78
لهذا خُلّدت آثار الشيخ الأنصاري*
لنعلم أنّ العلم لا يأتي من فراغ، ولا من كثرة
الدراسة وحدها. نعم، قد تصلح الدراسة لجعلك متفوّقاً على أقرانك في
المباحثة، ولكنها لا تمنحك ـ منفردة ـ ذلك النور الإلهي المنشود،
بل قد تكون في بعض الأحيان وبالاً على الإنسان والعياذ بالله. فقد
رأيت كتاباً مطبوعاً في الأصول واستفدت منه أيّام دراستي، ولكن ما
لفت انتباهي فيه أنّ مؤلّفه إذا جاء بابتكار من نفسه ـ أو تصوّر
أنّه كذلك ـ يشيد به كثيراً ويقول: إنّ هذا من ابتكاراتي التي حصلت
عليها على أثر سهر الليالي، ثم يدعو بالويل والثبور واللعنات وأن
يفعل الله كذا وكذا بكلّ مَن ينقله دون أن يذكر اسمه (أي اسم
المؤلِّف)!
هب أن الإنسان قد ابتكر فكرة أو أفكاراً، فما الداعي لأن يتعامل
معها هكذا، في حين أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره كان يطرح ابتكارات
عظيمة ضمن بقيّة كلماته دون أن يتباهى بها، ودون أن يُشعر القارئ
بأنّها من ثاقب أفكاره، مع أنّها كانت تمثّل عصارة علمه، وقد أتعب
نفسه حتى وصل إليها، حتى أنّ الشيخ لم يضمّن كتاباته بكلمات من
قبيل: اغتنِم ونحوها.
والآن عندما نلاحظ الواقع نرى أنّ كتب الشيخ الأنصاري تملأ الحوزات
والمكتبات وما تزال تُطبع كلّ عام في مختلف الأماكن بينما ذلك
الكتاب الذي ذكرتُ لم يسمع به كثير من أهل العلم مع أنّه حقيق
بالدراسة أيضاً.
إنّ النور الذي أضاء جوانح الشيخ الأنصاري قد يكون من الأسباب التي
جعلت كلماته تدور على ألسن العلماء، وكتبه تدرّس في كلّ مدرسة،
وذكره سائراً بين الناس.
ونور العلم ليس حكراً على الأسر العلمية، بل قد يكون الشخص سليل
عائلة علمية ولكن الله لا يمنحه هذا النور، وقد يقذف الله نور
العلم في قلب ابن عطّار أو مزارع أو بقّال أو تاجر أو حمّال! وهذا
يتّضح لمن طالع تاريخ العلماء.
|