( 300 )


[ 137 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[في معنى طلحة والزبير]


     وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا [عَلَيَّ] مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً(1)، وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً [هُمْ] تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ(2) إِلاَّ قِبَلَهُمْ، وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ، وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فِيهَا الْحَمأُ وَالْحُمَةُ(3)وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ(4)، وَإِنَّ الاَْمْرَ لَوَاضِحٌ، وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ(5)، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ(6). وَايْمُ اللهِ لاَُفْرِطَنَّ(7) لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ(8)، لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ، وَلاَ يَعُبُّونَ(9) بَعْدَهُ فِي حَسْي(10)!

____________
     1. النِّصْف ـ بكسر النون ـ : الانصاف.
     2. الطَّلِبة ـ بفتح الطاء وكسر اللام ـ : ما يطالب به من الثأر.
     3. المراد بالحَمَأ هنا مطلق القريب والنسيب، وهو كناية عن الزبير، فانه من قرابة النبي ابن عمته. والحُمَة ـ بضم ففتح ـ : أصلها الحية أوإبرة اللاسعة من الهوام.
     4. أغْدَفَت المرأة قناعها: أرسلته على وجهها، وأغدف الليل: أرخى سدوله. يعني: أن شبهة الطلب بدم عثمان شبهة ساترة للحق.
     5. زَاح يزيحُ زَيْحاً وزَيحاناً: بَعُدَ وذهب، كانزاح. والنصاب: الاصل. أي: قد انقلع الباطل عن مَغْرِسه.
     6. الشّغَب ـ بالفتح ـ : تهييج الشرّ.
     7. أفرطَ الحوضَ: ملاه حتى فاض، والمراد حوض المنية.
     8. ماتِحُهُ: أي نازع مائه لاسقيهم.
     9. عبّ: شرب بلا تنفّس.
     10. الحَسْيُ ـ بفتح الحاء وتكسر ـ : سهل من الارض يستنقع فيه الماء.


( 301 )



منه: [في أمر البيعة]


فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ(1) عَلَى أَوْلاَدِهَا، تَقُولُونَ: الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ! قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا، وَنَازَعَتْكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا.
     اللَّهُمَّ إنَّهُمَا قَطَعَاني وَظَلَمَاني، وَنَكَثَا بَيْعَتِي، وَأَلَّبَا(2) النَّاسَ عَلَيَّ; فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلاَ تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا، وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيَما أَمَّلاَ وَعَمِلاَ، وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا(3) قَبْلَ الْقِتَالِ، وَاسْتَأْنَيْتُ بِهمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ(4)، فَغَمَطَا النِّعْمَةَ(5)، وَرَدَّا الْعَافِيَةَ.
____________
     1. العُوذ ـ بضم العين ـ : جمع عائذة وهي النِّتاج من الظباء والابل، أوكل أُنثى. والمطَافيل: جمع مُطْفِل ـ بضم الميم وكسر الفاء ـ : ذات الطفل من الانس والوحش.
     2. التألّب: الافساد.
     3. اسْتَثَبْتُهُما: من ثاب (بالثاء) إذا رجع، أي استرجعتهما. وطلبت اليهما الرجوع للبيعة.
     4. أَمام الوِقاع ـ ككتاب ـ : قبيل المواقعة بالحرب.
     5. غَمَطَ النعمة: جَحَدَها.


( 302 )


[ 138 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
يومىء فيها إلى ذكر الملاحم


     يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَيَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ.

منها:


     حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاق، بَادِياً نَوَاجِذُهَا(1)، ممْلُوءَةً أَخْلاَفُهَا(2)، حُلْواً رَضَاعُهَا، عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا.
     أَلاَ وَفِي غَد ـ وَسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ ـ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِىءِ أَعْمَالِهَا، وَتُخْرِجُ لَهُ الاَْرْضُ أَفَالِيذَ(3) كَبِدِهَا، وَتُلْقي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا، فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَة
____________
     1. النواجذ: أقصى الاضراس أوالانياب. وَبُدُوّ النواجذ: كناية عن شدة الاحتدام.
     2. الاخلاف: جمع خلف ـ بالكسر ـ وهو للناقة حلمة الضرع.
     3. أفاليذ ـ جمع أفْلاذ، جمع فلذة ـ وهي القطعة من الذهب والفضة.


( 303 )


منها:


     كأَنَّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ(1) بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ(2)، فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ(3)، وَفَرَشَ الاَْرْضَ بِالرُّؤُوسِ، قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ(4)، وَثَقُلَتْ فِي الاَْرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِيدَ الْجَوْلَةِ، عَظِيمَ الصَّوْلَةِ.
     وَاللهِ لِيُشَرِّدَنَّكُمْ(5) فِي أَطْرَافِ الاَْرْضِ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْكُمْ إِلاِّ قَلَيلٌ، كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، فَلاَ تَزَالُونَ كَذلِكَ، حَتَّى تَؤُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلاَمِهَا(6)! فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَالاْثَارَ الْبَيِّنَةَ، وَالْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي(7) لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ.
____________
     1. فحص: بحث.
     2. كُوفان: الكوفة.
     3. الضّروس: الناقة السيئة الخُلُق تعضّ حالبها.
     4. فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ: انفتح فمه، وأكّد الفعل بذكر الفاعل من لفظه.
     5. ليشرّدنّكم: ليفرقنكم.
     6. عوازب أحلامها: غائبات عقولها. 7. يُسَنِّ: يسهّل.
    


( 304 )


[ 139 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في وقت الشورى


     لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ، وَصِلَةِ رَحِم، وَعَائِدَةِ كَرَم.
     فَاسْمَعُوا قَوْلي، وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى(1) فِيهِ السُّيُوفُ، وَتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لاَِهْلِ الضَّلاَلَةِ، وَشِيعَةً لاَِهْلِ الْجَهَالَةِ.

[ 140 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في النهي عن عيب الناس


     وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لاَِهْلِ الْعِصْمَةِ وَالْمَصْنُوعِ إِلَيْهمْ فِي السَّلاَمَةِ(2) أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ
____________
     1. تُنْتَضى: تُسَلّ.
     2. المصنوع اليهم: الذين أنعم الله عليهم وأحسن صنعه اليهم بالسلامة من الاثام.


( 305 )


الذُّنُوبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَكُوَنَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ! أَمَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ مَنْ ذُنُوبِهِ [مِـ ]مَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ! وَكَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْب قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ؟! فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذلِكَ الذَّنْبَ بَعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللهَ فِيَما سِوَاهُ، مِمَّا هُو أَعْظَمُ مِنْهُ، وَايْمُ اللهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ، وَعَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ، لجُرْأتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ!
     يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ; فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ.

[ 141 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[في النهي عن سماع الغيبة وفي الفرق بين الحقّ والباطل]


     أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِين وَسَدَادَ طَرِيق، فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وَتُخْطِيءُ السِّهَامُ، وَيَحِيكُ الْكَلاَمُ، وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبْورُ، وَاللهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ.
     أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ.

فسئل(عليه السلام) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال:


     الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ!


( 306 )


[ 142 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[المعروف في غير أهله]


     وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، مِنَ الْحَظِّ فِيَما أَتى إِلاَّ مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ، وَثَنَاءُ الاَْشْرَارِ، وَمَقَالَةُ الْجُهَّالِ، مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ، مَا أَجْوَدَ يَدَهُ! وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللهِ بَخِيلٌ!

[مواضع المعروف]

     فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ الاَْسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ(1)، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ(2) عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ; فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الاْخِرَةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

____________
     1. الغارم: مَنْ عليه الديون.
     2. صَبرَ نفسه ـ بالتخفيف ـ : حَبَسها.


( 307 )


[ 143 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
في الاستسقاء


[وفيه تنبيه العباد إلى وجوب استغاثة رحمة الله إذا حبس عنهم رحمة المطر]


     أَلاَ وَإِنَّ الاَْرْضَ الَّتِي تَحْمِلُكُم، وَالسَّماءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ(1)، مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ، وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ، وَلاَ زُلْفَةً(2) إِلَيْكُمْ، وَلاَ لِخَيْر تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ، وَلكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا، وَأُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا.
     إِنَّ اللهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الاَْعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الَّثمَرَاتِ، وَحَبْسِ الْبَرَكَاتِ، وَإِغْلاَقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ، لِيَتُوبَ تَائِبٌ، وَيُقْلِعَ مُقْلِعٌ، وَيَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ، وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ.
     وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ الاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً)، فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ، وَاسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ، وَبَادَرَ مَنِيَّتَهُ!
     اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الاَْسْتَارِ وَالاَْكْنَانِ، وَبَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَالْوِلْدَانِ، رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ، وَرَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ، وَخَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَنِقْمَتِكَ.
     اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ، وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ(3)،
____________
     1. تُظلّكُم: تعلو فوقكم.
     2. الزّلْفة: القُرْبة.
     3. السِّنون ـ جمع سَنَة ـ : بمعنى الجدب والقحط.


( 308 )


وَلاَ تُؤَاخِذْنَا (بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
     اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ، حِينَ أَلْجَأَتْنَا الْمضَايِقُ الْوَعْرَةُ(1)، وَأَجَاءَتْنَا(2) الْمَقَاحِطُ(3) الْـمُجْدِبَةُ، وَأَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ، وَتَلاَحَمَتْ(4) عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمُسْتَصْعِبَةُ.
     اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِينَ، وَلاَ تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ(5)، وَلاَ تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا، وَلاَ تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا.
     اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَبَرَكَتَكَ، وَرِزْقَكَ وَرَحْمَتَكَ، وَاسْقِنَا سُقْيَا نَافِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً، تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ، وَتُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ، نَافِعَةَ الْحَيَا(6)، كَثِيرَةَ الْـمُجْتَنَى، تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ(7)، وَتُسِيلُ الْبُطْنَانَ(8)، وَتَسْتَوْرِقُ الاَْشْجَارَ(9)، وَتُرْخِصُ الاَْسْعَارَ، إِنَّكَ عَلى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ.

____________
     1. المضايق الوَعْرة ـ بالتسكين ولا يجوز التحريك ـ : الصعبة.
     2. أجاءته اليه: ألجأته.
     3. المَقاحِط: جمع مَقْحَطة، وهي السنة المُمْحِلة.
     4. تلاحمت: اتصلت.
     5. الواجِم: الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام.
     6. الحَيَا: الخِصْب والمطر.
     7. القَيعان: جمع قاع، الارض السهلة المطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والاكام.
     8. البُطْنان: جمع بطن، بمعنى ما انخفض من الارض في ضيق. 9. تستورق الاشجار: تخرج ورقها.
    


( 309 )


[ 144 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[مبعث الرسل]


     بَعَثَ اللهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلاَّ تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الاِْعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ.
     أَلاَ إِنَّ اللهَ قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ(1) كَشْفَةً، لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونَ أَسْرَارِهِمْ وَمَكْنُونِ ضَماَئِرِهمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً(2).

[فضل أهل البيت(عليهم السلام)]


     أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا، كَذِباً وَبَغْياً عَلَيْنَا، أَنْ رَفَعَنَا اللهُ وَوَضَعَهُمْ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ.
    
____________
     1. كشفَ الخلْقَ: علم حالهم في جميع أطوارهم.
     2. بَواء: مصدر باء فلان بفلان: أي قُتِلَ به. والعقاب: القصاص.


( 310 )


بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى، وَبِنَا يُسْتَجْلَى الْعَمَى. إِنَّ الاَْئِمَّةَ مِنْ قُرَيش غُرِسُوا فِي هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِم، لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهمْ.

منها: [في أهل الضلال]


     آثَرُوا عَاجِلاً، وَأَخَّرُوا آجِلاً، وَتَرَكُوا صَافِياً، وَشَرِبُوا آجِناً(1)، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنكَرَ فَأَلِفَهُ، وَبَسِىءَ بِهِ(2) وَوَافَقَهُ، حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ، وَصُبِغَتْ بِهِ خَلاَئِقُهُ(3)، ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لاَ يُبَالِي مَا غَرَّقَ، أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ في الْهَشيمِ لاَ يَحْفِلُ(4) مَا حَرَّقَ!
     أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى، وَالاَْبْصَارُ اللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى؟! أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهِِ، وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؟! ازْدَحَمُوا
____________
     1. الاجن: الماء المتغير اللون والطعم، واستعارة الامام للذّات الدنيا، تشبيهاً بالماء الذي لا يسوغ شربه لتغير لونه وطعمه.
     2. بَسِىء به ـ كفرح ـ : ألِفَهُ واستأنس به.
     3. خلائِقُهُ: ملكاته الراسخة في نفسه.
     4. لا يَحْفِل ـ كيضرب ـ : لا يبالي.


( 311 )


عَلَى الْحُطَامِ(1)، وَتَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ، وَرُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ، وَأَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ، دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَوَلَّوْا، وَدَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَأَقْبَلُوا!

[ 145 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[فناء الدنيا]


     أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ(2) الْمَنَايَا، مَعَ كُلِّ جَرْعَة شَرَقٌ، وَفي كُلِّ أَكْلَة غَصَصٌ! لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَلاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بَنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ، وَلاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ، وَلاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ(3)لَهُ جَدِيدٌ، وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ، وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْع بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!

____________
     1. ازْدَحَمُوا على الحُطام: استعار لفظ الحُطام لِمُقْتَنَيَات الدنيا، لسرعة فنائها وفسادها.
     2. تَنْتَضِل فيه: تترامى إليه.
     3. يَخْلَق: يَبْلَى.


( 312 )


منها: [في ذمّ البدعة]


     وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ، فَاتَّقُوا الْبِدَعَ، والْزَمُوا الْمَهْيَعَ(1)، إِنَّ عَوَازِمَ الاُْمُورِ(2) أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا.

[ 146 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
وقد استشاره عمر بن الخطاب
في الشخوص لقتال الفرس بنفسه


     إِنَّ هذَا الاَْمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَة وَلاَ بِقِلَّة، وَهُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ، وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللهِ، وَاللهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ.
     وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالاَْمْرِ(3) مَكَانُ النِّظَامِ(4) مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعُ بِحَذَافِيرِهِ(5) أَبَداً. وَالْعَرَبُ الْيَومَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً، فَهُمْ كَثِيرُونَ بَالاِْسْلاَمِ، عَزِيزُونَ بَالاجْتَِماعِ!
    
____________
     1. المَهْيَعْ ـ كالمقعد ـ : الطريق الواضح.
     2. عوازم الامور: ما تقادَمَ منها، وكانت عليه ناشئة الدين. من قولهم: «ناقة عَوْزَمٌ ـ كجعفر ـ» أي: عجوز فيها بقية من شباب.
     3. القيّم بالامر: القائم به.
     4. النظام: السِّلْك ينظم فيه الخرز.
     5. بحذافيره: أي بأصله، والحذافير: جمع حِذْفار، وهو أعلى الشيء وناحيته.


( 313 )


فَكُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَا بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ(1) مِنْ هذِهِ الاَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ.
     إِنَّ الاَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هذا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ، فَيْكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ.
     فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ.
     وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيَما مَضَى بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ!

[ 147 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[الغاية من البعثة]


     فَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الاَْوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ، بِقُرْآن قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ. فَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ لَهُمْ(2) فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ(3)، وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!

____________
     1. شَخَصْتَ: خرجت.
     2. تجلى سبحانه لهم: ظهر لهم من غير أن يرى بالبصر.
     3. المَثُلات ـ بــفتح فـضم ـ : العـقـوبـات.


( 314 )


[الزمان المقبل]


     وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ أَنْفَقَ مِنْهُ(1) إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ فِي الْبِلاَدِ شَيءٌ أنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفَ مِنَ المُنكَرِ!
     فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ; فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذ وَأَهْلُهُ مَنْفِيَّانِ طَرِيَدانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيق وَاحِد لاَ يُؤْوِيهِمَا مُؤْو; فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ! لاَِنَّ الضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ(2)، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا(3)
____________
     1. أَنْفَق منه: أروج منه.
     2. الزّبْر ـ بالفتح ـ : الكتابة.
     3. مثّلوا: نكّلوا وشنّعوا، والاسم منه: المُثْلة ـ بضم الميم ـ .


( 315 )


بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَة، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً(1)، وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ العُقُوبةَ السَّيِّئَةَ.
     وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ(2) الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ(3)وَالنِّقْمَةُ.

[عظة الناس]


     أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ (لِلَّتَي هِيَ أَقْوَمُ); فَإِنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ، وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ، فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَْجْرَبِ، وَالْبَارِي(4) مِنْ ذِي السَّقَمِ(5).
    
____________
     1. الفِرْية ـ بكسر الفاء ـ : الكذب.
     2. الموعود: هنا الموت الذي لا يقبل فيه عذر ولا تفيد بعده توبة.
     3. القارعة: الداهية المهلكة. 4. الباري: المُعَافي من المرض.
     5. السّقم: المرض والعلة.


( 316 )


وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذَي نَبَذَهُ; فَالْـتَمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، هُمْ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ.

[ 148 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في ذكر أهل البصرة]


    
     كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا يَرْجُو الاَْمْرَ لَهُ، وَيَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ، لاَ يَمُتَّانِ(1) إِلَى اللهِ بِحَبْل، وَلاَ يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بَسَبَب(2).
     كُلُّ واحِد مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ(3) لِصَاحِبِهِ، وَعَمَّا قَلِيل يُكْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ!
     وَاللهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هذَا نَفْسَ هذَا، وَلَيَأْتِيَنَّ هذَا عَلَى هذَا، قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فَأَيْنَ الْـمُحْتَسِبُونَ(4)؟! قَدْ سُنَّتْ لَهُمُ
____________
     1. لا يَمُتّان: لا يمدّان. 2. السبب: الحبل.
     3. الضّبّ ـ بالفتح ويكسر ـ : الحقد، والعرب تضرب المثل بالضبّ في العقوق.
     4. المُحْتَسِبون: الذين يجاهرون حِسْبَة لله.


( 317 )


السُّنَنُ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ، وَلِكُلِّ ضَلَّة عِلَّةٌ، وَلِكُلِّ نَاكِث شُبْهِةٌ.
     وَاللهِ لاَ أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ(1)، يَسْمَعُ النَّاعِيَ، وَيَحْضُرُ الْبَاكِيَ، ثُمَّ لاَ يَعْتَبِرُ!

[ 149 ]
ومن كلامه(عليه السلام)
قبل موته


     أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِىء لاَق بِمَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، وَالاَْجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ(2)، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. كَمْ أَطْرَدْتُ(3) الاَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هذَا الاَمْرِ، فَأَبَى اللهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ، هَيْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ!
     أَمَّا وَصِيَّتِي: فَاللهَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّداً فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هذَيْن الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ، وَخَلاَكُمْ ذَمٌّ(4) مَالَمْ تَشْرُدُوا(5)، حُمِّلَ كُلُّ امْرِىء مَجْهُودَهُ، وَخُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ، رَبٌّ رَحِيمٌ،
____________
     1. اللّدْم: الضرب على الصدر والوجه عند النياحة.
     2. مَسَاق النّفْس: هو ما تَسُوقها اليه أطوار الحياة حتى تُوافِيه.
     3. أطْرَدَ: أمر بالاخراج والطّرْد.
     4. خلاكم ذَمّ: برئتم من الذمّ.
     5. تَشرُدُوا ـ كتنصروا ـ أي: تَنْفِروا وتميلوا عن الحق.


( 318 )


وَدِينٌ قَوِيمٌ، وَإِمَامٌ عَلِيمٌ.
     أَنَا بِالاَْمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ! غَفَرَ اللهُ لي وَلَكُمْ!
     إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ(1) فِي هذِهِ الْمَزَلَّةِ(2) فَذَاكَ، وَإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ(3) فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ(4) أَغْصَان، وَمَهَابِّ رِيَاح، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَام، اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا(5)، وَعَفَا(6) في الارْضِ مَخَطُّهَا(7).
     وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً(8):
____________
     1. إن تَثْبُتِ الوَطْأةُ: يريد بثبات الوطأة معافاته من جراحه.
     2. المَزَلّة: محلّ الزّلَل.
     3. دَحَضَتِ القدَمُ: زلّت وزَلقت.
     4. الافْياء ـ جمع فَيْء ـ : وهو الظلّ ينسخ ضوء الشمس عن بعض الامكنة.
     5. مُتَلَفّقُها ـ بفتح الفاء ـ : مجتَمَعُها، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو، والتلفيق: الجمع.
     6. عَفَا: اندَرَس وذهب.
     7. مَخَطّها: أثر ما خَطّتْ في الارض.
     8. جثة خلاء: خالية من الروح.


( 319 )


سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاك، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْق لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي، وَخُفُوتُ(1) إِطْرَاقِي، وَسُكُونُ أَطْرَافِي(2)، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لَلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ.
     وَدَاعِيكُم وَدَاعُ امْرِىء مُرْصِد(3) لِلتَّلاَقِي! غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي.

[ 150 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
يومي فيها إلى الملاحم


     وَأَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالاً ظَعْنَاً فِي مَسَالِكَ الْغَيِّ، وَتَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ، فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ، وَلاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ الْغَدُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِل بِمَا إِنْ أَدْركَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَمَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ(4) غَد!
    
____________
     1. الخُفُوت: السكون.
     2. أطرافه: يداه ورأسه ورجلاه.
     3. مُرْصِد ـ اسم فاعل من «أرصد» ـ : مُنْتَظِر.
     4. تباشيره: أوائله.


( 320 )


يَاقَوْمِ، هذَا إِبَّانُ(1) وُرُودِ كُلِّ مَوْعُود، وَدُنُوٍّ(2) مِنْ طَلْعَةِ مَا لاَ تَعْرِفُونَ، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاج مُنِير، وَيَحْذُوفِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ، لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً(3)، وَيُعْتِقَ رِقّاً، وَيَصْدَعَ شَعْباً(4)، وَيَشْعَبَ صَدْعاً(5)، فِي سُتْرَة عَنِ النَّاسِ لاَ يُبْصِرُ الْقَائِفُ(6) أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ.
     ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ(7) فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ(8) تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ، وَيُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهمْ، وَيُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ(9)!

____________
     1. إبّان ـ بكسر فتشديد ـ : وقت.
     2. الدّنُوّ: القرب.
     3. الرِّبْق ـ بكسر فسكون ـ : حبل فيه عدة عُرَا، كل عروة رَبْقة ـ بفتح الراء ـ تُشدّ فيه البُهْم.
     4. يَصْدَع شَعْباً: يفرّق جمعاً.
     5. يَشْعَبُ صَدْعاً: يجمع متفرّقاً.
     6. القائف: الذي يعرف الاثار فيتبعها.
     7. يَشْحَذ: من شحذَ السكّين إذا حدّدها.
     8. القَيْن: الحدّاد. والنّصْل: حديدة السيف والسكين ونحوها.
     9. يُغْبَقُون ـ مبني للمجهول ـ : يُسْقَون بالمساء. والصّبُوح: ما يُشرَبُ وقت الصباح.


( 321 )


منها: [في الضلال]


     وَطَالَ الاَْمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ، وَيَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ(1); حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ الاَْجَلُ(2)، وَاسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ، وَأَشَالُوا(3) عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ، لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللهِ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ; حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلاَءِ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهمْ(4)، وَدَانُوا لِرَبِّهِمْ بَأَمْرِ وَاعِظِهِمْ; حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللهُ رَسُولَهُ(صلى الله عليه وآله)، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الاَْعْقَابَ، وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَاتَّكَلُوا عَلَى الْوَلاَئِجِ(5)، وَوَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهَ، فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَة، وَأَبْوَابُ كُلِّ ضَارِب فِي غَمْرَة(6)، قَدْ مَارُوا(7) فِي الْحَيْرَةِ، وَذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ، عَلَى سُنَّة مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: مِنْ مُنْقَطِع إِلَى الدُّنْيَا رَاكِن، أَوْ مُفَارِق لِلدِّينِ مُبَايِن.

____________
     1. الغِيرَ ـ بكسر ففتح ـ : احداث الدهر ونوائبه.
     2. اخْلَوْلَقَ الاجَل: من قولهم «اخلولق السحاب» إذا استوى وصار خليقاً أن يمطر. والمراد أن الاجل يشرف على الانقضاء.
     3. أشَالَتِ النّاقَة ذَنَبَها: رفعته، أي رفعوا أيديهم بسيوفهم ليلحقوا حروبهم على غيرهم، أي يسعّروها عليهم.
     4. حملوا بصائرهم على أسيافهم: من ألطف أنواع التمثيل، يريد أشهروا عقيدتهم داعين اليها غيرهم.
     5. الولائج ـ جمع وليجة ـ : وهي البِطانة وخاصة الرجل من أهله وعشيرته، ويراد بها دخائل المكر والخديعة.
     6. الغَمْرة: الشدّة.
     7. مارُوا: تحركوا واضطربوا.


( 322 )


[ 151 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يحذر من الفتن]


[الله ورسوله]


     [وَأَحْمَدُ اللهَ] وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ(1) الشَّيْطَانِ وَمَزَاجِرِهِ، وَالاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَمَخَاتِلِهِ(2).
     وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَنَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ، لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ، وَلاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ، أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ، وَالْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحلُّونَ الْحَرِيمَ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ، يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَة(3)، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةِ!

[التحذير من الفتن]


     ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَيَا قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ، وَاحْذَرُوا بِوَائِقَ(4) النِّقْمَةِ، وَتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ(5)، وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ
____________
     1. الدَحْر ـ بفتح الدال ـ : الطرد، والمَدَاحرِ والمَزاجِر بها يُدْحَر ويُزْجَر.
     2. مخاتل الشيطان: مكائده.
     3. على فَتْرة: خلوّ من الشرائع الالهية لا يعرفون منها شيئاً.
     4. البوائق: جمع بائقة وهي الداهية.
     5. القَتَام ـ كسحاب ـ : الغبار. والعِشْوة ـ بالكسر وبضم وبفتح ـ : ركوب الامر على غير بيان.


( 323 )


عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا، وَظُهُورِ كَمِينِهَا، وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا، وَمَدَارِ رَحَاهَا. تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّة، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَة جَلِيَّة، شِبَابُهَا(1) كَشِبَابِ الْغُلاَمِ، وَآثَارُهَا كَآثَارِ السِّلاَمِ(2)، يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بالْعُهُودِ! أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لاِخِرِهِمْ، وَآخِرُهُمْ مُقْتَد بأَوَّلِهِمْ، يَتَنَافَسُونَ في دُنْيا دَنِيَّة، وَيَتَكَالَبُونَ عَلى جِيفَة مُرِيحَة(3)، وَعَنْ قَلِيل يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَالْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ، فَيَتَزَايَلُونَ(4) بِالْبِغْضَاءِ، وَيَتَلاَعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ.
     ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ(5)، وَالْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ(6)، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَة، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَة، وَتَخْتَلِفُ الاَهْوَاءُ عِنْدَ
____________
     1. شِبابها ـ بكسر الشين ـ : أي بداياتها في عنفوان وشدة كشباب الغلام وفتوّته.
     2. السِّلام ـ بكسر السين ـ : الحجارة الصمّ، واحدها سِلَمة ـ بكسر السين أيضاً ـ وآثارها في الابدان الرّضّ والحَطْم.
     3. اراح اللحم فهو مُريح: أنْتَنَ.
     4. يتزايلون: يتفارقون.
     5. الرَجُوف: شديدة الرجفان والاضطراب.
     6. القاصمة: الكاسرة. والزّحوف: الشديدة الزحف.


( 324 )


هُجُومِهَا، وَتَلْتَبِسُ الاْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا(1)، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ، يَتَكَادَمُونَ(2) فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ(3)! قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ، وَعَمِيَ وَجْهُ الاَْمْرِ، تَغِيضُ(4) فِيهَا الْحِكْمَةُ، وَتَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ، وَتَدُقُّ(5) أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا(6)، وَتَرُضُّهُمْ(7) بِكَلْكَلِهَا(8)! يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ(9)، وَيَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ، تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَتَحْلُبُ
____________
     1. نُجومها: ظهورها. وهي من نجم ينجم إذا ظهر.
     2. يتكادمون: يعضّ بعضهم بعضاً.
     3. العانة: الجماعة من حُمُر الوحش.
     4. تَغِيض ـ بالغين المعجمة ـ : تنقص وتغور.
     5. تَدُقّ: تُفَتّتُ.
     6. المِسْحَل ـ كمنبر ـ : المِبْرَد أوِ المِنْحَت. والمِسْحَل أيضاً: حَلْقة تكون في طريف شكيمة اللّجام مُدْخلة في مثلها.
     7. الرّضّ: التهشيم.
     8. الكَلْكَل: الصدر.
     9. الوُحْدان: جمع واحد، أي المتفرّدون.


( 325 )


عَبِيطَ الدِّمَاءِ(1)، وَتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينَ(2)، وَتَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ، يَهْرُبُ مِنْهَا الاَْكْياسُ(3)، وَيُدَبِّرُهَا الاَْرْجَاسُ(4)، مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ، كَاشِفَةٌ عَنْ سَاق! تُقْطَعُ فِيهَا الاَرْحَامُ، وَيُفَارَقُ عَلَيْهَا الاِسْلاَمُ! بَرِيُّهَا سَقِيمٌ، وَظَاعِنُهَا مُقِيمٌ!

منها:


     بَيْنَ قَتِيل مَطْلُول(5)، وَخَائِف مُسْتَجِير، يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الاَيمَانِ(6) وَبِغُرُورِ الاِْيمَانِ; فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ(7) الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَاقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ، وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ، وَلاَ تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ(8) الْحَرَامِ، فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ(9) مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُم الْمَعْصِيَةَ، وَسَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ.
____________
     1. عَبيط الدماء: الطريّ الخالص منها.
     2. تَثْلِمُ مَنَارَ الدين: تكسره. وأصله من «ثلم الاناءَ أوالسيف ونحوه»: كسر حرفه. ومنار الدين: أعلامه، وهم علماؤه. وثَلْمها: قتل العلماء وهدم قواعد الدين.
     3. الاكياس: جمع كيس، الحاذق العاقل.
     4. الارجاس: جمع رجس وهوالقذر والنجس، والمراد الاشرار.
     5. مَطْلُول: من «طَلَلْت دَمَه» هَدَرْته.
     6. يختلون بعقد الايمان: أي يخدعون الناس بحلف الايمان.
     7. الانْصاب: كل ما يُنْصَبُ لِيُقْصَدَ.
     8. اللُعَق: جمع لُعْقة ـ بضم اللام ـ وهي ما تأخذه في المِلْعقة.
     9. إنّكم بِعَيْنِهِ: أي إنه يراكم.


( 326 )


[ 152 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في صفات الله جل جلاله، وصفات أئمة الدين]


     الْحَمْدُ للهِِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّته، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ.
     لاَ تَسْتَلِمُهُ(1) الْمَشَاعِرُ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، لاِفْتِرَاِق الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ وَالْـمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ.
     الاَْحَدُ لاَ بِتَأْوِيلِ عَدَد، وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنَى حَرَكَة وَنَصَب(2)، وَالسَّمِيعُ لاَ بِأَدَاة(3)، وَالْبَصِيرُ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَة(4)، وَالشَّاهِدُ لاَبِمُمَاسَّه، وَالْبَائِنُ(5)
____________
     1. لا تستلمه المشاعر: أي لا تصل اليه الحواس.
     2. النَصَب ـ محرّكة ـ : التعب.
     3. الاداة: الالة.
     4. تفريق الالة: تفريق الاجفان وفتح بعضها عن بعض.
     5. البائن: المنفصل عن خلقه.


( 327 )


لاَبِتَرَاخِي مَسَافَة، وَالظّاهِرُ لاَبِرُؤيَة، وَالْبَاطِنُ لاَ بِلَطَافَة.
     بَانَ مِنَ الاَْشْيَاءِ بَالْقَهْرِ لَهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَبَانَتِ الاَْشْيَاءُ مِنْهُ بَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
     مَنْ وَصَفَهُ(1) فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ، وَمَنْ قَالَ: كَيْفَ، فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ، وَمَنْ قَالَ: أَيْنَ، فَقَدْ حَيَّزَهُ. عَالِمٌ إِذْ لاَ مَعْلُومٌ، وَرَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ، وَقَادِرٌ إِذْ لاَ مَقْدُورٌ.

منها: [في أئمّة الدين]


     فَقَدْ طَلَعَ طَالِعٌ، وَلَمَعَ لاَ مِعٌ، وَلاَحَ(2) لاَئِحٌ، وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ، وَاسْتَبْدَلَ اللهُ بِقَوْم قَوْماً، وَبِيَوم يَوْماً، وَانْتَظَرْنَا الْغِيَرَ(3) انْتِظَارَ الْـمُجْدِبِ الْمَطَرَ.
     وَإِنَّمَا الاَئِمَّةُ قُوَّامُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَعُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ، لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلاَّ منْ أَنْكَرَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ.
     إِنَّ اللهَ خَصَّكُمْ بَالاِْسْلاَمِ، وَاسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ، وَذلِكَ لاَِنَّهُ اسْمُ سَلاَمَة،
____________
     1. من وصفه: أيّ مَنْ كيفه بكيفيات المحدثين.
     2. لاح: بدا.
     3. الغِيرَ ـ بكسر ففتح ـ : صُروف الحوادث وتقلباتها.


( 328 )


وَجِمَاعُ(1) كَرَامَة، اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ، وَبَيَّنَ حُجَجَهُ، مِنْ ظَاهِرِ عِلْم، وَبَاطِنِ حِكَم، لاَ تَفْنَى غَرَائِبُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، فِيهِ مَرَابِيعُ(2) النِّعَمِ، وَمَصَابِيحُ الظُّلَمِ، لاَ تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلاَّ بِمَفَاتِحِهِ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِمَصَابِحِهِ، قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ(3)، وَأَرْعَى مَرْعَاهُ، فِيهِ شِفَاءُ الْمُسْتَشْفِي، وَكِفَايَةُ الْمُكْتَفِي.

[ 153 ]
ومن خطبه له(عليه السلام)
[صفة الضال]


     وَهُوَ فِي مُهْلَة مِنَ اللهِ يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِينَ، وَيَغْدُومَعَ الْمُذْنِبِينَ، بلاَ سَبِيل قَاصِد، وَلاَ إِمَام قَائِد.

منها: [في صفات الغافلين]


     حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلاَبِيبِ غَفْلَتِهِمُ، استَقْبَلُوا مُدْبِراً، وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بَمَا أَدْرَكُوا منْ طَلِبَتِهِمْ، وَلاَ بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ.
     إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ، وَنَفْسِي، هذِهِ الْمَنْزِلَةَ، فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ
____________
     1. جِماعُ الشيء: مجتمعهُ.
     2. مَرَابيع ـ جمع مِرْباع بكسر الميم ـ : المكان ينبت نبته في أول الربيع.
     3. أحْمَى حِماه: من «أحْمى المكانَ» جعله حِمىً لا يُقْرَب، أي: أعزّ الله الاسلام ومنعه من الاعداء.


( 329 )


مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي، وَالضَّلاَلَ في الْمَغَاوِي(1)، وَلاَ يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّف فِي حَقٍّ، أَوْ تَحَرِيف في نُطْق، أَوْ تَخَوُّف مِنْ صِدْق.

[عظة الناس]


     فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ، وَاسْتَيْقِظْ مَنْ غَفْلَتِكَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيَما جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الاُْمِّيِّ(صلى الله عليه وآله) مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ مَحِيصَ عَنْهُ، وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ، وَضَعْ فَخْرَكَ، وَاحْطُطْ كِبْرَكَ، وَاذكُرْ قَبْرَكَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ، وَمَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً، فَامْهَد(2) لِقَدَمِكَ، وَقَدِّمْ لِيَوْمِكَ.
     فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ! وَالْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ! (وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير).
     إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَلَهَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ، أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ عَبْداً ـ وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ ـ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا، لاَقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَة مِنْ هذِهِ الْخِصَال لَمْ يَتُبْ مِنْهَا: أَنْ يُشْرِكَ بِالله فِيَما افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلاَكِ نَفْسِهِ، أَوْ
____________
     1. المَغَاوِي: جمع مِغْواة، وهي الشّبْهة يذهب معها الانسان إلى ما يخالف الحق.
     2. مَهَدَ ـ كمَنَعَ ـ : بَسَطَ.


( 330 )


يُقِرَّ بِأَمْر فَعَلَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَسْتَنْجِحَ(1) حَاجَةً إِلَى النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَة فِي دِينِهِ، أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ، أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ. اعْقِلْ ذلِكَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ.
     إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا، وَإِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْفَسَادُ فِيهَا; إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ(2)، إِنَّ الْمُؤْمِنينَ مُشْفِقُونَ، إِنَّ الْمُؤْمِنينَ خَائِفُونَ.

[ 154 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يذكر فيها فضائل أهل البيت(عليهم السلام)]


     وَنَاظِرُ قَلْبِ(3) اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ، وَيَعْرِفُ غَوْرَهُ(4) وَنَجْدَهُ(5). دَاع دَعَا، وَرَاع رَعَى، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي، وَاتَّبِعُوا الرَّاعِيَ.
     قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ، وَأَرَزَ(6) الْمُؤْمِنُونَ،
____________
     1. يستنجح: يطلب نجاح حاجته.
     2. مستكينون: خاضعون.
     3. ناظِرُ القلب: استعاره من ناظر العين: وهو النقطة السوداء منها. والمراد بصيرة القلب.
     4. الغَوْر: ما انخفض من الارض.
     5. النَجْد: ما ارتفع من الارض.
     6. أرَزَ يأرِز ـ بكسر الراء في المضارع ـ : أي انقبض وثبت. وأرَزَتِ الحية: لاذَتْ بجُحْرِها ورجعت اليه.


( 331 )


وَنَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ.
     نَحْنُ الشِّعَارُ(1) وَالاَْصْحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالاَْبْوَابُ، [وَلاَ] تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً.

منها:


     فِيهِمْ كَرَائِمُ(2) الْقُرْآنِ، وَهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمنِ، إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا. فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْيُحْضِرْ عَقْلَهُ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ، وَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ.
     وَالنّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَليْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ.
     فَإِنَّ الْعَامِلَ بَغَيْرِ عِلْم كَالسَّائِرِ عَلَى غيْرِ طَرِيق، فَلاَ يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلاَّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَالْعَامِلُ بالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ: أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟!
     وَاعْلَمْ أَنِّ لِكُلِّ ظَاهِر بَاطِناً عَلى مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ، وَمَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ، وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ(صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
____________
     1. الشِّعار: ما يلي البدن من الثياب، والمراد بِطانَة النبي الكريم.
     2. الكرائم: جمع كريمة، والمراد آيات في مدحهم كريمات.


( 332 )


الْعَبْدَ وَيُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَيُحِبُّ الْعَمَلَ وَيُبْغِضُ بَدَنَهُ».
     فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَمَل نَبَاتٌ، وَكُلَّ نَبَات لاَ غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ، وَالْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ، وَمَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ.

[ 155 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
يذكر فيها بديع خلقة الخفاش


[حمد الله وتنزيهه]


     الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي انْحَسَرَتِ(1) الاَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ!
     هَوَ اللهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيد فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الاَْوْهَامُ بِتَقْدِير فَيَكُونَ مُمَثَّلاً. خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيل، وَلاَ مَشُورَةِ مُشِير، وَلاَ مَعُونَةِ مُعِين، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، فَأَجَابَ وَلَمْ يُدَافِعْ، وَانْقَادَ وَلَمْ يُنَازِعْ.

[خلقة الخفاش]


     وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْء، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ
____________
     1. انحسرت: انقطعت.


( 333 )


الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ(1) أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نقُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا.
     وَرَدَعَهَا بِتَلاَْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ(2) إِشْرَاقِهَا، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِى بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا(3)، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بَالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ في الْـتَِماسِ أَرْزَاقِهَا; فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ(4) ظُلْمَتِهِ، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ(5).
     فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ(6) نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا(7)، أَطْبَقَتِ الاَْجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا(8)،
____________
     1. العَشَا ـ مقصوراً ـ : سوء البصر وضعفه.
     2. سُبُحات النور: درجاته وأطواره.
     3. الائْتِلاق: اللمعان. والبَلَج ـ بالتحريك ـ : الضوء ووضوحه.
     4. أسْدَفَ الليلُ: أظلمَ.
     5. الدُجُنّة: الظُلْمة. وغَسَقُ الدّجُنّة: شدّتها.
     6. أوضاح: جمع وَضَح ـ بالتحريك ـ وهو هنا بياض الصبح.
     7. الضِّباب ـ ككتاب جمع ضَبّ ـ : الحيوان المعروف. والوِجار ـ ككتاب ـ : الجُحْر.
     8. مآقيها: جمع مأق وهو طرف العين مما يلي الانف.


( 334 )


وَتَبَلَّغَتْ(1) بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا.
     فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَجَعَلَ النَّهَارَ لَهَا سَكَناً وَقَرَاراً! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ، كَأَنَّهَا شَظَايَا الاْذَانِ(2)، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيش وَلاَ قَصَب(3)، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً(4)، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ.
     تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِيٌ إِلَيْهَا، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَيُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ. فَسُبْحَانَ الْبَارِىءِ لِكُلِّ شَيْء، عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ(5)!
    
____________
     1. تَبَلّغَتْ: اكتفت أواقتاتت.
     2. شظايا: جمع شظِيّة كعطيّة وهي الفلقة من الشيء، أي كأنها مؤلفة من شقق الاذان.
     3. القَصَبة: عمود الريشة أوأسفلها المتصل بالجناح. وقد يكون مجرداً عن الزّغَب في بعض الحيوانات مما ليس بطائر، كبعض أنواع القنفذ والفيران.
     4. أعلاماً: رسوماً ظاهرة.
     5. خلا من غيره: تقدّمه من سواه فحاذاه.


( 335 )


[ 156 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم


     فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ أَطَعْتُمُوني فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّة شَدِيدَة وَمَذَاقَة مَرِيرَة.
     وَأَمَّا فُلاَنَةُ، فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ الْنِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ(1) الْقَيْنِ(2)، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ، لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الاُْولَى، وَالْحِسَابُ عَلَى اللهِ.

منه: [في وصف الايمان]


     سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ، فَبِالاِْيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ، وَبَالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الاِْيمَانِ، وَبِالاِْيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ، وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ، وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا، وَبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الاْخِرَةُ، وَإِنَّ الْخَلْقَ لاَ مَقْصَرَ(3) لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ، مُرْقِلِينَ(4) فِي مِضْمارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى.
    
____________
     1. المِرْجَل: القِدْر. 2. القَيْن ـ بالفتح ـ : الحداد.
     3. المَقْصَر ـ كمقعد ـ : المجلس، أي لا مستقر لهم دون القيامة.
     4. مُرْقِلين: مسرعين.


( 336 )


منه: [في حال أهل القبور في القيامة]


     قَدْ شَخَصُوا(1) مِنْ مُسْتَقَرِّ الاَْجْدَاثِ(2)، وَصَارُوا إِلى مَصَائِرِ الْغَايَاتِ(3)، لِكُلِّ دَار أَهْلُهَا، لاَ يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلاَ يُنْقَلُونَ عَنْهَا.
     وَإِنَّ الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، لَخُلُقَانَ مِنْ خُلُقِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّهُمَا لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَل، وَلاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْق.
     وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرِّيُّ النَّاقِعُ(4)، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لَلْمُتَعَلِّقِ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ(5)، وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ(6)، وَوُلُوجُ السَّمْعِ(7)، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ.
    
____________
     1. شخَصُوا: ذهبوا.
     2. الاجداث: القبور.
     3. مصائر الغايات: جمع مصير، ما يصير اليه الانسان من شقاء وسعادة.
     4. نَقَعَ العطش: أزاله.
     5. يُسْتَعْتَبُ: يُطْلَبُ منه العُتْبى حتى يرضى.
     6. أخْلَقَهُ: ألبسه ثوباً خَلَقاً أي بالياً. وكثرة الرد: كثرة ترديده على الالسنة بالقراءة.
     7. وُلُوج السمع: دخول الاذان والمسامع.


( 337 )


وقام إليه(عليه السلام) رجل فقال: أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال(عليه السلام):


     لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ: (الم * أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْركُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
     فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتي أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا؟
     فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي».
     فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُد حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ(1) عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»؟.
     فَقَالَ لي: «إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ»؟.
     فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البشرى وَالشُّكُرِ.
     وَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالاَْهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ».
     قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِكَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّة، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَة؟
     فَقَالَ: «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَة».
____________
     1. حِيزَتْ: حازها الله عني فلم أنلها.


( 338 )


[ 157 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يحثّ الناس على التقوى]


     الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَعَظَمَتِهِ.
     عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ، لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، وَلاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ.
     آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ، مُتَسَابِقَةٌ أُمُورُهُ(1)، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ(2).
     فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ(3) تَحْدُوكُمْ حَدْوَالزَّاجِرِ(4) بِشَوْلِهِ(5)، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي
____________
     1. تتسابق أمور الدهر: أي مصائبه، كأنّ كلاً منها يطلب النزول قبل الاخر، فالسابق منها مهلك، والمتأخر لا حق له في مثل أثره.
     2. الاعلام هي الرايات: كنّى بهم عن الجيوش. وتظاهر: تعاونها.
     3. الساعة: القيامة. وحَدْوُها:سَوْقها وحثّها لاهل الدنيا على المسير للوصول إليها.
     4. زاجر الابل: سائقها.
     5. الشَوْل ـ بالفتح ـ : جمع شائلة، وهي من الابل ما مضى عليها من حملها أووضعها سبعة أشهر.


( 339 )


طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّىءَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ.
     اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْن عَزِيز، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْن ذَلِيل، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلاَ يُحْرِزُ(1) مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ. أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ(2) الْخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصُوَى.
     عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الاَْنْفُسِ عَلَيْكُم، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ; فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ(3) لاَِيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ(4)، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْب وُقُوف، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بَالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلاخِرَةِ! وَمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيل يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ(5) وَحِسَابُهُ!
    
____________
     1. لا يُحْرِزُ: لا يحفظ.
     2. الحُمَة ـ بضم ففتح ـ : في الاصل إبرة الزّنبور والعقرب ونحوها تلسع بها، والمراد هنا سطوة الخطايا على النفس.
     3. أيام الفناء: يريد أيام الدنيا.
     4. المراد «بالظّعن» المأمور به ها هنا السير إلى السعادة بالاعمال الصالحة، وهذا ما حثنا الله عليه.
     5. تَبَعَتُهُ: ما يتعلق به من حق الغير فيه.


( 340 )


عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ.
     عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الاَْعْمَالُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الاَْطْفَالُ.
     اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً(1) مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْق يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْل دَاج، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُورِتَاج(2)، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ.
     يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ، وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَ حِقاً بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِىء مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الاَْرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ(3)، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ، فَيَالَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَة، وَمَنْزِلِ وَحْشَة، وَمُفْرَدِ غُرْبَة!
     وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ(4) قَدْ أَتَتْكُمْ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ، وَبَرَزْتُمْ لَفَصْلِ
____________
     1. الرّصَد: الرّقيب. ويريد به هنا رقيب الذمة وواعظ السر.
     2. الرّتاج ـ ككتاب ـ : الباب العظيم إذا كان مُحْكَم الغَلْق.
     3. منزل وحدته: هو القبر.
     4. المراد «بالصيحة» هنا الصيحة الثانية، بقوله تعالى: (إن كانت إلاّ صيحةً احدةً)


( 341 )


الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ(1) عَنْكُمُ الاَْبَاطِيلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ، وَصَدَرَتْ بِكُمُ الاُْمُورُ مَصَادِرَهَا، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بَالْغِيَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.

[ 158 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[ينبّه فيها على فضل الرسول الاعظم، وفضل القرآن، ثم حال دولة بني أميّة]
[النبي والقرآن]


     أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَة مِنَ الاُْمَمِ(2)، وَانْتِقَاض مِنَ الْمُبْرَمِ(3)، فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ.
     ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ.

____________
     1. زاحت: بعدت وانكشفت.
     2. الهَجْعة: المرة من الهجوع، وهو النوم ليلاً. والمراد نوم الغفلة في ظلمات الجهالة.
     3. المُبْرَم: المُحْكَم، من أبْرَمَ الحبْلَ إذا أحْكَمَ فَتْلَه. والمراد الاحكام الالهية التي أُبرمت على ألسنة الانبياء.


( 342 )


منها: [في دولة بنى أمية]


     فَعِنْدَ ذلِكَ لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَر وَلاَ وَبَر(1) إِلاَّ وَأَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً(2)، وَأَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً، فَيَوْمَئِذ لاَ يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّماءِ عَاذِرٌ، وَلاَ فِي الاَْرْضِ نَاصِرٌ.
     أَصْفَيْتُمْ(3) بِالاَْمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَأَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ، وَسَيَنْتَقِمُ اللهُ مِمَّنْ ظَلَمَ، مَأْكَلاً بِمَأْكَل، وَمَشْرَباً بِمَشْرَب، مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ، وَمَشَارِبِ الصَّبِرِ(4)وَالْمَقِرِ(5)، وَلِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ، وَدِثَارِ السَّيْفِ(6). وَإِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَزَوَامِلُ الاْثَامِ(7).
     فَأُقْسِمُ، ثُمَّ أُقْسِمُ، لَتَنَخَّمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ(8)، ثُمَّ لاَ تَذُوقُهَا وَلاَ تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ(9)!
    
____________
     1. بيت مَدَر ولا وَبَر: كناية عن أهل الحاضرة والبادية.
     2. تَرْحة: حزن.
     3. أَصْفَيْتَه الشيء: آثرته به واختصصته.
     4. الصّبِر ـ كَكَتف ـ : عُصارة شجر مرّ. 5. المَقِر ـ على وزن كَتِف ـ : السمّ.
     6. الدّثار ـ ككتاب ـ : من اللباس، أعلاه فوق الملابس; والسيف يكون أشبه بالدّثار إذا عمّت إباحة الدم بأحكام الهوى.
     7. الزّوامل: جمع زاملة، وهي ما يحمل عليها الطعام من الابل ونحوها.
     8. نَخِمَ ـ كفرح ـ : أخرج النّخامة من صدره فألقاها. والنّخامة ـ بالضمّ ـ : ما يدفعه الصدر أوالدماغ من المواد المُخاطيّة.
     9. الجديدان: الليل والنهار.


( 343 )


[ 159 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يبيّن فيها حسن معاملته لرعيّته]


     وَلَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ، وَأَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ، وَأَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رَبَقِ(1) الذُّلِّ، وَحَلَقِ(2) الضَّيْمِ، شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ، وَإِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ، وَشَهِدَهُ الْبَدَنُ، مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِيرِ.

[ 160 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)


أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ، وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ، يَقْضِي بِعِلْم، وَيَعْفُو بحِلْم.
     اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَتُعْطِي، وَعَلَى مَا تُعَافي وَتَبْتَلي.
     حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ، وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ، وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ.
     حَمْداً يَمْلاَُ مَا خَلَقْتَ، وَيَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ.
     حَمْداً لاَ يُحْجَبُ عَنْكَ، وَلاَ يُقْصَرُ دُونَكَ.
     حَمْداً لاَ يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ، وَلاَ يَفْنَى مَدَدُهُ.
    
____________
     1. رِبَق: جمع رِبْقة وهي الحبل يُرْبق به.
     2. حَلَق: جمع حَلْقَة.


( 344 )


فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلاَّ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ: حَيٌّ قَيُّومٌ، لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ(1) وَلاَ نَوْمٌ، لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ، وَلَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ، أَدْرَكْتَ الاَْبْصَارَ، وَأَحْصَيْتَ الاَْعْمَالَ، وَأَخَذْتَ (بِالنَّواصِي وَالاَْقْدَامِ)، وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ.
     فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ(2)خَلْقَكَ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سمَـاوَاتِكَ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلى مَوْرِ(3) الْمَاءِ أَرْضَكَ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً(4)، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً(5)، وَسَمْعُهُ وَالَهِاً(6)، وَفِكْرُهُ حَائِراً.

____________
     1. السِّنة ـ بكسر السين ـ : أوائل النوم.
     2. ذَرَأتَ: خَلَقْتَ. 3. المَوْر ـ بالفتح ـ : الموج.
     4. حَسِيراً: مُتْعَباً.
     5. المَبْهُور: المغلوب ومنقطع نَفَسه من الاعياء.
     6. الواله من الوَلَهَ: وهو ذهاب الشعور.


( 345 )


منها: [كيف يكون الرجاء]


     يَدَّعِي بِزُعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللهَ، كَذَبَ وَالْعَظِيمِ! مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلَهِ؟ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ، وَكُلُّ رَجَاء ـ إلاَّ رَجَاءَ اللهِ ـ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ(1)، وَكُلُّ خَوْف مُحَقَّقٌ(2)، إِلاَّ خَوْفَ اللهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ(3)، يَرْجُو اللهَ فِي الْكَبِيرِ، وَيَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ، فَيُعْطِي العَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي الرَّبَّ! فَمَا بَالُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ بِعِبَادِهِ؟
     أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً؟ أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً؟ وَكَذلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِماراً(4) وَوَعْداً، وَكَذلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا في عَيْنِهِ، وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ، آثَرَهَا عَلَى اللهِ، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا، وَصَارَ عَبْداً لَهَا.

____________
     1. المَدُخول: المغشوش غير الخالص، أوهو المَعيب الناقص لا يترتّب عليه عمل.
     2. الخوف المحقّق: هو الثابت الذي يبعث على البعد عن المَخُوف والهرب منه.
     3. الخوف المعلول: هو مالم يثبت في النفس ولم يخالط القلب، وإنما هو عارض في الخيال يزيله أدنى الشواغل. فهو كالاوهام لا قرار لها، و«معلول» من عَلّهُ يَعُلّه إذا شربه مرة بعد أخرى.
     4. الضِّمار ـ ككتاب ـ : ما لا يُرْجى من الرعود والديون.


( 346 )


[رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)]


     وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) كَاف لَكَ فِي الاُْسْوَةِ(1)، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا(2)، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا.

[موسى(عليه السلام)]


     وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسى كَلِيمِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) إذْ يَقُولُ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ)، وَاللهِ، مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لاِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الاَْرْضِ، وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ(3) صِفَاقِ(4)بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ(5).

[داوود(عليه السلام)]


     وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوودَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ، وقَارِىءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ(6) بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا! وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.
____________
     1. الاسْوَة: القدوة.
     2. الاكناف: الجوانب. وزَوَى: قبض.
     3. شفيف: رقيق، يُسْتَشَفّ ما وراءه.
     4. الصِّفاق ـ على وزن كتاب ـ : الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن.
     5. تَشَذّبُ اللحم: تفرّقه.
     6. السّفائف ـ جمع سَفِيفة ـ : وصف من «سَفّ الخُوصَ» إذا نسجه، أي منسوجات الخوص.


( 347 )


[عيسى(عليه السلام)]


     وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ(عليه السلام)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بَاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ في الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا(1)، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الاَْرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ!

[الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله)]


     فَتَأَسَّ(2) بِنَبِيِّكَ الاَْطْيَبِ الاَْطْهَرِ(صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى ـ وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لاَِثَرِهِ ـ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً(3)، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ(4) أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً(5)، وَأَخْمَصُهُمْ(6)
____________
     1. ظلاله: جمع ظلّ بمعنى الكِنّ والمأوى. ومن كان كنّه المشرق والمغرب، فلاكِنّ له.
     2. تأسّ: أي اقْتَدِ.
     3. القَضْم: الاكل بأطراف الاسنان، كأنه لم يتناول إلاّ على أطراف أسنانه، ولم يملا منها فمه.
     4. أهْضَمُ: من الهضم وهو خمص البطن، أي خلوها وانطباقها من الجوع.
     5. الكَشْح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلْع الخلفي.
     6. أخْمَصُهم: أخلاهم.


( 348 )


مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للهِِ، وَمُحَادَّةً(1) عَنْ أَمْرِ اللهِ.
     وَلَقَدْ كَانَ(صلى الله عليه وآله) يَأْكُلُ عَلَى الاَْرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ(2)، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ(3)، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ(4)، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: «يَا فُلاَنَةُ ـ لاِِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا».
     فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً(5)، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلاَ يَرْجُو
____________
     1. المُحَادّة: المخالفة في عناد.
     2. خَصَفَ النعلَ: خرزها.
     3. الحمار العاري: ما ليس عليه بَرْدَعة ولا إكاف.
     4. أرْدَف خلفه: أركب معه شخصاً آخر على حمار واحد أوجمل أوفرس أونحوها وجعله خلفه.
     5. الرِّياش: اللباس الفاخر.


( 349 )


فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا(1) عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.
     وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.
     وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا: إِذْ
    جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ(2)، وَزُوِيَتْ عَنْهُ(3) زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ )زُلْفَتِهِ(4).
     فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً(عليه السلام) بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ ـ وَاللهِ الْعَظِيمِ ـ وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.
     فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ عزّوجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) عَلَماً لِلسَّاعَةِ(5)، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ.
    
____________
     1. أشخصها: أبعدها.
     2. خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر، أي مع خصوصيته وتفضله عند ربه.
     3. زُوِيَت عنه ـ بالبناء للمجهول ـ : قُبِضَت واُبْعِدت، ومثله بعد قليل: زَوَى الدنيا عنه: قبضها.
     4. عظيمَ زُلْفَتِه: منزلته العليا من القرب إلى الله.
     5. العَلَم باتحريك: العلامة، أي أن بعثته دليل على قرب القيامة إذ لا نبي بعده.


( 350 )


خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً(1)، وَوَرَدَ الاْخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَر، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ(2)!
     وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي(3) هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي(4)، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى(5).

____________
     1. خميصاً: أي خالي البطن، كناية عن عدم التمتع بالدنيا.
     2. العقِب ـ بفتح فكسر ـ : مؤخر القدم. ووطوء العقب مبالغة في الاتباع والسلوك على طريقة، نقفوه خطوة خطوة حتى كأننا نطأ مؤخر قدمه.
     3. المِدْرَعة ـ بالكسر ـ : ثوب من صوف.
     4. اغْرُبْ عنّي: اذهب وابعد.
     5. السُرَى ـ بضم ففتح ـ : السير ليلاً. وهذا المثل «عند الصباح يحمد القوم السرى» معناه: إذا أصبح النائمون وقدرأوا السارين واصلين إلى مقاصدهم حَمِدوا سُراهم وندموا على نوم أنفسهم.


( 351 )


[ 161 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في صفة النبي وأهل بيته وأتباع دينه]
[وفيها يعظ بالتقوى]
[الرسول وأهله وأتباع دينه]


     ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ، وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي(1)، وَالْكِتَابِ الْهَادِي.
     أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَة، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَة، أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ(2).
     مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ(3)، عَلا بِهَا ذِكْرُهُ، وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ.
     أَرْسَلَهُ بِحُجَّة كَافِيَة، وَمَوْعِظَة شَافِية، وَدَعْوَة مُتَلافِيَة(4).
     أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْـمَجْهُولَةَ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ، وَبَيَّنَ بِهِ الاَْحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ(5).
     فَـ (مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِيناً) تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ، وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ، وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ(6)، وَيَكُنْ مَآبُهُ(7) إلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَالْعَذَابِ الْوَبيلِ
     وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَوَكُّلَ الانَابَةِ(8) إلَيْهِ، وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ المُؤَدِّيَةَ إلى جَنَّتِهِ، الْقَاصِدَةَ إلى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ.
____________
     1. المنهاج البادي: أي الظاهر.
     2. متهدّلة: متدلّية، دانية للاقتطاف.
     3. طَيْبة: المدينة المنورة
     4. مُتلافية: من تلافاه تداركه بالاصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
     5. المفصولة: التي فصلها الله أي قضى بها على عباده.
     6. الكَبْوَة: السقطة.
     7. المآب: المرجع. 8. الاِنابة: الرجوع
    


( 352 )


[النصح بالتّقوى]


     أُوصِيكُمْ عِبَادَاللهِ، بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ، فَإنَّهَا النَّجَاةُ غَداً، وَالْمَنْجَاةُ أَبَداً. رَهَّبَ فَأبْلَغَ، وَرَغَّبَ فَأَسْبَغَ(1)، وَوَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعَهَا، وَزَوَالَهَا وَانْتِقَا لَهَا.
     فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا، أَقْرَبُ دَار مِنْ سَخَطِ اللهِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللهِ! فَغُضُّوا عَنْكُمْ ـ عِبَادَاللهِ ـ غُمُومَهَا وَأَشْغَا لَهَا، لِمَا قَدْ أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَتَصَرُّفِ حَالاَتِهَا.
     فَاحْذَروُهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ(2)، وَالْـمُجِدِّ الْكَادِحِ(3)، وَاعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ: قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ(4)، وَزَالَتْ
____________
     1. أسْبَغَ: أي أحاط بجميع وجوه الترغيب.
     2. الشفيق: الخائف. والناصح: الخالص.
     3. الكادح: المُبَالغ في سعْيه.
     4. تزايلت: تفرّقت. والاوْصال: مجتمع العظام. وتفرقها كناية عن تبدد القوم وفنائهم.


( 353 )


أسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، وَذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَعِزُّهُمْ، وَانْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ; فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الاَوْلاَدِ فَقْدَهَا، وَبِصُحْبَةِ الاَزْوَاجِ مُفَارَقتَهَا. لاَ يَتَفَاخَرُونَ، وَلاَ يَتَنَاصَرُونَ، وَلاَ يَتَنَاسَلُونَ، وَلاَ يَتَزَاوَرُونَ، وَلاَ يَتَجَاوَرُونَ.
     فَاحْذَروُا، عِبَادَاللهِ، حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ، الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ، النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ; فَإنَّ الاَْمْرَ وَاضِحٌ، وَالْعَلَمَ قَائِمٌ، وَالطَّرِيقَ جَدَدٌ(1)، وَالسَّبِيلَ قَصْدٌ(2).

[ 162 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال:


     يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ(3)، تُرْسِلُ(4) فِي غَيْرِ سَدَد(5)، وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ(6)، وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ:
    
____________
     1. الجَدَد ـ بالتحريك ـ : المستوي المسلوك
     2. القصد: القويم.
     3. الوَضين: بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج، فاذا قلق واضطرب، اضطرب الرحل فكثر تململ الجمل وقلّ ثباته في سيره.
     4. الارسال: الاطلاق والاهمال.
     5. السّدَد ـ محركاً ـ : الاستقامة.
     6. الذِّمامة: الحماطية والكفاية. والصِّهْر: الصلة بين أقارب الزوجة وأقارب الزوج.


( 354 )


أمَّا الاسْتِبْدادُ عَلَيْنَا بِهذَا الْمَقامِ وَنَحْنُ الاَْعْلَوْنَ نَسَباً، وَالاشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً(1)، فَإنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً(2) شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفوسُ آخَرِينَ، وَالْحَكَمُ اللهُ، وَالْمَعْوَدُ إلَيْهِ الْقِيَامَةُ.

وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً(3) صِيحَ(4)فِي حَجَرَاتِهِ(5) [وَلكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ]


     وَهَلُمَّ(6) الْخَطْبَ (7) فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إبْكَائِهِ، وَلاَ غَرْوَوَاللهِ، فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ، وَيُكْثِرُ الاَوَدَ(8)، حَاوَلَ الْقَوْمُ
____________
     1. النَوْط ـ بالفتح ـ : التعلّق والالتصاق.
     2. الاثَرة: الاختصاص بالشيء دون مستحقه.
     3. النَهْب ـ بالفتح ـ : الغنيمة.
     4. صِيحَ ـ صيغة المجهول من صاح ـ : أي صاحوا للغارة.
     5. حَجَرَاته ـ جمع حَجْرة بفتح الحاء ـ : الناحية.
     6. هَلُمّ: اذكر.
     7. الخَطْب: عظيم الامر وعجيبه.
     8. الاوَد: الاعوجاج.


( 355 )


إِطْفَاءَ نَورِ اللهِ مِنْ مِصْباحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ(1) مِنْ يَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا(2) بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً(3)، فَإنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ(4)، وَإنْ تَكُنِ الاُخْرَى، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

[ 163 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[الخالق جلّ وعلا]


     الْحَمْدُ لله خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ(5)، وَمُسِيلِ الْوِهَادِ(6)،وَمُخْصِبِ النِّجَادِ(7)، لَيْسَ لاَِوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلاَ لاَِزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، هُوَ الاَوَّلُ لَمْ يَزَلْ، وَالْبَاقي بِلا أَجَل، خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ، حَدَّ الاَْشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إبَانَةً
____________
     1. الفوّار والفوارة من الينبوع: الثقب الذي يفور الماء منه بشدّة.
     2. جَدَحُوا: خَلَطُوا.
     3. الشِّرْب ـ بالكسر ـ : النصيب من الماء. والوبِي: ما يوجب شربه من الوَباء.
     4. محض الحق: خالصه.
     5. ساطح المهاد: جاعله سطحاً سهلاً وباسطه للعمل فيه. والمِهاد: الارض.
     6. الوهاد ـ جمع وَهْدَة ـ : ماانخفض من الارض ومُسيلها فاعل من أسال، أي مُجري السيل فيها.
     7. النِّجاد جمع نَجْد: ما ارتفع من الارض.


( 356 )


لَهُ(1)مِنْ شَبَهِهَا، لاَ تُقَدِّرُهُ الاَْوْهامُ بِالْحُدُودِ وَالحَرَكَاتِ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ وَالاْدَوَاتِ، لاَ يُقَالُ لَهُ:«مَتَى»؟ وَلاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ «بِحَتَّى»، الظَّاهِرُ لاَ يُقالُ: «مِمَّ»؟ وَالْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ: «فِيمَ»؟، لاَ شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى، وَلاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى، لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الاَْشْيَاءِ بِالْتِصَاق، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاق، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَة(2)، وَلاَ كُرُورُلَفْظَة، وَلاَ ازْدِلاَفُ رَبْوَة(3)، وَلاَ انْبِسَاطُ خُطْوَة فِي لَيْل دَاج(4)، وَلاَ غَسَق سَاج(5)، يَتَفَيَّأُ(6) عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ، وَتَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْكُرُورِ وَالاُْفُولِ(7)، وَتَقْلِيبِ الاَْزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، مِنْ إِقْبَالِ لَيْل مُقْبِل، وَإِدْبَارِ نَهَار مُدْبِر، قَبْلَ كُلِّ غَايَة وَمُدَّة، وَكُلِّ إِحْصَاء وَعِدَة، تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ(8) الُْمحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الاَْقْدَارِ(9)،
____________
     1. الابانة: هاهنا التمييز والفصل، والضمير في «له» يرجع إليه سبحانه أي تمييزاً لذاته تعالى عن شبهها أي مشابهتها. 2. شخوص لحظة: امتداد بصر بلا حركة من جفن.
     3. ازدلاف الرّبْوة: تقربها من النظر و ظهورها له لانه يقع عليها قبل المنخفضات.
     4. الداجي: المُظْلم.
     5. الغَسَق: الليل. وساج: أي ساكن لا حركة فيه.
     6. عبّر عن نسخ نور القمر له، بالتفيؤ تشبيهاً له بنسخ الظلّ لضياء الشمس، وهو من لطيف التشبيه ودقيقه.
     7. الافول: المغِيب. والكُرُور: الرجوع بالشروق.
     8. نَحَلَهُ القولَ ـ كمنعه ـ : نسبه اليه.
     9. صفات الاقدار: جمع قَدْر ـ بسكون الدال ـ وهو حال الشيء من الطول والعرض والعمق ومن الصغر والكبر.


( 357 )


وَنِهَايَاتِ الاَْقْطَارِ(1)، وَتَأَثُّلِ(2) الْمَسَاكِنِ، وَتَمَكُّنِ الاَْمَاكِنِ; فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ، وَإِلَى غَيْرهِ مَنْسُوبٌ.

[ابتداع المخلوقين]


     لَمْ يَخْلُقِ الاْشْيَاءَ مِنْ أُصُول أَزَلِيَّة، وَلاَ مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّة، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ(3)، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، لَيْسَ لِشَيْء مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَلاَ لَهُ بِطَاعَةِ شَيْء انْتِفَاعٌ، عِلْمُهُ بِالاَْمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالاْحْيَاءِ الْبَاقِينَ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِي السماوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الاْرَضِينَ السُّفْلَى.

منها:


     أَيُّهَا الْـمَخْلُوقُ السَّوِيُّ(4)، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِىُّ(5)، فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْحَامِ،
____________
     1. نهايات الاقطار: هي نهايات الابعاد الثلاثة المتقدم ذكرها.
     2. التّأثّل: التأصّل.
     3. أقام حدّه: أي ما به امتاز عن سائر الموجودات.
     4. السّوِي: مستوي الخلقة لا نقص فيه.
     5. المنشأ: المبتدع. والمَرْعي: المحفوظ المعنيّ بأمره.


( 358 )


وَمُضَاعَفَاتِ الاَْسْتَارِ، بُدِئْتَ (مِنْ سُلاَلَة(1) مِنْ طِين)، وَوُضِعْتَ (فِي قَرَار مَكِين(2) * إِلَى قَدَر مَعْلُوم) وَأَجَل مَقْسُوم، تَمُورُ(3) فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لاَ تُحِيرُ(4) دُعَاءً، وَلاَ تَسْمَعُ نِدَاءً، ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَار لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا; فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ؟ وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ؟! هَيْهَاتَ، إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَالاَْدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الَْمخْلُوقِينَ أَبْعَدُ!

____________
     1. السُلالة من الشيء: ماانسلّ منه.
     2. القرار المَكِين: محل الجنين من الرحم.
     3. تَمُور: تَتَحَرّك.
     4. لا تحيرُ: من قولهم: ما أحار جواباً، أي لم يستطع ردّاً.


( 359 )


[ 164 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لما اجتمع الناس اليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم، فدخل(عليه السلام) على عثمان فقال:


     إِنَّ النَّاسَ وَرَائي، وَقَدِ اسْتَسْفَرُوني(1) بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْر لاَ تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْء فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيْء فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله) كَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَشِيجَةَ(2) رَحِم مِنْهُمَا، وَقَدْ نِلْتَ مَنْ صَهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ.
     فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ! فَإِنَّكَ ـ وَاللهِ ـ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلاَ تُعَلّمُ مِنْ جَهْل، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ.
     فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِاللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَي، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ، لَهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَاللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً.
     وَإِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالاِْمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلاَ عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثُمَّ يَرْتَبِطُ(3) فِي قَعْرِهَا».
     وَإِني أَنْشُدُكَ اللهَ أنْ تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الاُْمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ
____________
     1. اسْتَسْفَرُوني: جعلوني سفيراً.
     2. الوَشِيجة: اشتباك القرابة.
     3. ربطه فارتبط: أي شدّة وحبسه.


( 360 )


فِي هذِهِ الاُْمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلى يَوْمِ الْقُيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا، فَلاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً(1).
     فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً(2) يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلَ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ.
     فَقَالَ لَهُ عُثْـمَانُ: كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِن مَظَالِمِهِمْ، فَقال(عليه السلام):
     مَاكَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلاَ أَجَلَ فِيهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ.

[ 165 ]
ومن خطبة له
يذكر فيها عجيب خلقه الطاووس


[خلقة الطيور]


     ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَان وَمَوَات، وَسَاكِن وَذِي حَرَكَات، وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسْلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ(3) فِي أَسْـمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى
____________
     1. المَرْج: الخلط.
     2. الّسيِّقة ـ كَكَيّسة ـ : ما استاقه العدو من الدواب.
     3. نَعَقَتْ من نَعَقَ بغنمه ـ كمنع ـ : صاح.


( 361 )


وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا ذَرَأَ(1) مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الاَْطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ(2) الاْرْضِ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا(3)، وَرَوَاسِي أعْلاَمِهَا(4)، مِنْ ذَوَاتِ أَجْنِحَة مُخْتَلِفَة، وَهَيْئَات مُتَبَايِنَة، مُصَرَّفَة فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَة(5) بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ(6) المُنفَسِحِ وَالْفَضَاءِ المُنفَرِجِ.
     كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجائِبِ صُوَر ظَاهِرَة، وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ(7) مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَة(8)، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ(9) خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ(10) فِي الْهَوَاءِ
____________
     1. ذرأ: خلق.
     2. الاخاديد ـ جمع أُخدُود ـ : الشقّ في الارض. 3. الخُرُوق ـ جمع خَرْق ـ : الارض الواسعة تتخرق فيها الرياح. والفِجاج ـ جمع فج ـ : الطريق الواسع.
     4. الاعلام: جمع عَلَم بالتحريك، وهو الجبل.
     5. مرفرفة; من رفرف الطائر: بسط جناحيه.
     6. المَخَارق ـ جمع مَخْرق ـ : الفلاة.
     7. الحِقاق ـ ككتاب ـ : جمع حُقّ ـ بالضمّ ـ : مجتمع المَفْصِليْن. 8. احتجاب المفاصل: استتارها باللحم والجلد.
     9. العَبَالة: الضخامة وامتلاء الجسد.
     10. يسمو: يرتفع.


( 362 )


خُفُوفاً(1)، وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً(2)، وَنَسَقَهَا(3) عَلَى اخْتِلاَفِهَا فِى الاْصَابِيغِ(4)بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ; فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ(5) لَوْن لاَ يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيه، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغ قَدْ طُوِّقَ(6) بِخِلاَفِ مَا صُبِغَ بِهِ.

[الطاووس]


     وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ، الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيل، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيد(7)، بِجَنَاح أَشْرَجَ قَصَبَهُ(8)، وَذَنَب أَطَالَ مَسْحَبَهُ.
    
____________
     1. خُفُوفاً: سرعة وخفة.
     2. دفيف الطائر: مروره فُوَيْق الارض.
     3. نَسَقَها: رتبها.
     4. الاصابِيغ: جمع أصْباغ ـ بفتح الهمزة ـ : جمع صِبْغ ـ بالكسر ـ وهو اللون أومايصبغ به.
     5. القالَب: مثال تفرغ فيه الجواهر لتأتي على قدره. والطائر ذواللون الواحد كأنما أُفرغ في قالب من اللون.
     6. طُوِّق: أي أن جميع بدنه بلون واحد إلاّ لون عنقه فانه يخالف سائر بدنه، كأنه طوق صيغ لحليته.
     7. التنضيد: النظم والترتيب.
     8. أشْرَج قَصَبَهُ: أي داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها في الطول والقصر.


( 363 )


إذَا دَرَجَ(1) إلَى الاُْنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ، وَسَمَا بِهِ(2) مُطِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ(3) كَأَنَّهُ قِلْعُ(4) دَارِيّ(5) عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ(6).
     يَخْتَالُ(7) بِأَلْوَانِهِ، وَيَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ(8)، يُفْضِي(9) كَإفْضَاءِ الدِّيَكَةِ، وَيَؤُرُّ بِمَلاَقِحِهِ(10)[أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ(11) لِلضِّرَابِ(12)]
    
____________
     1. دَرَجَ إليه: مشى اليه.
     2. سما به: أي ارتفع به، أي رفعه.
     3. مطلاًّ على رأسه: مشرفاً عليه كأنه يظلّله.
     4. القِلع ـ بكسر فسكون ـ : شراع السفينة.
     5. الدّارىّ: جالب العطر من دَارِين.
     6. عَنَجَهُ: جذبه فرفعه، من عَنَجت البعير إذا جذبته بخطامه فرددته على رجليه. النّوتي: البحار.
     7. يختال: يعجب.
     8. يميس: يتبختر بِزَيَفَانِ ذنبه. وأصل الزّيَفَان التبختر أيضاً، ويريد به هنا حركة ذنب الطاووس يميناً وشمالاً.
     9. يُفْضي: أي إلى أُنْثاه ويسفد كما تذهب الدّيكة ـ جمع ديك ـ .
     10. يَؤرّ: يَسْفِدُ، ومَلاقِحُهُ: أدوات اللِّقاح وأعضاؤه وهي آلات التناسل.
     11. أرّ الفحولِ: أي أرّاً مثل أرِّ الفحول. المغتلمة : ذات الغلمة والشهوة والشبق.
     12. الضراب: لقاح الفحل لانثاه.


( 364 )


أُحِيلُكَ مِنْ ذلِكَ عَلَى مُعَايَنَة(1)، لاَ كَمَنْ يُحِيلُ عَلى ضَعِيف إسْنَادُهُ، وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَة تَسْفَحُهَا(2) مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ في ضَفَّتَي جُفُونِهِ(3)، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ(4)، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْل(5) سِوَى الدَّمْعِ الْمُنبَجِسِ(6)، لَمَا كَانَ ذلِكَ بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ!(7).
     تَخَالُ قَصَبَهُ(8) مَدَارِىَ(9) مِنْ فِضَّة، وَمَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ(10)،
____________
     1. على مُعَايَنَة: أي اذهب وعاين صدق ما أقول.
     2. تَسْفَحُها: أي ترسلها أوعية الدمع.
     3. ضَفّة الجفن ـ بفتح الضاد وتكسرـ : استعارة من ضفتي النهر بمعنى جانبيه.
     4. تَطْعَمُ دلك ـ كتعلم ـ أي: تذوقه كأنها تترشّفه.
     5. لقَاحِ الفحلِ: ماء التناسل يلقح به الانثى.
     6. المنبجس: النابع من العين.
     7. مُطاعَمَةُ الغراب: تلقيحه لانثاه. وقالوا: إن مطاعمة الغراب بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذكر إلى الانثى تتناوله من منقاره.
     8. القَصَب ـ جمع قَصَبة ـ : هى عمود الريش.
     9. المَدَاري ـ جمع مِدْرَى بكسر الميم ـ قال ابن الاثير: المِدْرَى والمِدْرَاة: مصنوع من حديد أوخشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرح به الشعر المتلبد ويستعمله من لا مشط له.
     10. الدّارات: هالات القمر.


( 365 )


وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ(1)، وَفِلَذَ(2) الزَّبَرْجَدِ. فَإنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الاَْرْضُ قُلْتَ: جَنِىٌّ(3) جُنِىَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيع، وَإنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْملابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِىِّ(4) الْحُلَلِ أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ الَيمَنِ(5)، وَإنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوص ذَاتِ أَلْوَان، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ(6).
     يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ(7)، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ(8)، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ(9); فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى
____________
     1. العِقْيان: الذهب الخالص أوما ينمو منه في معدنه.
     2. فِلَذ ـ كعنب ـ : جمع فِلْذَة بمعنى القطعة.
     3. جَنى: أي مجتنى جمع كل زهر لانّه جمع كل لون.
     4. الموشي: المنقوش المنمنم على صيغة اسم الفاعل. 5. العَصْب ـ بالفتح ـ : ضرب من البرود منقوش.
     6. جعل اللّجَيْن ـ وهو الفضة ـ منطقة لها. والمكلّل: المزيّن بالجواهر. فكما تمنطقت الفصوص باللجين كذلك زُين اللجين بها.
     7. المَرِح ـ ككتف ـ : المُعْجَب. والمختال: الزاهي بحسنه.
     8. السِّرْبال: اللباس مطلقاً أوهو الدِرْع خاصة.
     9. الوِشاح: نظامان من لؤلؤ وجوهر يخالف بينهما ويعطف أحدهما على الاخر بعد عقد طرفه به حتى يكونا كدائرتين إحداهما داخل الاخرى كل جزء من الواحدة يقابل جزءاً من قرينتها ثم تلبسه المرأة على هيئة حمالة السيف.


( 366 )


قَوَائِمِهِ زَقَا(1) مُعْوِلاً(2) بِصَوْت يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لاِنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ(3) كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ(4).
     وَقَدْ نَجَمَتْ(5) مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ(6) صِيصِيَةٌ(7) خَفِيَّةٌ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ(8) خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ(9)، وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالاْبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا(10)
____________
     1. زقا يزقو: صاح.
     2. مُعْوِلاً: من أعْوَل، رفع صوته بالبكاء.
     3. حُمْش: جمع أحمش أي دقيق.
     4. الديك الخلاسيّ ـ بكسر الخاء ـ : هو المتولد بين دجاجتين هندية وفارسية.
     5. وقد نَجَمَت: أي نَبَتت.
     6. ظُنْبوب ساقه: حرف عظمه الاسفل.
     7. صِصِيَة: شوكة تكون في رجل الديك.
     8. القُنْزُعة ـ بضم القاف والزاي بينهما سكون ـ : الخَصْلة من الشعر تُتْرَك على رأس الصبي.
     9. مُوَشّاة: منقوشة.
     10. مَغرزها: الموضع الذي غُرِزَ فيه العنق منتهياً إلى مكان البطن.


( 367 )


إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ(1) الْـيَـمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَة مُلْبَسَة مِرْآةً ذَاتَ صِقَال(2)، وَكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَر أَسْحَمَ(3); إلاَّ أنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ، وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الاُْقْحُوَانِ(4)، أَبْيَضُ يَقَقٌ(5)، فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ(6).
     وَقَلَّ صِبْغٌ إلاَّ وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْط(7)، وَعَلاَهُ(8) بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِيقِهِ،
____________
     1. الوَسِمَة: هي نبات يخضب به.
     2. الصِّقال: الجلاء.
     3. المِعْجَر ـ كمنبر ـ : ثوب تعتجر به المرأة فتضع طرفه على رأسها ثم تمر الطرف الاخر من تحت ذقنها حتى ترده إلى الطرف الاول فيغطي رأسها وعنقها وعاتقها وبعض صدرها، وهو معنى التلفع هاهنا. والاسْحَم: الاسود.
     4. الاقْحُوان: البابونج.
     5. اليَقَقُ ـ محركاً ـ : شديد البياض.
     6. يَأتَلِقُ: يلمع.
     7. قِسْط: نصيب.
     8. علاه: أي فاق اللون الذي أخذ نصيباً منه بكثرة جلائه.


( 368 )


وَبَصِيصِ(1) دِيبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ(2)، فَهُوَ كَالاَْزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ(3)، لَمْ تُرَبِّهَا(4) أَمْطَارُ رَبِيع، وَلاَ شُمُوسُ قَيْظ(5). وَقَدْ يَنْحَسِرُ(6) مِنْ رِيشِهِ، وَيَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ، فَيَسْقُطُ تَتْرَى(7)، وَيَنْبُتُ تِبَاعاً، فَيَنْحَتُّ(8) مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الاَْغْصَانِ، ثُمَّ يَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَلاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ!
     وَإذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً، وَأَحْيَاناً صُفْرَةً عسْجَدِيَّةً(9).
    
____________
     1. البصيص: اللمعان.
     2. الرونق: الحسن.
     3. الازاهير: جمع أزهار جمع زَهْر. فهي جمع الجمع. والمبثوثة: المنثورة.
     4. لم تُرَبّها: فعل من التربية.
     5. القَيْظ: الحر.
     6. يَنْحَسِرُ: هو من «حَسَرَهُ» أي كشفه، أي: وقد ينكشف من ريشه فيسقط.
     7. تَتْرَى: أي شيئاً بعد شيء وبينهما فترة.
     8. يَنْحَتّ: يسقط وينقشر.
     9. عسْجَدِيّة: ذهبية.


( 369 )


فَكَيْفَ تَصِلُ إلَى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ(1) الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ؟!
     وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الاَْوهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالاَْلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ(2) عَنْ وَصْفِ خَلْق جَلاَّهُ(3) لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً، وَأَعْجَزَ الاَْلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ!

[صغار المخلوقات]


     فَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ(4) الذَّرَّةِ(5) وَالْهَمَجَةِ(6) إلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَالاَْفْيِلَةِ! وَوَأَى(7) عَلَى نَفْسِهِ أَلاَّ يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ
____________
     1. عمائق: جمع عميقة.
     2. بهر العقول: قهرها فردّها.
     3. جَلاّه ـ كحَلاّه ـ : كشفه.
     4. أدمَجَ قوائمها: أوْدَعَ أرْجُلَها فيها.
     5. الذّرّة: واحدة الذَرّ: صغار النمل.
     6. الهمَجة ـ محركة ـ : واحدة الهمَج ذباب صغير يسقط على وجوه الغنم.
     7. وَأى: وعد.


( 370 )


الرُّوحَ، إِلاَّ وَجَعَلَ الْحِمَامَ(1) مَوْعِدَهُ، وَالْفَنَاءَ غَايَتَهُ.

[منها: في صفة الجنة]


     فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ(2) عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَار(3) غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ(4) الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا )وَأَفْنَانِهَا(5)، وَطُلُوعِ تِلْكَ الِّثمارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا(6)، تُجْنَى(7) مِنْ غَيْرِ تَكَلُّف فَتأْتي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا، وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا
____________
     1. الحِمام: الموت.
     2. عَزَفَتْ نفسك: كرهت وزَهِدت.
     3. اصطفاق الاشجار: تضارب أوراقها بالنسيم بحيث يسمع لها صوت.
     4. الكُثْبان: جمع كَثِيب وهو و التلّ.
     5. الافنان: جمع فَنَن ـ بالتحريك ـ وهو الغصن.
     6. غُلُف ـ بضمتين ـ : جمع غلاف. والاكمام: جمع كِمّ ـ بكسر الكاف ـ وهو وعاء الطلع وغطاء النّوَار.
     7. تُجْنَى: تُقْطَف.


( 371 )


بِالاَْعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ(1)، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ.
     قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتََمادَى بهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الاَْسْفَارِ.
     فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ(2)، لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا. جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلى مَنَازِلِ الاْبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ.

تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب

      قَوْلُهُ(عليه السلام): «ويَؤُرُّ بِمَلاقِحِهِ» الاْرُّ: كِنَايَةٌ عَنِ النّكَاح، يُقَالُ: أرّ المَرْأةَ يَؤُرّهَا، إذَا نَكَحَهَا. وَقَوْلُهُ(عليه السلام): «كَأنّهُ قلْعُ دَارِيّ عَنَجَهُ نُوتيّهُ» الْقلْعُ: شِرَاعُ السّفِينَةِ، وَدَارِيّ: مَنْسُوبٌ إلى دَارِينَ، وَهِيَ بَلْدَةٌ عَلَى الْبَحْرِ يُجْلَبُ مِنْهَا الطّيبُ. وَعَنَجَهُ: أَيْ عطفه. يُقَالُ: عَنَجْتُ النّاقَةَ أَعْنُجُهَا عَنْجاً إذَا عَطَفْتُهَا. وَالنّوتي: الْمَلاّحُ. وَقَوْلُهُ: «ضَفّتَيْ جُفُونِهِ» أَرَادَ جَانِبَيْ جُفُونِهِ. وَالضّفّتَانِ: الجانِبَانِ. وَقَوْلُهُ: «وَفِلَذَ الزّبَرْجَدِ» الْفِلَذُ: جَمْعُ فِلْذَة، وَهِيَ القِطْعَةُ. وَقَوْلُهُ: «كَبَائِسِ اللّؤْلُؤِ الرّطْبِ» الْكِبَاسَة: الْعِذْقُ(3). وَالْعَسَالِيجُ: الْغُصُونُ، وَاحِدُهَا عُسْلُوجٌ.

    
____________
     1. المصفّقة: المصفّاة.
     2. المُونِقة: المُعْجِبة.
     3. العِذْق للنخلة كالعنقود للعنب: مجموع الشماريخ وما قامت عليه من العُرْجون.


( 372 )



[ 166 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)

[الحثّ على التآلف]


     لِيَتَأَسَّ(1) صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ، وَلْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغيرِكُمْ، وَلاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ: لاَ في الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ اللهِ يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ(2) بَيْض في أَدَاح(3) يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً، وَيُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً.

منها: [في بني أمية]


     افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ، وَتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ، فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْن أَيْنَما مَالَ مَالَ مَعَهُ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْم لِبَنِي أُمَيَّةَ، كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ(4) يُؤَلِّفُ اللهُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَاباً، يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَيْنِ، حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ(5)،
____________
     1. لِيَتَأسّ: لِيَقْتَدِ.
     2. القَيْض: القشرة العليا اليابسة على البيضة.
     3. الاداحِي: جمع أُدْحي ـ كلُجّيّ ـ وهو مبيض النعام في الرمل تدحوه برجلها لتبيض فيه.
     4. القَزَع ـ محركاً ـ : القطع المتفرقة من السحاب، واحدته قزعة بالتحريك.
     5. الرُكام: السحاب المتراكم. والمستثار: موضع انبعاثهم ثائرين. وسيل الجنتين هو الذي سماه الله سَيْل العَرِم الذي عاقب الله به سبأ على ما بطروا نعمته فدمّرَ جِنانهم وحوّل نعيمهم شقاء. والقارَة ـ كالقَرَارَةـ : ما اطمأن من الارض.


( 373 )


وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ، وَلَمْ يَرُدَّ سَنَنَهُ رَصُّ طَوْد، وَلاَ حِدَابُ(1) أَرْض، يُذعْذِعُهُمُ اللهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ(2)، ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الاَْرْضِ، يَأَخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْم حُقُوقَ قَوْم، وَيُمَكِّنُ لِقَوْم فِي دِيَارِ قَوْم. وَايْمُ اللهِ، لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالتَّـمْكِينِ، كَمَا تَذُوبُ الاَْلْيَةُ عَلَى النَّارِ.

[الناس آخر الزمان]


     أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ، لكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي، لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً(3)، [بِمَا] خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الاَْدْنى، وَوَصَلْتُمُ الاَْبْعَدَ.
     وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ، سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ، وَكُفِيتُمْ مَؤُونَةَ الاعْتِسَافِ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ(4) عَنِ الاَْعْنَاقِ.
    
____________
     1. الاَكَمَة ـ محركة ـ : غليط من الارض يرتفع عما حوالَيْه. والسّنن: يريد به الجَرْي. والطَوْد: الجبل العظيم، والمقصود الجمع. والرصّ: يراد به الارتصاص أي الانضمام والتلاصق، أي لم يمنع جريته تلاصق الجبال. والحِداب ـ جمع حَدَب بالتحريك ـ : ما غلظ من الارض في ارتفاع.
     2. يُذَعْذِعهم ـ بالذال المعجمة مرتين ـ : يفرقهم. وبطون الاودية كناية عن مسالك الاختفاء.
     3. ليضعّفَنّ لكم التيهُ: لتزادَنّ لكم الحيرةُ أضعاف ماهي لكم الان.
     4. الفادِحُ: من فدحه الدَّيْنُ إذا أثقله.


( 374 )


[ 167 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
في أوّل خلافته


     إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْشَّرَّ; فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا(1).
     الْفَرَائِضَ الْفَرائِضَ! أَدُّوهَا إلَى اللهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. إنَّ اللهَ تَعالَى حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُول، [ وَأَحَلَّ حَلاَلاً غَيْرَ مَدْخُول(2) ]، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالاِْخْلاَصِ وَالتَّوحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا(3)، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلاَّ بَمَا يَجِبُ.
     بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ(4)، فَإنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ.
    
____________
     1. صَدَفَ: أعْرَض. والسمْت: الجهة. وتَقْصِدُوا: تستقيموا.
     2. مدخول: مَعِيب.
     3. مَعَاقِد الحقوق: مواضعها من الذمم.
     4. بادره: عاجله; أي عاجلوا أمرَ العامة بالاصلاح لئلا يغلبكم الفساد فتهلكوا.


( 375 )


اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ، أَطِيعُوا اللهَ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ.

[ 168 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
بعد ما بويع بالخلافة


     وقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان؟ فقال:
     يَا إخْوَتَاهُ! إنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ، وَلكِنْ كَيْفَ لي بِقُوَّة وَالْقَوْمُ الْـمُجْلبُونَ(1) عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ(2)، يَمْلِكُونَنَا وَلاَ نَمْلِكُهُمْ! وهَاهُمْ هؤُلاَءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانِكُمْ، وَالْتَفَّتْ إلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ، وَهُمْ خِلاَلَكُمْ(3) يَسُومُونَكُمْ(4) مَا شَاؤُوا; وَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَة عَلَى شَيء، تُرِيدُونَهُ؟! إنَّ هذَا الاَْمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّة، وَإِنَّ لِهؤُلاَءِ الْقَوْمِ مَادَّةً(5).
    
____________
     1. المُجْلِبون من أجْلَبَ عليه: أعانه.
     2. على حدّ شوكتهم: شدتهم، أي لم تنكسر سَوْرَتُهم.
     3. خِلاَلَكم: فيما بينكم.
     4. يسومونكم: يكلفونكم. 5. مادّة: أي عَوْناً ومَدَداً.


( 376 )


إنَّ النَّاسَ مِنْ هذَا الاَْمْرِ ـ إذَا حُرِّكَ ـ عَلَى أُمُور: فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ، وَفِرقْةٌ تَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ لاَ تَرَى لا هذَا وَلاَ هذَا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ، وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا، وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً(1); فَاهْدَأُوا عَنِّي، وَانْظُرُوا مَاذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي، وَلاَ تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ(2) قُوَّةً، وَتُسْقِطُ مُنَّةً(3)، وَتُورِثُ وَهْناً(4) وَذِلَّةً.
     وَسَأُمْسِكُ الاَْمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، وَإذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّواءِ الْكَيُّ(5).

____________
     1. مُسْمحة: اسم مفعول من أسمح أي مُيَسّرة.
     2. ضَعْضَعَهُ: هدمه حتى الارض.
     3. المُنّة ـ بالضم ـ : القدرة.
     4. الوَهْن: الضعف.
     5. الكَىّ: كناية عن القتل.
     وفي بعض النسخ: «وآخر الداء الكيّ»


( 377 )


[ 169 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
[الامور الجامعة للمسلمين]


     إنَّ اللهَ تَعالَى بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَاب نَاطِق وَأَمْر قَائم، لاَ يَهْلِكُ عَنْهُ إلاَّ هَالِكٌ(1)، وَإنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ(2) الْمُشَبَّهَاتِ(3) هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ إلاَّ مَا حَفِظَ اللهُ مِنْهَا، وَإنَّ فِي سُلْطَانِ اللهِ عِصْمَةً لاَِمْرِكُمْ، فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَة(4) وَلاَ مُسْتَكْرَه بِهَا.
     وَاللهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الاْسْلاَمِ، ثُمَّ لاَ يَنْقُلُهُ إلَيكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ(5) الاَْمْرُ إلَى غَيْرِكُمْ.

[ التنفير من خصومه ]


     إنَّ هؤُلاَءِ قَدْ تَمَالاُوا(6) عَلَى سَخْطَةِ(7) إمَارَتِى، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ; فَإنَّهُمْ إنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هذَا الرَّأْي(8) انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ،
____________
     1. إلاّ هالك: أي إلاّ من كان في طبْعِه عوج جِبِلِّي، فحتم الشقاء الابدي.
     2. المُبْتَدَعات: ما أُحْدِثَ ولم يكن على عهد الرسول.
     3. المُشَبّهات: البِدَع الملبسة ثوب الدين المشبهة به وليست منه هي المهلكه إلاّ أن يحفظ الله منها بالتوبة.
     4. مُلَوّمة ـ من لَوّمَهُ ـ : مبالغة في لامه، أي غير ملوم عليها بالنفاق.
     5. يأرِز: يرجع.
     6. تمالاَُوا: اتفقوا وتعاونوا.
     7. السّخْطة ـ بالفتح ـ : الكراهة والبغض.
     8. فَيَالةِ الرأي ـ بالفتح ـ : ضَعْفه.


( 378 )


وَإنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللهُ عَلَيْهِ(1)، فَأَرَادُوا رَدَّ الاُْمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا.
     وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللهِ وَسِيرَةِ رَسُولِهِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالْنَّعْشُ(2) لِسُنَّتِهِ.

[ 170 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[ في وجوب اتباع الحقّ عند قيام الحجّة ]


     كلّم به بعض العرب، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب(عليه السلام) منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبيّن له(عليه السلام) من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ.
     ثمّ قال له: بايع.
     فقال: إني رسول قوم، ولا أحدِث حدثاً حتى أرجع إليهم.
     فقال(عليه السلام): أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ، فَرَجَعْتَ إلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلاَ وَالْمَاءِ، فَخَالَفُوا إلى الْمَعَاطِشِ وَالْـمَجَادِبِ، مَا كُنْتَ صَانِعاً؟
     قال: كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَمُخَالِفَهُمْ إلى الْكَلاَءِ وَالْمَاءِ.
    
____________
     1. أفاءها عليه: أرجعها إليه.
     2. النَعْش: مصدر نعشه، إذا رفعه.


( 379 )


فَقَالَ لَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ : فَامْدُدْ إذاً يَدَكَ.
     فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَاللهِ مَااسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيَّ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
     وَالرّجلُ يُعْرَفُ بِكُلَيْب الجَرْمِيّ.

[ 171 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لما عزم على لقاء القوم بصفين
[الدعاء]


    
     اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(1)، وَالْجَوِّ المَكْفُوفِ(2)، الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً(3) لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَجْرىً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ، وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً(4) مِنْ مَلاَئِكَتِكَ، لاَ يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ.
     وَرَبَّ هذِهِ الاَْرْضِ الَّتي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلاَْنَامِ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ والاَْنْعَامِ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى.
     وَرَبَّ الجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتي جَعَلْتَهَا لِلاَْرْضِ أَوْتَاداً، وَلِلْخَلْقِ
____________
     1. السقف المرفوع: السماء.
     2. المكفوف: اسم مفعول من كَفّه إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض.
     3. مَغِيضاً: من غاض الماءُ إذا نقص، كأن هذا الجو منبع الضياء والظلام وهو مغيضها كما يغيض الماء في البئر. 4. السِّبْط ـ بالكسر ـ : القبيلة.


( 380 )


اعْتَِماداً(1).
     إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ.

[ الدعوة للقتال ]


     أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ(2)، وَالْغَائِرُ(3) عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ(4) مِنْ أَهْلِ )الحِفَاظِ(5)؟! العَارُ وَرَاءَكُمْ، وَالْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ!

[ 172 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)


الْحَمْدُ لله الَّذِي لاَ تُوَارِي(6) عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلاَ أَرْضٌ أَرْضاً.

منها: [في يوم الشورى]


    
____________
     1. اعتماداً: أي معتمداً، أوملجأ يعتصم به.
     2. الذّمار ـ ككتاب ـ : مايلزم الرجل حفظه من أهله وعشيرته.
     3. الغائر: من غار على أمرأته أوقريبته أن يمسها أجنبي.
     4. الحَقائق هنا: وصف لا اسم، يريد النوازل الثابتة التي لا تدفع بل لا تقلع إلاّ بعازمات الهمم.
     5. الحِفاظ: الوفاء ورعاية الذمم.
     6. لا تُوَارِي: لا تَحْجُب.


( 381 )


وَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ يابْنَ أبِي طَالِب عَلَى هذَا الاَْمْرِ لَحَرِيصٌ.
     فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي(1) دُونَهُ، فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ(2) فِي الْملاءِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ(3) كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ!

[الاستنصار على قريش]


     اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْش وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي. ثُمَّ قَالُوا: أَلاَ إنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ.

منها: في ذكر أصحاب الجمل


     فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) كَمَا تُجَرُّ الاَْمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَ هُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيس(4)
____________
     1. ضَرْبَ الوجه: كناية عن الرد والمنع.
     2. قرعته بالحجة: من قرعه بالعصا ضربه بها.
     3. هَبّ: من هبيب التيس أي صياحه، أي كان يتكلم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب.
     4. حَبيس: فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وكلّ واحدة من نساء البني كانت محبوسة لرسول الله لا يجوز لاحد أن يمسّها بعده كأنها في حياته.


( 382 )


رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، فِي جَيْش مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ(1) بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً(2)، وَطَائِفَةً غَدْراً.
     فَوَاللهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ(3) لِقَتْلِهِ، بِلاَ جُرْم جَرَّهُ، لَحَلَّ لي قَتْلُ ذلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَان وَلاَ يَد. دَعْ مَا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ!

____________
     1. خُزّان: جمع خازن.
     2. القتل صبراً: أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت.
     3. معتمدين: قاصدين.


( 383 )


[ 173 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)]
[ومن هو جدير بأن يكون للخلافة وفي هوان الدنيا]


[رسول الله]


     أَمِينُ وَحْيِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ، وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ.
    

[الجدير بالخلافة]


     أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الاَْمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللهِ فِيهِ، فَإِنْ شَغَبَ(1) شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ(2)، فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ.
     وَلَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الاِْمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، [ فـ ]مَا إِلَى ذلك سَبِيلٌ، وَلكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ.
     أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ.
     أُوصِيكُمْ بَتَقْوَى اللهِ، فَإنَّهـ [ا] خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ، وَخَيْرُ عَوَاقِبِ الاُْمُورِ عِنْدَ اللهِ، وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ(3)، وَلاَ يَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ، وَلاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْر حَتَّى تَتَبَيَّنُوا، فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْر تُنْكِرُونَهُ غِيَراً(4).
    
____________
     1. الشغب: تهييج الفساد.
     2. اسْتَعْتَبَ: طلب منه الرضى بالحق.
     3. أهل القِبْلَة: من يعتقد بالله وصدق ما جاء به محمد(صلى الله عليه وآله) ويصلّي إلى قبلة واحدة.
     4. الغِيَر ـ بكسر ففتح ـ : اسم للتغيير أوالتغير.


( 384 )


[هوان الدنيا]


     أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَلاَ مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَلاَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَة لَكُمْ وَلاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ پپ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا، فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا، وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتي دعِيتُمْ إِلَيْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا، وَلاَ يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ(1) الاَْمَةِ عَلَى مَا زُوِىَ(2) عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَالْـمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ.
     أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْء مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ، أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ!

____________
     1. الخنِين ـ بالخاء المعجمة ـ : ضرب من البكاء يردد به الصوت في الانف.
     2. زُوِىَ: أي قبض.


( 385 )


[ 174 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في معنى طلحة بن عبيدالله [ وقد قاله حين بلغه خروج طلحة والزبير إلى البصرة لقتاله]


     قَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بالْحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ، وَأَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَني رَبِّي مِنَ النَّصْرِ.
     وَاللهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً(1) لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ، لاَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَومِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ(2) الاَْمْرُ وَيَقَعَ الشَّكُّ.
     وَوَاللهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلاَث: لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً ـ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ ـ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ(3) قَاتِلِيهِ وَأَنْ يُنَابِذَ(4) نَاصِرِيهِ، وَلَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُنَهْنِهِينَ(5) عَنْهُ وَالْمُعَذِّرِينَ فِيهِ(6)، وَلَئِنْ كَانَ فِي شَكّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَيَرْكُدَ جَانِباً(7) وَيَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ، فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلاَثِ، وَجَاءَ بِأَمْر لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ.

____________
     1. مُتَجَرّداً: كأنه سيف تجرد من غمده.
     2. يَلْتَبِس: أي يشتبه.
     3. يوازر: ينصر ويعين.
     4. المنابذة: المراماة، والمراد المعارضة والمدافعة. 5. نهنهه عن الامر: كفّه وزجره عن إتيانه.
     6. المعذرين فيه: المعتذرين عنه فيما نقم منه.
     7. يَرْكُد جانباً: يسكن في جانب عن القاتلين والناصرين.


( 386 )


[ 175 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في الموعظة وبيان قرباه من رسول الله]


     أَيُّهَا الغَافِلُونَ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ، وَالتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ، مَالي أَرَاكُمْ عَنِ اللهِ ذَاهِبِينَ، وَإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ(1) أَرَاحَ بِهَا(2) سَائِمٌ(3) إلَى مَرْعىً وبيّ(4)، وَمَشْرَب دَوِيّ(5)، وَإنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى(6) لاَ تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا! إذَا أُحْسِنَ إلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا(7).
    
____________
     1. النَعَم ـ محركة ـ : الابل أوهي الغنم.
     2. أراح بها: ذهب بها. وأصل الاراحة: الانطلاق في الريح فاستعمله في مطلق الانطلاق.
     3. السائم: الراعي.
     4. الوَبي: الردي يجلب الوباء.
     5. الدوىّ: الوبيل يفسد الصحة، أصله من الدوا بالقصر أي المرض.
     6. المُدَى ـ جمع مُدْية ـ : السكين، أي معلوفة للذبح.
     7. تحسب يومها دهرها: أي لاتنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئاً لما بعد يومها، ومتى شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع.


( 387 )


وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُل مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ(1) وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله).
     أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ(2) إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ.
     وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إلاَّ صَادِقاً، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ، وَبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الاَْمْرِ، وَمَا
     أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي ألاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ.
     أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَة إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَا كُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا.
    
____________
     1. مَوْلجه: من ولج يلج إذا دخل.
     2. مفضيه: أصله من أفضى إليه: خلا به.


( 388 )


[ 176 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة]
[عظة الناس]


     انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْذَرَ إلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ(1)، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الاَْعْمَالِ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله)كَانَ يَقُولُ: «إنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، وَإنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ».
     وَاعْلَمُوا أنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْءٌ إلاَّ يَأْتي فِي كُرْه، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيءٌ إلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَة.
     فَرَحِمَ اللهُ رَجُلاً نَزَعَ عَنْ(2) شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ، فَإنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْء مَنْزِعاً(3)، وَإنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَة فِي هَوىً.
     وَاعْلَمُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إلاَّ وَنَفْسُهُ
____________
     1. أعْذَرَ اليكم بالجلية: أي بالاعذار الجلية. والعذر هنا مجاز عن سبب العقاب في المؤاخذة عند مخالفة الاوامر الالهية.
     2. نزع عنه: انتهى وأقلع.
     3. أبعد منزعاً: أي نزوعاً بمعنى الانتهاء والكف عن المعاصي.


( 389 )


ظَنُونٌ(1)عِنْدَهُ، فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا(2) وَمُسْتَزِيْداً لَهَا، فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ، وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ، قَوَّضُوا(3) مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازلِ.

[فضل القرآن]


     وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالُْمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً.
     وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة(4)، وَلاَ لاحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً; فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لاَْوَائِكُمْ(5)، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ.
____________
     1. ظَنون ـ كصَبور ـ : الضعيف والقليل الحيلة. 2. زارياً عليها: أي عائباً.
     3. التقويض: نزع أعمدة الخيمة وأطنابها، والمراد أنهم ذهبوا بمساكنهم وطووا مدّة الحياة كما يطوي المسافر منازل سفره، أي مراحله ومسافاته.
     4. فَاقَة: أي فقر وحاجة إلى هاد سواه.
     5. اللاواء: الشدة.


( 390 )


وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ(1) فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ(2) الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه، فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ; فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ(3).

[الحث على العمل]


     الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ! إنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُمْ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَماً(4) فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إلى غَايَتِهِ، وَاخْرُجُوا إلَى اللهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ(5)، وَبَيَّنَ لكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ(6).
     أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ، وَحَجِيجٌ(7) يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ.
____________
     1. شفاعة القرآن: نطق آياته بانطباقها على عمل العامل.
     2. مَحَل بهِ ـ مثلث الحاء ـ : كاده بتبيين سيئاته عند السلطان، كناية عن مباينة أحكامه لما أباه العبد من أعماله.
     3. استغشّوا أهواءكم: أي ظنوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن.
     4. العَلَم ـ محركاً ـ : يريد به القرآن.
     5. خرج إلى فلان من حقه: أداه، فكأنه كان حبيساً في مؤاخذته فانطلق.
     6. الوظائف: ما قدّر الله لنا من الاعمال المخصصة بالاوقات والاحوال كالصوم والصلاة والزكاة.
     7. حَجيج ـ من حج ـ : إذا أقنع بحجته.


( 391 )


[نصائح للناس]


     أَلاَ وَإنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ(1)، وَإنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللهِ(2) وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، وَقَدْ قُلْتُمْ: (رَبُّنَا اللهُ)، فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ، وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادتِهِ، ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا، وَلاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا، وَلاَ تُخَالِفُوا عَنْهَا; فَإنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
     ثُمَّ إيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ(3) الاَْخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا(4)، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً،
____________
     1. تورَّدَ: هو تفعّل كتنزّل، أي ورد شيئاً بعد شيء.
     2. عِدَة الله ـ بكسر ففتح ـ : وعده.
     3. تهزيع الشيء: تكسيره، والصادق إذا كذب فقد انكسر صدقه، والكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه.
     4. تصريف الاخلاق: من صرفته إذا قلبته، نهي عن النفاق والتلوّن في الاخلاق.


( 392 )


وَلْيَخْتَزِنَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ(1)، فَإنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ(2)، وَاللهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ لِسَانَهُ، وَإنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ(3)، وَإنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ: لاِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَكَلاَم تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ، وَإنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ، وَإنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَاذَا لَهُ، وَمَاذَا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله): «لاَ يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»; فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ سُبْحانَهُ وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَلْيَفْعَلْ.

[تحريم البدع]


     وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُؤمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ، وَيُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ، وَأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً
____________
     1. ليختزن: أي ليحفظ لسانه.
     2. الجَمُوح: من جمح الفرس إذا غلب فارسه فيوشك أن يطرح به في مهلكة فيرديه.
     3. لسان المؤمن من وراء قلبه: لسان المؤمن تابع لاعتقاده، لا يقول إلا ما يعتقد.


( 393 )


مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَلكِنَّ الْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الاُْمْورَ وَضَرَّسْتُمُوهَا(1)، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَضُرِبَتِ الاَْمْثَالُ لَكُم، وَدُعِيتُمْ إلَى الاَْمْرِ الْوَاضِحِ; فَلاَ يَصَمُّ عَنْ ذلِكَ إلاَّ أَصَمُّ، وَلاَ يَعْمَى عَنْهُ إلاَّ أَعْمَى.
     وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِالْبَلاَءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْء مِنَ الْعِظَةِ، وَأَتَاهُ الْتَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ(2)، حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ، وَيُنْكِرَ مَا عَرَفَ.
     وَإنَّمَا النَّاسُ رَجُلاَنِ: مُتَّبِعٌ شِرْعَةً، وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّة، وَلاَ ضِياءُ حُجَّة.

[القرآن]


     وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ الاَْمِينُ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ، وَبَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ.
     فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله)كَانَ يَقُولُ: «يَابْنَ آدَمَ، اعْمَلِ الْخَيْرَ وَدَعِ الشَّرَّ، فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ»(3).
____________
     1. ضَرّسَتْه الحرب: جرّبته. أي جربتموها.
     2. الاتيان من الامام: كناية عن الظهور كأن التقصير عدوّ قويّ يأتي مجاهرة لايخدع ولايفر.
     1. جواد قاصد: أي مستقيم أو قريب من الله والسعادة.


( 394 )


[أنواع الظلم]


     أَلاَ وَإنَّ الظُّلْمَ ثَلاَثَةٌ: فَظُلْمٌ لاَ يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لاَ يُتْرَكُ، وظُلْمٌ مَغْفُورٌ لاَ يُطْلَبُ:
     فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)
     وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ(1).
     وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً.
     الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَى(2) وَلاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ(3)، وَلكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ.
     فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيَما تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقّ، خَيْرٌ
____________
     1. الهَنات ـ بفتح الهاء ـ : جمع هَنة محركة: الشيء اليسير والعمل الحقير. والمراد به صغائر الذنوب.
     2. المُدَى: جمع مُدْية، وهي السكّين.
     3. السِياط: جمع سَوْط.


( 395 )


مِنْ فُرْقَة(1) فِيَما تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَة خَيْراً مِمَّنْ مَضَى، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ.

[لزوم الطاعة]


     يَا أيُّهَا النَّاسُ طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ، وَأَكَلَ قُوتَهُ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُل، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة!

[ 177 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في معنى الحكمين


     فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا(2) عِنْدَ الْقُرْآنِ، ولاَ يُجَاوِزَاهُ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالاِْعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا، وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاَِنْفُسِنَا، حِينَ خَالفَا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ.
____________
     1. الفُرْقة ـ بضم الفاء ـ : التفرّق والشقاق.
     2. يُجَعْجِعَا: من جعجع البعير إذا برك، ولزم الجَعْجاع أي الارض، أي أن يقيما عند القرآن.
     والتبع ـ محركاً ـ : التابع، للواحد والجمع. وتاها: أي ضلاً.


( 396 )


[ 178 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في الشهادة والتقوى]


     [وقيل: إنّه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته]
لاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ، وَلاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ، وَلاَ يَصِفُهُ لِسَانٌ، وَلاَ يَعْزُبُ(1) عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ، وَلاَ نُجُومِ السَّماءِ، وَلاَسَوَافِي الرِّيحِ(2) فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ دَبِيبُ الـنَّمْلِ عَلَى الصَّفَا(3)، وَلاَ مَقِيلُ الذَّرِّ(4) فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ. يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الاَْوْرَاقِ، وَخَفِيَّ طَرْفِ الاَْحْدَاقِ(5).
     وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهِ إِلاَّ اللهُ غَيْرَ مَعْدُول بِهِ(6)، وَلاَ مَشْكُوك فِيهِ، وَلاَ مَكْفُور
____________
     1. لا يَعْزُب: لايخفى.
     2. سَوَافي الريح: جمع سافية، من سَفّت الرّيح الترابَ والورقَ، أي حَمَلتهُ.
     3. الصَفا ـ مقصُوراً جمع صَفاة ـ : الحجر الاملس الضخم. ودبيب النمل: أي حركته عليه في غاية الخفاء لايسمع لها حس.
     4. الذَّرّ: صغار النمل. ومَقِيلها: محلّ استراحتها ومَبِيتها.
     5. طَرْف الحَدَقَة: تحريك جَفْنَيْها، والحَدَقة هنا العين.
     6. عَدَلَ بالله: جعل له مِثْلاً وعَديلاً.


( 397 )


دِينُهُ، وَلاَ مَجْحُود تَكْوِينُهُ(1)، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ، وَصَفَتْ دِخْلَتُهُ(2)، وَخَلَصَ يَقِينُهُ، وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ.
     وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْـمُجْتَبَى(3) مِنْ خَلاَئِقِهِ، وَالْمُعْتَامُ(4) لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ، وَالْـمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ(5) كَرَامَاتِهِ(6)، وَالْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى(7)، وَالْـمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ(8) الْعَمَى.
    
____________
     1. تكوينه: خَلْقه للناس جميعاً.
     2. دِخْلَته ـ بالكسر والضم ـ : باطنه.
     3. المجتبى: المصطفى.
     4. العِيمَة ـ بكسر العين ـ : المختار من المال، اعتامَ: أخذ المال، فالمُعْتام: المختار لبيان حقائق توحيده وتنزيهه. 5. العقائل: الكرائم.
     6. الكرامات: ما أكرم الله به نبيه من معجزات ومنازل في النفوس عاليات.
     7. أشْراط الهدى: علاماته ودلائله.
     8. غِرْبيبُ الشيء ـ كعِفْريت ـ : أشده سواداً، فغربيب العمى: أشد الضلال ظلمةً.


( 398 )


أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالْـمُخلِدَ(1) إِلَيْهَا، وَلاَ تَنْفَسُ(2)بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا.
     وَايْمُ اللهِ، مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ(3) نِعْمَة مِنْ عَيْش فَزَالَ عَنْهُمْ إِلاَّ بِذُنُوب اجْتَرَحُوهَا(4)، لاَِنَّ (اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ)وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْق مِنْ نِيَّاتِهمْ، وَوَلَه مِنْ قُلُوبِهمْ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِد، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِد، وَإنِّي لاََخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَة(5)، وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ، مِلْتمْ فِيهَا مَيْلَةً، كُنْتُمْ فِيهَا عِندِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ، وَمَا عَلَيَّ إلاَّ الْجُهْدُ، وَلَوْ أَشاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ: عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ!

____________
     1. المُخْلِد: الراكن المائل.
     2. نَفِسَ ـ كفرح ـ : ضنّ، أي لا تضن الدنيا بمن يباري غيره في اقتنائها وعدّها من نفائسه، ولا تحرص عليه بل تهلكه.
     3. الغض: الناضر.
     4. اجترحَ الذنبَ: اكتسبه وارتكبه.
     5. الفَتْرة: كناية عن جهالة الغرور.


( 399 )


[ 179 ]
ومن كلام له(عليه السلام)


وقد سأله ذِعلبٌ اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أميرالمؤمنين؟
     فقال(عليه السلام): أَفأَعْبُدُ مَا لا أَرَى ؟
     قال: وكيف تراه؟
     قال: لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيمَانِ، قَرِيبٌ مِنَ الاَْشْيَاءِ غَيْرُ مُلاَمِس، بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرُ مُبَايِن، مُتَكَلِّمٌ بِلاَ رَوِيَّة(1)، مُرِيدٌ بِلاَ هِمَّة(2)، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَة(3)، لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ(4)، بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو(5) الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ(6) مِنْ مَخَافَتِهِ.

____________
     1. الرويّة: التفكّر.
     2. الهمّة: الاهتمام بالامر بحيث لو لم يفعل لجرّ نقصاً وأوجب هماً.
     3. الجارحة: العضو البدني.
     4. الجفاء: الغِلَظ والخشونة.
     5. تعنو: تذل.
     6. وَجَبَ القلب يجب وَجِيباً وَوَجَباناً: خفق واضطرب.
    

 

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها