(4)، وَلاَ تُخَاطِرْ بِشَيء رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِيَّاك أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ(5).
     احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ(6) عَلَى الصِّلَةِ(7)، وَعِنْدَ صُدُودِهِ(8) عَلَى اللَّطَفِ(9) وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ(10) عَلَى الْبَذْلِ(11)،
____________
     1. مَهِين ـ بفتح الميم ـ : بمعنى حقير، والحقير لا يصلح أن يكون مُعيناً.
     2. الظَنِين ـ بالظاء ـ : المتهم.
     3. ساهِلِ الدهر: خذ حظك منه بسهولة ويسر.
     4. القَعُود ـ بفتح أوله ـ : الجمل الذي يقتعده الراعي في كل حاجته، وللفصيل، أي: ساهل الدهر ما دام منقاداً وخذ حظك من قياده.
     5. المَطِيّة: ما يركب ويمتطي. واللَجاج ـ بالفتح ـ : الخصومة.
     6. صَرْمِهِ: قطيعته.
     7. الصِلَة: الوصال، وهو ضد القطيعة.
     8. الصُدود: الهجر.
     9. اللّطَف ـ بفتح اللام والطاء ـ : الاسم من ألطفه بكذا أي برّه به.
     10. جموده: بخله.
     11. البَذْل: العطاء.


( 651 )


وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُونِعْمَة عَلَيْكَ.
     وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنةً كَانَتْ أَمْ قَبِيحَةً، وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ(1)، فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً(2)، وَلِنْ(3) لِمَنْ غَالَظَكَ(4)، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ، وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَا، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَّنهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخ
____________
     1. الغيظ: الغضب الشديد.
     2. المَغَبّة ـ بفتحتين ثم باء مشددة ـ : بمعنى العاقبة.
     3. لِنْ: أمر من اللين ضد الغلظ والخشونة.
     4. غالظلك: عاملك بغلظ وخشونة.


( 652 )


مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه، وَلاَ يكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ، وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تكُونَنَّ عَلَى الاِْسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الاِْحْسَانِ، وَلاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِكَ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ.
     وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ(1)، وَإِنْ جَزِعْتَ عَلَى مَا تَفَلَّتَ(2) مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ.
     اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ، فَإِنَّ الاُْمُورَ أَشْبَاهٌ، وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالاَْدَبِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ.
     اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ، مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ(3) جَارَ(4)، وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ(5)، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ(6)،
____________
     1. مثواك: مُقامك، من ثوى يثوي: أقام يقيم، والمراد ـ هنا ـ منزلتك من الكرامة.
     2. تفلّت ـ بتشديد اللام ـ أي: تملّص من اليد فلم تحفظه.
     3. القصد: الاعتدال.
     4. جار: مال عن الصواب.
     5. الصاحِب مناسب: أي يراعى فيه ما يراعى في قرابة النسب.
     6. الغيْب: ضد الحضور، أي من حفظ لك حقك وهو غائب عنك.


( 653 )


وَالْهَوَى(1) شَرِيكُ الْعَمَى، رُبَّ بَعِيد أَقْرَبُ مِنْ قَرِيب، وَقَرِيب أَبْعَدُ مِنْ بَعِيد، وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ، مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ، وَأوْثَقُ سَبَب أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ(2) فَهُوَ عَدُوُّكَ، قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً، إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلاَكاً، لَيْسَ كُلُّ عَوْرَة تَظْهَرُ، وَلاَ كُلُّ فُرْصَة تُصَابُ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ،أَصَابَ الاَْعْمَى رُشْدَهُ.
     أَخِّرِ الشَّرَّ، فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ(3)، وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ، مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ أَعْظَمَهُ(4) أَهَانَهُ، لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ، إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ.
     سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ.
     إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً، وَإِنْ حَكَيْتَ ذلِكَ عَنْ غَيْرِكَ.
____________
     1. الهوى: شهوة غير منضبطة ولا مملوكة بسلطان الشرع والادب. 2. لم يُبَالِكَ أي: لم يهتم بأمرك، باليته وباليت به أي: راعيته واعتنيت به.
     3. تَعَجّلْتَه: استبقت حدوثه.
     4. أعظمه: هابَهُ وأكبر من قدره.


( 654 )


[الرأي في المرأة]


     وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ رَأَيَهُنَّ إِلَى أَفْن(1)، وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْن(2).
     وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مَنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَيُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ.
     وَلاَ تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَة(3).
     وَلاَ تَعْدُ(4) بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا.
     وَإِيَّاكَ وَالتَّغايُرَ(5) فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَة، فَإِنَّ ذلِكَ يَدْعُوالصَّحِيحَةَ إِلَى
____________
     1. الافْن ـ بالسكون ـ : النقص.
     2. الوَهْن: الضعف.
     3. القَهْرَمان: الذي يحكم في الامور ويتصرف فيها بأمره.
     4. لاتَعْدُ ـ بفتح فسكون ـ أي: لا تجاوز بإكرامها نفسها فتكرم غيرها بشفاعتها.
     5. التغاير: إظهار الغيرة على المرأة بسوء الظن في حالها من غير موجب.


( 655 )


السَّقَمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ.
     وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَان مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا(1) فِي خِدْمَتِكَ.
     وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُولُ.

[دعاء]


     أسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ، وَأسْأَلُهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَالاْجِلَةِ، وَالدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ، إنْ شَاءَاللهُ

____________
     1. يتواكلوا: يتكل بعضهم على بعض.


( 656 )


[ 32 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     وَأَرْدَيْتَ(1) جِيلاً مِنَ النَّاسِ كَثِيراً، خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ(2)، وَأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ، تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ،تَتَلاَطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ، فَجاروا عَنْ وِجْهَتِهِمْ(3)، وَنَكَصُوا(4) عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَتَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَعَوَّلُوا(5) عَلَى أحْسَابِهِمْ، إِلاَّ مَنْ فَاءَ(6) مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ، وَهَرَبُوا إِلَى اللهِ سُبحانَهُ مِنْ مُوَازَرَتِكَ(7)، إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ، وَعَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ.
     فَاتَّقِ اللهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ، وَجَاذِبِ الشَّيْطَانَ(8) قيَادَكَ(9)، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ، وَالاْخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، وَالسَّلاَمُ.
    
____________
     1. أرْدَيْت: أهلكت جيلاً، أي قبيلاً وصنفاً.
     2. الغَيّ: الضلال، ضد الرشاد.
     3. وِجهتهم ـ بكسر الواوـ أي: جهة قصدهم.
     4. نكصوا: رجعوا.
     5. عوّلوا: أي اعتمدوا.
     6. فاء: رجع، والمراد هنا الرجوع إلى الحق.
     7. المُوازَرَة: المعاضدة.
     8. جاذب الشيطان أي: إذا جذبك الشيطان فامنع نفسك من متابعته.
     9. القِياد: ما تقاد به الدابة.


( 657 )



[ 33 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى قُثَمَ بن العبّاس، وهو عامله على مكّة


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَيْنِي(1) ـ بِالْمَغْرِبِ(2) ـ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوْسِمِ(3) أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، الْعُمْيِ الْقُلُوبِ، الصُمِّ الاَْسْمَاعِ، الْكُمْهِ(4) الاَْبْصَارِ، الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الْحَقَّ بِالبَاطِلِ، وَيُطِيعُونَ الْـمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَيَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا(5) دَرَّهَا(6) بِالدِّينِ، وَيَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الاَْبْرَارِ الْمُتَّقِينَ، وَلَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلاَّ عَامِلُهُ، وَلاَ يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلاَّ فَاعِلُهُ.
    
____________
     1. عَيْنى: أي رقيبي الذي يأتيني بالاخبار.
     2. بالمغرب: بالاقاليم الغربية.
     3. يراد بالموسم هنا: الحج.
     4. الكُمْه: جمع أكمه، وهو من ولد أعمى. 5. يحتلبون الدنيا: يستخلصون خيرها.
     6. الدَرّ ـ بالفتح ـ : اللبن.


( 658 )


فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ الْحَازِمِ الصَّلِيبِ(1)، وَالنَّاصِحِ اللَّبِيبِ، التَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ، الْمُطِيعِ لاِِمَامِهِ.
     وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، وَلاَ تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ(2) بَطِراً(3)، وَلاَ عِنْدَ الْبَأْسَاءِ(4) فَشِلاً(5)، وَالسَّلاَمُ.

[ 34 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى محمد بن أبي بكر


     لما بلغه توجّده(6) من عزله بالاشتر عن مصر، ثم توفي الاشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها
     وَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ(7) مِنْ تَسْرِيحِ(8) الاَْشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ(9)، وَإِنِّي لَمْ
____________
     1. الصليب: الشديد.
     2. النَعْماء: الرخاء والسعة.
     3. البَطِر: الشديد الفرح مع ثقة بدوام النعمة.
     4. البَأساء: الشدة. 5. فَشِلاً: جباناً ضعيفاً.
     6. توجّده: تكدّره.
     7. مَوْجِدتك أي: غيظك.
     8. التسريح: الارسال.
     9. العمل ـ هنا ـ : الولاية.


( 659 )


أَفْعَلْ ذلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الجَهْدِ، وَلاَ ازدِياداً لَكَ فِي الْجِدِّ، وَلَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ، لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلاَيَةً.
     إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً، وَعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً(1)، فَرَحِمَهُ اللهُ! فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، وَلاَقَى حِمَامَهُ(2)، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضونَ، أَوْلاَهُ اللهُ رِضْوَانَهُ، وَضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ.
     فَأَصْحِرْ(3) لِعَدُوِّكَ، وَامْضِ عَلَى بَصيرَتِكَ، وَشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ، وَادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ، وَأَكْثِرِ الاسْتِعَانَةَ بِاللهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

____________
     1. ناقماً: أي كارهاً.
     2. الحِمام ـ بالكسر ـ : الموت.
     3. أصْحِرْ له أي: ابرزْ له، من أصحر: إذا برز للصحراء.


( 660 )


[ 35 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عبدالله بن العباس، بعد مقتل محمّد بن أبي بكر بمصر


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْر ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ قَدِ اسْتُشْهِدَ، فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُهُ(1)، وَلَداً نَاصِحاً، وَعَامِلاً كَادِحاً(2)، وَسَيْفاً قَاطِعاً، وَرُكْناً دَافِعاً.
     وَقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَدَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَجَهْراً، وَعَوْداً وَبَدْءاً، فَمِنْهُمُ الاْتِي كَارِهاً، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً، وَمِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً.
     أَسْأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجلاً، فَوَاللهِ لَوْ لاَ طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ، وَتَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ، لاََحْبَبْتُ أَلاَّ أَبْقَى مَعَ هؤُلاَءِ يَوْماً وَاحِداً، وَلاَ أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً.

____________
     1. احتسبه عندالله: اسأل الاجر على الرزية فيه.
     2. الكادح: المبالغ في سعيه.


( 661 )


[ 36 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)


في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الاعداء، وهو جواب كتاب كتبه إليه أخوه عقيل بن أبي طالب
     فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذلِكَ شَمَّرَ هَارباً، وَنَكَصَ نَادِماً، فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ طَفَّلَتِ(1) الشَّمْسُ لِلاِْيَابِ(2)، فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلاَ وَلاَ(3)، فَمَا كَانَ إِلاَّ كَمَوْقِفِ سَاعَة حَتَّى نَجَا جَرِيضاً(4) بَعْدَمَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْـمُخَنَّقِ(5)، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ غَيْرُ الرَّمَقِ(6)، فَلاَْياً بِلاَْي مَا نَجَا(7).
    
____________
     1. طفّلت تطفيلاً: أي دنت وقربت.
     2. الاياب: الرجوع إلى مغربها.
     3. ولا: كناية عن السرعة التامة، فان حرفين ثانيهما حرف لين سريع الانقضاء عند السمع، والمعروف عندأهل الغة: كلاّ وذا
     قال ابن هانىء المغربي:

وأسرع في العين من لحظة

وأقصر في السمع منلا و


     4. نجا جَرِيضاً: أي قد غصّ بريقه من شدة الجهد والكرب، يقال جَرَضَ بريقه يجرِض بالكسر، مثال كسر يكسر.
     5. المُخَنَّق ـ بضم ففتح فنون مشددة ـ : موضع الخنق من الحيوان.
     6. الرّمَق ـ بالتحريك ـ : بقية الروح.
     7. لاياً: مصدر محذوف العامل، ومعناه الشدة والعسر، و"ما" بعده مصدرية; و "نجا" في معنى المصدر، أي عسرت نجاته عسراً بعسر.


( 662 )


فَدَعْ عَنْكَ قُرَيشاً وَتَرْكَاضَهُمْ(1) فِي الضَّلاَلِ، وَتَجْوَالَهُمْ(2) فِي الشِّقَاقِ(3)، وَجِمَاحَهُمْ(4) فِي التِّيهِ(5)، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسوُلِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) قَبْلِي، فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي(6)! فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَسَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي(7).
     وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأيِي فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ الْـمُحِلِّينَ(8) حَتَّى أَلْقَى اللهَ، لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً،
____________
     1. التركاض: مبالغة في الركض، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال.
     2. التجْوال: مبالغة في الجول والجولان.
     3. الشِقاق: الخلاف.
     4. جِماحهم: استعصاؤهم على سابق الحق.
     5. التيه: الضلال والغواية.
     6. الجَوازي: جمع جَازِية وهي النفس التي تجزي، كناية عن المكافأة، وقوله: جزأتهم الجوازي، دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم.
     7. قوله: ابن أمي، يريد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين ربت رسول الله في حجرها، فقال النبي في شأنها: "فاطمة أمي بعد أمي".
     8. المُحِلّون: الذين يحلون القتال ويجوزونه.


( 663 )


وَلاَ تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِيكَ ـ وَلَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ ـ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً، وَلاَ مُقِرّاً لِلضَّيْمِ(1) وَاهِناً(2)، وَلاَ سَلِسَ(3) الزِّمَامِ(4) لِلْقَائِدِ، وَلاَ وَطِىءَ(5) الظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ المُقْتَعِدَ، وَلكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سُلِيم:
    

فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي

صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ صَلِيبُ(6)

يَعِزُّ عَلَيَّ(7) أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ(8)

فَيَشْمَتَ عَاد(1) أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ


____________
     1. مُقِرّاً للضيم: راضياً بالظلم.
     2. واهناً: ضعيفاً.
     3. السَلِس ـ بفتح فكسر ـ : السهل.
     4. الزمام: العنان الذي تقاد به الدابة.
     5. الوطِىء: اللين.
     6. صليب: شديد.
     7. يعز عليّ: يشق عليّ.
     8. الكآبة: ما يظهر على الوجه من أثر الحزن.


( 664 )


[ 37 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     فَسُبْحَانَ الله! مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلاَْهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَالْحَيْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ(2)، مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ وَاطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ، الَّتِي هِيَ لله طِلْبَةٌ(3)، وَعَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ.
     فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ(4) فِي عُثْمانَ وَقَتَلَتِهِ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ، وَخَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ، وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. عاد: أي عدوّ.
     2. الحَيْرَة المُتّبعة: اسم مفعول من اتّبعه، والحَيْرة ـ هنا ـ بمعنى الهوى الذي يتردد الانسان في قبوله.
     3. طِلْبَة ـ بالكسر وبفتح فكسر ـ : مطلوبة.
     4. الحِجاج ـ بالكسر ـ : الجدال.


( 665 )


[ 38 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أهل مصر، لما ولّى عليهم الاشتر رحمه الله


     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنينَ، إِلَى الْقَومِ الَّذِينَ غَضِبُوا لله حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ، وَذُهِبَ بِحَقِّهِ، فَضَرَبَ الْجَوْرُ(1) سُرَادِقَهُ(2) عَلَى الْبَرِّ(3) وَالْفَاجِرِ، وَالْمُقِيمِ وَالظَّاعِنِ(4)، فَلاَ مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ(5)، وَلاَ مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ.
     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِاللهِ عَزَّوَجَلَّ، لاَيَنَامُ أَيَّامَ الخَوْفِ، وَلاَ يَنْكُلُ عَنِ(6) الاَْعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ(7)، أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرَيقِ النَّارِ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِج(8)، فَاسْمَعُوا لَهُ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيَما
____________
     1. الجَوْر: الظلم والبغي.
     2. السُرادِق ـ بضم السين ـ : الغطاء الذي يمد فوق صحن البيت.
     3. البَرّ ـ بفتح الباء ـ : التقي.
     4. الظاعن: المسافر.
     5. يستراح إليه: يعمل به، وأصله استراح إليه، بمعنى: سكن واطمأن، والسكون إلى المعروف يستلزم العمل به.
     6. نَكَلَ عنه ـ كضرب ونصر وعلم ـ : نكص وجبن.
     7. الرّوْع: الخوف.
     8. مَذْحِج ـ كمجلس ـ : قبيلة مالك، وأصله اسم أكمة ولد عندها أبو القبيلتين طيّىء ومالك، فسميت قبيلتاهما به.


( 666 )


طَابَقَ الْحَقَّ، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، لاَ كَلِيلُ(1) الظُّبَةِ(2)، وَلاَ نَابِي(3) الضَّرِيبَةِ(4)، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فانْفِرُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقيِمُوا فَأَقِيمُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُقْدِمُ وَلاَ يُحْجِمُ، وَلاَ يُؤَخِّرُ وَلاَ يُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِي، وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ(5) عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ، وَشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ(6) عَلَى عَدُوِّكُمْ.

____________
     1. الكليل: الذي لايقطع.
     2. الظُّبَة ـ بضم ففتح مخفف ـ : حد السيف والسنان ونحوها.
     3. النابي من السيوف: الذي لايقطع.
     4. الضريبة: المضروب بالسيف، وإنما دخلت التاء في ضريبة ـ وهي بمعنى المفعول ـ لذهابها مذهب الاسماء كالنطيحة والذبيحة.
     5. آثرتكم: خصصتكم به وأنا في حاجة اليه، تقديماً لنفعكم على نفعي.
     6. الشكيمة في اللجام: الحديدة المعرضة في فم الفرس، ويعبر بشدتها عن قوة النفس وشدة البأس.


( 667 )


[ 39 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عمروبن العاص


     فَإِنَّكَ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبْعاً لِدُنْيَا امْرِىء ظَاهِر غَيُّهُ، مَهْتُوك سِتْرُهُ، يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ، وَيُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ، فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ، وَطَلَبْتَ فَضْلَهُ، اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ(1)، يَلُوذُ إلَى مَخَالِبِهِ، وَيَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ، فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ! وَلَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ، فَإِنْ يُمَكِّنِ اللهُ مِنْكَ وَمِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُما، وَإِنْ تُعْجِزَا(2)وَتَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌ لَكُمَا، وَالسَّلاَمُ.

[ 40 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى بعض عماله


     أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ، إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ، وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ(3).
     بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الاَْرْضَ(4) فأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ، وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَالسَّلاَمُ.
____________
     1. الضِرْغام: الاسد.
     2. إن تُعْجزا: توقعاني في العجز، من أعجز يعجز إعجازاً، والمراد: أن تعجزاني عن الايقاع بكما فأمامكما حساب الله. 3. أخْزَيْت أمانتك: ألصقت بأمانتك خَزْية ـ بالفتح ـ أي رزية أفسدتها وأهانتها.
     4. جرّدت الارض: قشّرتها، والمعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال، وإلى إخراب الضياع.


( 668 )


[ 41 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى بعض عماله
وهو عبدالله بن العباس


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي(1)، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي، لِمُوَاسَاتِي(2) وَمُوَازَرَتِي(3) وَأَدَاءِ الاَْمَانَةِ إِلَيَّ.
     فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ(4)، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ(5)، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ(6)، وَهذهِ الاُْمَّةَ قَدْ فَتَنَتْ وَشَغَرَتْ(7)، قَلَبْتَ لاِبْنِ
____________
     1. أشركتك في أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمتُ فيه من الامر.
     2. المُواساة: من آساه: إذا أناله من ماله عن كفاف لا عن فضل، أو مطلقاً، وقالوا: ليست مصدراً لواساه فانه غير فصيح، وتقدم للامام استعماله، وهو حجة.
     3. الموازرة: المناصرة.
     4. كَلِب ـ كفرح ـ : اشتد وخشن.
     5. حَرِبَ ـ كفرح ـ : اشتد غضبه واستأسد في القتال.
     6. خزيت ـ كرضيت ـ : ذلت وهانت.
     7. شَغَرَت: لم يبق فيها من يحميها.


( 669 )


عَمِّكَ ظَهْرَ الِْمجَنِّ(1)، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ(2)، وَلاَ الاَْمَانَةَ أَدَّيْتَ.
     وَكَأَّنكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ(3) هذِهِ الاُْمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ(4) عَنْ فَيْئِهِمْ(5)!
     فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الاُْمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لاَِرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الاَْزَلِّ(6) دَامِيَةَ(7) الْمِعْزَى(8) الْكَسِيرَةَ(9)، فَحَمَلْتَهُ إِلَى
____________
     1. المِجَنّ: الترس، وقلب ظهر المجن: مثلٌ يضرب لمن يخالف ما عهد فيه.
     2. آسَيْت: ساعدت وشاركت فى الملمات.
     3. كادَه عن الامر: خدعه حتى ناله منه.
     4. الغرّة: الغفلة.
     5. الفيء: مال الغنيمة والخراج، وأصله ما وقع للمؤمنين صلحاً من غير قتال.
     6. الازَلّ ـ بتشديد اللام ـ : السريع الجرْي.
     7. الدامية: المجروحة.
     8. المِعْزَى: أُختُ الضأن، اسم الجنس كالمعز والمعيز.
     9. الكسيرة: المكسورة.


( 670 )


الْحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّم(1) مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ ـ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ(2) ـ حَدَرْتَ(3) إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ(4) مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ(5) الْحِسَابِ!
     أَيُّهَا الْمَعْدُودُ ـ كَانَ ـ عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الاَْلْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ(6) شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الاِْمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الاَْمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ؟!
     فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي
____________
     1. التأثّم: التحرّز من الاثم، بمعنى الذنب.
     2. لاأبَا لغيرك: عبارة تقال للتوبيخ مع التحامي من الدعاء على من يناله التقريع.
     3. حَدَرْتَ اليهم: أسرعت إليهم.
     4. تراث: ميراث.
     5. النقاش ـ بالكسر ـ : المناقشة، بمعنى الاستقصاء في الحساب.
     6. تُسيغ: تبلع بسهولة.


( 671 )


اللهُ مِنْكَ لاَُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ(1)، وَلاََضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ!
     وَ وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ(2)، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا.
     وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي، فَضَحِّ رُوَيْداً(3)، فَكَأنَّكَ قَدْ بَلَغَتَ الْمَدَى(4)، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى(5)، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْـمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ الرَّجْعَةَ، (وَلاَتَ حِينَ مَنَاص)(6)! وَالسَّلامُ.
____________
     1. لاعْذرنّ إلى الله فيك: أي لاعاقبنك عقاباً يكون لي عذراً عندالله من فعلتك هذه.
     2. الهَوَادَة ـ بالفتح ـ : الصلح واختصاص شخص ما بميل اليه وملاطفة له.
     3. ضَحِّ: من ضحيت الغنم: إذا رعيتها في الضحى، أي فارعَ نفسك على مهل.
     4. المَدَى ـ بالفتح ـ : الغاية.
     5. الثرى: التراب.
     6. لاتَ حين مناص أي: ليس الوقت وقت فرار.


( 672 )


[ 42 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي


     وكان عامله على البحرين، فعزله، واستعمل النعمان بن عجلان الزّرقي مكانه:
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُعْمَانَ بْنَ عَجْلاَنَ الزُّرَقيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَنَزَعْتُ يَدَكَ، بِلاَ ذَمٍّ لَكَ، وَلاَ تَثْرِيب(1) عَلَيْكَ، فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلاَيَةَ، وَأَدَّيْتَ الاَْمَانَةَ، فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِين(2)، وَلاَ مَلُوم، وَلاَ مُتَّهَم، وَلاَ مَأْثُوم، فَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ(3) أَهْلِ الشَّامِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ(4) عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَإِقَامَةِ عَمُودِ الدِّيِنِ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

____________
     1. التثريت: اللوم.
     2. الظنين: المتهم، وفي التنزيل:
(وما هو على الغيب بظنين)
     3. الظَلَمَة ـ بالتحريك ـ : جمع ظالم.
     4. أستظهر به: أستعين.


( 673 )


[ 43 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى مصقلة بن هُبَيرة الشيباني


     وهو عامله على أردشير خُرّة(1):
     بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَأَغْضَبْتَ إِمَامَكَ: أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ(2) الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُيُولُهُمْ، وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ، فِيمَنِ اعْتَامَكَ(3) مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ(4)، لَئِنْ كَانَ ذلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ بِكَ عَلَيَّ هَوَاناً، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً، فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلاَ تُصلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً.
     أَلاَ وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ(5) وَقِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هذَا الْفَيْءِ سَوَاءٌ، يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ،يَصْدُرُونَ عَنْهُ، والسَّلامُ.
____________
     1. أرْدَشير خُرّة ـ بضم الخاء وتشديد الراء ـ : بلدة من بلاد العجم.
     2. الفيء: مال الغنيمة والخراج، وأصله ما وقع للمؤمنين صلحاً من غير قتال.
     3. اعْتَامَك: اختارك، وأصله أخذ العِيمَة ـ بالكسر ـ وهي خيار المال.
     4. النّسَمَة ـ محرّكة ـ : الروح، وهي في البشر أرجح، وبرأها: خلقها.
     5. قِبَل ـ بكسر ففتح ـ : ظرف بمعنى عند.


( 674 )


[ 44 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى زياد بن أبيه
وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه


     وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاويَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ(1) لُبَّكَ(2)، وَيَسْتَفِلُّ(3) غَرْبَكَ(4)، فاحْذَرْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ(5)، وَيَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ(6).
     وَقَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَهٌ(7) مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَنَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، لاَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ، وَلاَ يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ، وَالنَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ.
     فلمّا قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها وربّ الكعبة، ولم يزل في نفسه حتى ادّعاه معاويةُ.
____________
     1. يَسْتَزِلّ أي: يطلب به الزلل، وهو الخطأ.
     2. اللّب: القلب.
     3. يَسْتَفِلّ ـ بالفاء ـ : يثلم.
     4. الغرْب ـ بفتح فسكون ـ : الحدة والنشاط.
     5. يقتحم غفلته: يدخل غفلته بغتة فيأخذه فيها، وتشبيه الغفلة بالبيت يسكن فيه الغافل من أحسن أنواع التشبيه.
     6. الغِرّة ـ بالكسر ـ : خلو العقل من ضروب الحيل، والمراد منها العقل الساذج.
     7. فلتة أبي سفيان: قوله في شأن زياد: إني أعلم من وضعه في رحم أمه، يريد نفسه.


( 675 )


      قوله(عليه السلام): "كَالْوَاغِلِ الْمُدَفّعِ" الواغلُ: هوالذي يهجم على الشّرْب ليشرب معهم وَليس منهم، فلا يزال مُدفّعاً محاجزاً. و"النّوْط المُذَبْذَب": هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبداً يتقلقل إذا حث ظهره واستعجل سيره.

    

[ 45 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عثمان بن حنيف الانصاري


     وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليهم
     أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة(1)، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ(2) الاَْلْوَانُ(3)، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ(4)، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم، عَائِلُهُمْ(5) مَجْفُوٌّ(6)،
____________
     1. المأدبة ـ بفتح الدال وضمها ـ : الطعام يصنع لدعوة أو عرس.
     2. تُستَطاب لك: يطلب لك طيبها.
     3. الالوان: المراد هنا أصناف الطعام.
     4. الجِفان ـ بكسر الجيم ـ : جمع جفنة وهي القصعة.
     5. عائلهم: محتاجهم.
     6. مجفو: أي مطرود، من الجفاء.


( 676 )


وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ.
     فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ(1) مِنْ هذَ الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ(2)، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.
     أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ.
     أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ(3)، وَمِنْ طُعْمِهِ(4) بِقُرْصَيْهِ(5).
     أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد، [وَعِفَّة وَسَدَاد](6).
    
____________
     1. قَضِمَ ـ كسمع ـ : أكل بطرف أسنانه، والمراد الاكل مطلقاً، والمَقْضَم ـ كمقعد ـ : المأكل.
     2. ألفظه: أطرحه.
     3. الطِمْر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق البالي.
     4. طُعْمه ـ بضم الطاءـ : ما يطعمه ويفطر عليه.
     5. قُرْصَيْه: تثنية قرص، وهو الرغيف.
     6. السداد: التصرف الرشيد، وأصله الثواب والاحتراز من الخطأ.


( 677 )


فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً(1)، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً(2)، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً(3).
     بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ.
     وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك(4) وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا(5) فِي غَد جَدَثٌ(6)، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لاََضْغَطَهَا(7) الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ(8)، وَسَدَّ فُرَجَهَا(9) التُّرَابُ
____________
     1. التِبْر ـ بكسر فسكون ـ : فُتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ.
     2. الوَفْر: المال.
     3. الطِمْر: الثوب البالي، وقد سبق قريباً، والثوب هنا عبارة عن الطمرين، فان مجموع الرداء والازار يعد ثوباً واحداً، فبهما يكسى البدن لا بأحدهما.
     4. فَدَك ـ بالتحريك ـ : قرية لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان صالح أهلها على النصف من نخيلها بعد خيبر; وإجماع الشيعة على أنه كان أعطاها فاطمة(عليها السلام) قبل وفاته، إلاّ أن أبابكر سلبها من يدها غصباً.
     5. المظانّ: جمع مظنة وهوالمكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء.
     6. جَدَث ـ بالتحريك ـ أي: قبر.
     7. أضْغَطَها: جعَلها من الضيق بحيث تضغط وتعصر الحال فيها.
     8. المَدَر ـ جمع مَدَرة مثل قَصَب وقصبة ـ : وهو التراب المتلبد، أو قطع الطين.
     9. فُرَجها ـ جمع فُرْجَة مثال غُرَف و غُرفة ـ : كل منفرج بين شيئين.


( 678 )


الْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا(1) بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الاَْكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ(2).
     وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ(3)، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي(4) إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ(5)، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى(6)وَأَكْبَادٌ حَرَّى(7)، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
    
____________
     1. أرُوضُها: أذلّلها.
     2. المزلق ومثله المزلقة: موضع الزلل، وهو المكان الذى يخشى فيه أن تزل القدمان، والمراد هنا الصراط.
     3. القزّ: الحرير.
     4. الجشع: شدة الحرص.
     5. القُرْص: الرغيف.
     6. بطون غرثى: جائعة. 7. أكباد حرّى ـ مؤنث حران ـ أي: عطشان.


( 679 )


وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة(1)

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ(2)


     أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ(3) الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا(4)، تَكْتَرِشُ(5) مِنْ أَعْلاَفِهَا(6)، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ(7) طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ(8)!
    
____________
     1. البِطْنَة ـ بكسر الباء ـ : البطر والاشر.
     2. القِدّ ـ بالكسر ـ : سير من جلد غير مدبوغ.
     3. الجُشوبة: الخشونة، وتقول: جشب الطعام ـ كنصر وسمع ـ فهو جَشْب، وجَشِب كشهم وبطر، وجشيب ومِجْشاب ومجشوب أي غَلُظَ فهو غليظ.
     4. تقمّمها: التقاطها للقمامة، أي الكناسة.
     5. تكترش: تملا كرشها.
     6. الاعلاف ـ جمع علف ـ : ما يهيأ للدابة لتأكله.
     7. اعْتَسف: ركب الطريق على غير قصد.
     8. المَتاهة: موضع الحيرة.


( 680 )


وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِب، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الاَْقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ.
     أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ(1) أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ(2) أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَةَ(3) أَقْوَى وَقُوداً(4)، وَأَبْطَأُ خُمُوداً، وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)كَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ(5)، وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ(6).
     وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا،سَأَجْهَدُ(7) فِي أَنْ أُطَهِّرَ الاَْرضَ مِنْ هذَا الشَّخْصِ
____________
     1. الشجرة البريّة: التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه.
     2. الرَوَائِع الخَضِرة: الاشجار والاعشاب الغضة الناعمة التي تنبت في الارض الندية.
     3. النابتات العِذْية: التي تنبت عذياً، والعِذْي ـ بسكون الذال ـ : الزرع لايسقيه إلاّ ماء المطر.
     4. الوَقود: اشتعال النار.
     5. الصنوان: النخلتان يجمعهما أصل واحد.
     6. الذراع من العضد: شبه الامام نفسه من الرسول بالذراع الذي أصله العضد، كناية عن شدة الامتزاج والقرب بينهما.
     7. جَهَدَ ـ كمنع ـ : جد.


( 681 )


الْمَعْكُوسِ، وَالْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ(1)، حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ(2) مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ(3).
     إِلَيْكَ عَنِّي(4) يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ(5)، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ(6)، وَأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ(7)، وَاجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ(8).
     أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بَمَدَاعِبِكَ(9)؟! أَيْنَ الاُْمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ
____________
     1. المركوس: من الركس، وهو رد الشيء مقلوباً وقلب آخره على أو له، والمراد مقلوب الفكر.
     2. المَدَرَة ـ بالتحريك ـ : قطعة الطين اليابس.
     3. حبّ الحصيد: حب النبات المحصود كالقمح ونحوه، والمراد بخروج المدرة من حبّ الحصيد: أنه يطهر المؤمنين من المخالفين.
     4. اليْكِ عني: اذهبي عني.
     5. الغارِب: مابين السَنام والعنق، وقوله(عليه السلام) للدنيا: "حبلك على غاربك" والجملة تمثيل لتسريحها تذهب حيث شاءت.
     6. انسَلّ من مخالبها: لم يعلق به شيء من شهواتها.
     7. الحابئل: جمع حِبالة وهي شبكة الصياد.
     8. المداحض: المساقط والمزالق.
     9. المَدَاعب ـ جمع مَدْعَبة ـ : من الدعابة، وهي المزاح.


( 682 )


بِزَخَارِفِكِ؟! هَاهُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ، وَمَضَامِينُ اللُّحُودِ(1).
     وَاللهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً، وَقَالَباً حِسِّيّاً، لاََقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللهِ فِي عِبَاد غَرَرْتِهِمْ بِالاَْمَانِي، وَأُمَم أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي(2)، وَمُلُوك أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ، وَأَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلاَءِ، إِذْ لاَ وِرْدَ(3) وَلاَ صَدَرَ(4)!
     هَيْهَاتَ! مَنْ وَطِىءَ دَحْضَكِ(5) زَلِقَ(6)، وَمَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ، وَمَنِ ازْوَرَّ(7) عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ، وَالسَّالِمُ مِنْكِ لاَيُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ(8)،
____________
     1. مضامين الّحُود: أي الذين تضمنتهم القبور.
     2. المهاوي ـ جمع مهوى ـ : مكان السقوط، وهو من هوى يهوي.
     3. الوِرْد ـ بكسر الواوـ : ورود الماء.
     4. الصَدَر ـ بالتحريك ـ : الصدور عن الماء بعد الشرب.
     5. مكان دَحْض ـ بفتح فسكون ـ أي: زلق لا تثبت فيه الارجل.
     6. زلق: زلّ وسقط.
     7. ازوَرّ: مال وتنكب.
     8. مُنَاخه: أصله مبرك الابل، من أناخ يُنِيخ، والمراد به هنا: مُقامه.


( 683 )


وَالدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْم حَانَ(1) انْسِلاَخُهُ(2).
     اعْزُبِي(3) عَنِّي! فَوَاللهِ لاَ أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، وَلاَ أَسْلَسُ(4) لَكِ فَتَقُودِينِي.
     وَايْمُ اللهِ ـ يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ عَزَّوَجَلّ ـ لاََرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهشُّ(5) مَعَها إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً(6); وَلاََدَعَنَّ(7) مُقْلَتِي(8) كَعَيْنِ مَاء، نَضَبَ(9) مَعِينُهَا(10)،
____________
     1. حان: حضر.
     2. انسلاخه: زواله.
     3. عزب يعزب: أي بَعُد.
     4. لا أسلس: أي لا أنقاد.
     5. تهشّ إلى القُرص: تنبسط إلى الرغيف وتفرح به من شدة ما حرمته.
     6. مأدوماً: حال من الملح، أي مأدوماً به الطعام.
     7. لادَعَنّ: لاتْرُكَنّ.
     8. مقلتي: عيني.
     9. نَضَب: غار.
     10. مَعِينها ـ بفتح فكسر ـ : ماؤها الجاري.


( 684 )


مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا.
     أَتَمْتَلِىءُ السَّائِمَةُ(1) مِنْ رِعْيِهَا(2) فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ(3) مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ(4)؟ وَيَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ(5)؟ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ(6) إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ(7)، وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ!
     طُوبَى لِنَفْس أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا(8)،
____________
     1. السائمة: الانعام التي تسرح.
     2. رِعْيها ـ بكسر الراء ـ : الكلا.
     3. الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا كانت في مرابضها.
     4. الربوض للغنم: كالبروك للابل.
     5. يهجع: أي يسكن كما سكنت الحيوانات بعد طعامها.
     6. قَرّت عينه: دعاء على نفسه ببرود العين ـ أي جمودها ـ من فقد الحياة.
     7. الهاملة: المتروكة، والهَمْل من الغنم ترعى نهاراً بلا راع.
     8. البؤس: الضر، وعرك البؤس بالجنب: الصبر عليه كأنه شوك فيسحقه بجنبه.


( 685 )


وَهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا(1)، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى(2) عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا(3)، وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا(4)، فِي مَعْشَر أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، تَجَافَتْ(5) عَنْ مَضَاجِعِهِمْ(6) جُنُوبُهُمْ، وَهَمْهَمَتْ(7) بِذِكْرِ رَبِّهِم شِفَاهُهُمْ، وَتَقَشَّعَتْ(8) بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِم ذُنُوبُهُمْ [(أُولئِكَ حِزْبُ الله، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
     فَاتَّقِ اللهَ يَابْنَ حُنَيْف، وَلْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ(9)، لِيَكُونَ مِنْ النَّارِ خَلاَصُكَ].

____________
     1. الغُمْض ـ بالضم ـ : النوم.
     2. الكَرَى ـ بالفتح ـ : النعاس.
     3. افْتَرَشَت أرضها: لم يكن لها فراش.
     4. توسّدَت كفها: جعلته كالوسادة.
     5. تجافت: تباعدت ونأت.
     6. مضاجع ـ جمع مضجع ـ : موضع النوم.
     7. الهمهمة: الصوت الخفي يتردد في الصدر.
     8. تَقَشّعَت جنوبهم: انحلّت وذهبت كما يتقشع الغمام.
     9. وَلْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ: كأن الامام يأمر الاقراص ـ أي الارغفة ـ بالكفّ ـ أي الانقطاع ـ عن ابن حنيف، والمراد أمر ابن حنيف بالكفّ عنها استعفافاً، ورفع "أقراصك" على الفاعلية أبلغ من نصبها على المفعولية.


( 686 )


[ 46 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى بعض عمّاله


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ(1) عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ(2) بِهِ نَحْوَةَ(3) الاَْثِيمِ(4)، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ(5) الثَّغْرِ(6) الْـمَخُوفِ(7).
     فَاسْتَعِنْ بِاللهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْث(8) مِنَ اللِّينِ، وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لاَ تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ، وَاخْفِضْ
____________
     1. أستظهر به: أستعين به.
     2. واقمع: أي اكسر.
     3. النخوة ـ بالفتح ـ : الكِبْر. 4. الاثيم: فاعل الخطايا والاثام.
     5. اللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيهاً له بفم الانسان.
     6. الثَغْر: المكان الذي يظن طروق الاعداء له على الحدود.
     7. المَخُوف: الذي يخشى جانبه ويرهب.
     8. ضِغْث: خلط، أي شيء تخلط به الشدة باللين.


( 687 )


لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسِطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ(1) بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، وَالاِْشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ(2)، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 47 ]
ومن وصية له
للحسن والحسين(عليهم السلام)
لما ضربه ابن ملجم لعنه الله


     أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وَأنْ لاَ تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا(3)، وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ(4) عَنْكُمَا، وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلاَْجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً.
     أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ ]
____________
     1. آس: أي شارك بينهم واجعلهم سواء.
     2. حتى لا يطمع العظماء في حيفك: أي حتى لايطمعوا في أن تمالئهم على هضم حقوق الضعفاء، وقد تقدم مثل هذا.
     3. لاتَبْغِيا الدنيا وإن بَغَتْكُما: لاتطلباها وإن طلبتكما.
     4. زُوِيَ: أي قُبِض ونحي عنكما.


( 688 )


وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: "صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَامِ".
     اللهَ اللهَ فِي الاَْيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا(1) أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ.
     وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ(2).
     وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقْكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ.
     وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ.
     وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لاَ تُخْلُوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا(3).
     وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
     وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ(4)، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ.
     لاَ تَتْرُكُوا الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَشْرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ.
    
____________
     1. اغبّ القوم: جاءهم يوماً وترك يوماً، أي صِلوا أفواههم بالاطعام ولا تقطعوه عنها.
     2. يورّثهم: يجعل لهم حقاً في الميراث.
     3. لم تُنَاظَرُوا ـ مبني للمجهول ـ أي: لم ينظر اليكم بالكرامة، لا من الله، ولا من الناس، لاهمالكم فرض دينكم.
     4. التباذل: مداولة البذل أي العطاء.


( 689 )


ثمّ قال:
     يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ(1) تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ(2) خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ.
     أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.
     انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ(3) بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ(4) وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ".

[ 48 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى معاوية


     وَإِنَّ الْبَغْيَ وَالزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْء(5) فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِك مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ(6)، وَقَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً
____________
     1. لا أَلْفِيَنّكم: لا أجدنّكم، نفي في معنى النهي.
     2. تخوضون دماء المسلمين: تسفكون دماءهم، أصله خوض الماء: الدخول والمشي فيه.
     3. أي: لا تمثلوا به، من التمثيل، وهو التشويه بعد القتل أو قبله بقطع الاطراف مثلاً. 4. المُثْلَة: الاسم من التمثيل، وهو التشويه الذي سبق شرحه.
     5. يوتِغَان المرءَ: يهلكانه.
     6. ما قضي فواته: أي ما فات منه لايدرك، والمراد دم عثمان والانتصار له، فمعاوية يعلم أنه لا يدركه، لانقضاء الامر بموت عثمان.


( 690 )


بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَتَأَوَّلوا عَلَى اللهِ(1) فَأَكْذَبَهُمْ(2)، فَاحْذَرْ يَوْماً يُغْتَبطُ(3) فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ(4)، وَيَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ(5) فَلَمْ يُجَاذِبْهُ.
     وَقَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا، وَلَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ إلى حُكْمِهِ، وَالسَّلاَمُ.

____________
     1. تأولوا على الله: تطاولوا على أحكامه بالتأويل.
     2. أكذبهم: حكم بكذبهم.
     3. يغتبط: يفرح و يسرّ.
     4. أحمد عاقبة عمله: وجدها حميدة.
     5. أمكن الشيطان من قِياده: أي مكنه من زمامه ولم ينازعه.


( 691 )


[ 49 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إليه


     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا، وَلَهَجاً بِهَا(1)، وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ذلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ، وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ!لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ، وَالسَّلاَمُ.

[ 50 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إِلى أمرائه على الجيوش


    
     مِنْ عَبْدِاللهِ عَلِيِّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ(2):
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلاَّ يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ، وَلاَ طَوْلٌ(3) خُصَّ بِهِ، وَأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ، وَعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ.
     أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ(4) دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْب، وَلاَ أَطْوِيَ(5) دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْم، وَلاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ
____________
     1. لَهَجاً: أي ولوعاً وشدة حرص، تقول: قد لهج بالشيء ـ من باب طرب ـ إذا أُغري به فثابر عليه.
     2. المسالح ـ جمع مَسْلحة ـ أى: الثغور، لانها مواضع السلاح، وأصل المَسْلَحَة: قوم ذوو سلاح.
     3. الطّوْل ـ بفتح الطاء ـ : عظيم الفضل.
     4. احتجز: استتر.
     5. طواه عنه: لم يجعل له نصيباً فيه.


( 692 )


أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ(1)، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ، وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا(2) عَنْ دَعْوَة، وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَح، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ(3) إِلَى الْحَقِّ، فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنْ اعْوَجَّ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ، وَلاَ يَجِدُ عِنْدِي فِيها رُخْصَةً، فَخُذُوا هذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ، وَأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللهُ بِهِ أَمْرَكُمْ.

[ 51 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى عماله على الخراج


     مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْخَرَاجِ:
     أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائرُ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا.
     وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ يَسِيرٌ، وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيَما نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لاَ عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ.
    
____________
     1. دون مقْطَعِه: دون الحد الذي قطع به أن يكون لكم.
     2. لا تنكصوا: لا تتأخروا إذا دعوتكم.
     3. الغمرات: الشدائد.


( 693 )


فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ، فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ(1) الرَّعِيَّةِ، وَوُكَلاَءُ الاُْمَّةِ، وَسُفَرَاءُ الاَْئِمَّةِ.
     وَلاَ تَحْسِمُوا(2) أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ، وَلاَتَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ(3)، وَلاَ تَبِيعُنَّ لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاء وَلاَ صَيْف، وَلاَ دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا(4)، وَلاَ عَبداً، وَلاَ تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَم(5)، وَلاَ تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَد مِنَ النَّاسِ، مُصَلٍّ وَلاَ مُعَاهَد(6)، إِلاَّ أَنْ تَجِدُوا فرَساً أَوْ سِلاَحاً يُعْدى بِهِ عَلَى أَهْلِ الاِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الاْسْلاَم، فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ.
    
____________
     1. الخُزّان ـ بضم فزاي مشددة ـ : جمع خازن، والخُزّان يخزنون أموال الرعِيّة في بيت المال لتنفق في مصالحها.
     2. لا تحسموا: لا تقطعوا.
     3. الطِلبَة ـ بالكسر وبفتح الطاء واللام ـ : المطلوب.
     4. دابّة يعتملون عليها: المراد أنها تلزمهم لاعمالهم في الزرع وحمل الاثقال.
     5. لمكان دِرْهَم: لاجل الدراهم.
     6. مُصَلٍّ وَلاَ مُعَاهَد: أراد بالمصلّي: المسلم، وبالمعاهد: الذمي الذي لابد من الوفاء بعهده.


( 694 )


وَلاَ تَدَّخِرُوا(1) أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً، وَلاَ الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَة، وَلاَ الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً، وَلاَ دِينَ اللهِ قُوَّةً، وَأَبْلُوا(2) فِي سَبيلِ اللهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ(3) عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا، وَأَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.

[ 52 ]
ومن كتاب له(عليه السلام)
إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة


     أَمَّا بَعْدُ، فَصَلُّوا بَالنَّاسِ الظُّهْرَ [حَتَّى](4) تَفِيءَ(5) الشَّمْسُ مِنْ مَرْبِضِ الْعَنْزِ(6).
    
____________
     1. ادخر الشيء: استبقاه، لا يبذل منه، لوقت الحاجة، وضمن "ادخر"ها هنا معنى "منع" فعداه بنفسه لمفعولين، أي لاتمنعوا أنفسكم شيئاً من النصيحة.
     2. أَبْلُوا: أدوا، يقال: أبليته عذراً أي أديته إليه.
     3. يقال: اصطنعت عنده، أي طلبت منه أن يصنع لي شيئاً.
     4. في المخطوطتين: "حين"، وما اثبتناه من المطبوع.
     5. تفيء: أي تصل في ميلها جهة الغرب إلى أن يكون لها فيء أي ظل.
     6. مربض العنز: المكان الذي تربض فيه وتبرك.


( 695 )


وَصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْو مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ.
     وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ، وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ(1).
     وَصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ.
     وَصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ والرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ.
     وَصَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ(2)، وَلاَ تَكُونُوا فَتَّانِينَ(3).

[ 53 ]
ومن عهد له(عليه السلام)
كتبه للاشتر النَّخَعي رحمه الله


     [لمّا ولاه] على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمّد بن أبي بكر رحمه الله، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


     هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاَْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا.
    
____________
     1. يدفع الحاج: يفيض من عرفات.
     2. صلّوابهم صلاة أضعفهم: أي لا تطيلوا الصلاة، بل صلوا بمثل ما يطيقه أضعف القوم.
     3. لا تكونوا فَتّانين: أي لا تكونوا سبباً في إفساد صلاة المأمومين وإدخال المشقة عليهم بالتطويل.


( 696 )


أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.
     وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا(1) عِنْدَ الْجَمَحَاتِ(2)، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ.
     ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِى مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ،إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ.
     فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ(3) عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الاِْنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ.
     وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا
____________
     1. يزعها: يكفها.
     2. الجَمَحات: منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها.
     3. شُحّ بنَفْسِك: ابخل بنفسك عن الوقوع في غيرالحل، فليس الحرص على النفس إيفاءها كل ما تحب، بل من الحرص أن تحمل على ما تكره.


( 697 )


نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ(1) مِنْهُمُ الزَّلَلُ(2)، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ،يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الاَْمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ(3) أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ.
     وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ(4)، فَإِنَّهْ لاَيَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ(5)، وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنَّ(6) بِعُقُوبَة، وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَة(7) وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً(8)، وَلاَ تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ(9)
____________
     1. يَفْرُط: يسبق.
     2. الزلل: الخطأ.
     3. استكفاك: طلب منك كفاية أمرك والقيام بتدبير مصالحهم.
     4. أراد بحرب الله: مخالفة شريعته بالظلم والجور.
     5. لايدي لك بنقمته: أي ليس لك يد أن تدفع نقمته، أي لا طاقة لك بها.
     6. بجح به: كفرح لفظاً ومعنى.
     7. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.
     8. المندوحة: المتسع، أي المخلص.
     9. مؤمر ـ كمعظم ـ أي: مسلط.


( 698 )


آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ(1) فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ(2) لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ(3).
     وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً(4) أَوْ مَخِيلَةً(5)، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدرُِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ(6) إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ(7)، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ(8)،يَفِيءُ(9)
____________
     1. الادغال: إدخال الفساد.
     2. منهكة: مضعفة، وتقول: نهكه، أي أضعفه... وتقول: نهكه السلطان من باب فهم، أي: بالغ في عقوبته.
     3. الغِير ـ بكسر ففتح ـ : حادثات الدهر بتبدل الدول.
     4. الابّهة ـ بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة ـ : العظمة والكبرياء.
     5. المَخِيلة ـ بفتح فكسر ـ : الخيلاء والعجب.
     6. يُطامن الشيء: يخفض منه.
     7. الطِماح ـ ككتاب ـ : النشوز والجماح.
     8. الغَرْب ـ بفتح فسكون ـ : الحدة.
     9. يفيء: يرجع.


( 699 )


إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ(1) عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!
     إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ(2) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال.
     أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً(3) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ(4) حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً(5) حَتَّى يَنْزعَ(6) وَيَتُوبَ.
     وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.
    
____________
     1. عَزَب: غاب.
     2. المساماة: المباراة في السمو، أي العلو.
     3. من لك فيه هوى: أي لك إليه ميل خاص.
     4. أدحض: أبطل.
     5. كان حرباً: أي محارباً.
     6. ينزع ـ كيضرب ـ أي: يقلع عن ظلمه.

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها