(47)
رحمة الإمام بمجرمي حرب الجمل*
لم يبادر الإمام أمير المؤمنين صلوات الله
عليه بأية حرب ابتداء، فكُلّ حروبه فُرضت عليه، وأوّلها حرب الجمل،
والتي ما إن وضعت أوزارها وهُزم جندها حتى هرب الذين أشعلوا فتيلها
واختبأوا في حجرات إحدى الدور في موضع من البصرة، فتوجّه أمير
المؤمنين سلام الله عليه في كوكبة من جنوده إلى ذلك المحلّ حتى
انتهى إلى الحجرة التي كانت فيها عائشة فعاتبها أولاً قائلاً لها:
أبهذا أمرك الله أو عهد به إليك رسول الله صلى الله عليه وآله؟(1)
ثم أمرها بالتهيّؤ لإرجاعها إلى المدينة المنورة(2).
يروى أنه عليه السلام قبل أن ينتهي إلى الحجرة التي كانت فيها
عائشة تظاهرت نسوة المحاربين الذين خسروا المعركة وهتفن بشعارات في
وجه الإمام من قبيل: «هذا قاتل الأحبّة» . ولكن الإمام لم يبالِ
بهنَ ولم يُظهر أيّ رد فعل إزاءهن! فعدن إلى التظاهر والهتاف ضد
الإمام سلام الله عليه بالشعار نفسه، وكان الإمام يهمّ بمغادرة
المكان ولكنه توقف هنيئة ثم عاد وقال جملة واحدة فقط سكتن كلّهن
على أثرها.. لقد قال لهن: لو قتلت الأحبّة لقتلت من في تلك الدار -
وأومأ بيده إلى ثلاث حجر في الدار! (3)
فبالرغم من أن عائشة قد ألّبت على الإمام حتى فرضت عليه الحرب
وبالرغم من أنها ومن خرج معها خسروا الحرب وانهزموا وتلبدوا، إلا
أن الإمام اكتفى بعتابها ثم أمر بعد ذلك بإرجاعها مجلَّلة إلى
المدينة وأمر أن لا يتعقَّب قادة الجيش المعادي ولا يلقى القبض
عليهم ليعدمهم أو يسجنهم أو ينفيهم أو يحاكمهم!
إننا لم نعهد تعاملاً من هذا القبيل في تاريخ البشر، بل لم نعهده
حتى في هذا اليوم وفي الدول التي ترفع شعارات الحرية وحقوق
الإنسان، فإنهم ما إن ينتصروا في معاركهم الباطلة ويقبضوا على رؤوس
الجهة المعادية حتى يسجنوهم أو يحيلوهم إلى محاكم خاصّة بصفتهم
مجرمي حرب أو خونة ومتآمرين وقد يعدمونهم.
نعم، هذه هي الحرية التي نقول عنها لو أن الغدير قد حكم الأمّة
طيلة الثلاثين سنة من عمر الإمام عليّ بعد الرسول صلى الله عليه
وآله، لنعمنا بظلّها إلى الآن، ولما شهدنا كلَّ هذه الويلات والمحن
منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا وإلى أن يظهر منقذ البشرية الإمام
المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
|