(74)
الأخلاق الفاضلة من دلالات النور*
هناك أمثلة كثيرة لمَن درسوا ومَن بلغوا مراحل
عالية في الاجتهاد، ومن جملتهم أحد مراجع التقليد ممّن أدركتُهم في
النجف الأشرف، والذي كان قد ألّف ونشر في أيام مرجعيّته كتاباً لا
غبار عليه من الناحية العلمية.
طالع الكتاب شخص كان طالباً آنذاك فرأى نقاط ضعف في الكتاب حسب
نظره وربما تصوّر أنّه يمكنه إثارتها كنقاط ضعف في علمية ذلك
المرجع، فانتهز فرصة جلوس المرجع في بيته لاستقبال الوافدين، إذ
حضر هو أيضاً، ثم انبرى بعد أن استقرّ به المجلس مخاطباً المرجع
بلهجة تهكّم، قائلاً: أتدري أيّ جناية ارتكبتَ بنشرك هذا الكتاب؟
لقد شوّهت سمعة مدينة النجف الأشرف ومكانتها العلميّة التي
اكتسبْتها من كتب الشيخ الأنصاري وأمثاله!
يريد بذلك: أنّ الذي حصّل في حوزة النجف ينبغي أن تكون مؤلفاته
بمستوى مؤلّفات الشيخ الأنصاري، أمّا هذا الكتاب فسوف يحطّ من
مستوى النجف لعدم مجاراة كتب الشيخ الأنصاري!
وأضاف: لقد تلاعبتَ ـ بكتابك هذا ـ بكرامة النجف العلمية وحوزتها
الدينية.
أتدرون ماذا كان ردّ فعل ذلك المرجع؟
أجابه قائلاً: وأين أنا من الشيخ الأنصاري، بل إنّي لأفخر أن أفهم
كلمات الشيخ الأنصاري رحمه الله، وأستطيع أن أشرحها. لقد كان الشيخ
الأنصاري أستاذ الفقهاء، أمّا أنا فأتمنّى لو كنت تلميذاً للشيخ
الأنصاري، وفي مثل هذه الحالة ـ خاصّة وأنّي إنسان ولكلّ إنسان
زلاّت ـ ربما صدرت منّي هفوات ونقاط ضعف لم أنتبه لها. أرجو منكم
أن تنبّهوني عليها وإنّي أكون شاكراً لكم.
تأمّلوا فيما حدث: لقد ذهب هذا الرجل إلى المرجع لكي يخزيه ويقلّل
من شأنه ولكنه خرج وهو يغبطه.
ومن يسمع بالقصّة يقول: إنّ تصرف هذا المرجع يعكس نورانية لا توجد
عند بعض من بلغوا مراحل عالية من العلم دون أن يحصلوا على نوره،
فإنّه كان بإمكان هذا المرجع أن يردّ ذلك الطالب ردّاً علمياً
يؤهّله مستواه وردّاً اجتماعياً بسبب المنزلة التي يحظى بها بين
الناس، كأن يقول له: ومَن أنت لكي تزكّيني؟ أو هل فهمت كتابي لكي
تنتقده هذا الانتقاد؟ ولكنّه مع ذلك لم يقل له شيئاً من هذا
القبيل، لأنّ ذلك النور الذي غمره جعله يترفّع عن مثل هذه الميول.
ليس المقصود أن لا يبذل الطالب جهداً في الدرس بل المقصود أن يؤطّر
دراسته بمجمل الفضائل التي ترقى به لأن يحصل على نور العلم.
|