إخلاص رجل
نقل في أحوال أحد العلماء الماضين أنه كان إذا دُعي للصلاة
على الميت، يحضر الجنازة فيصلي عليها، ولا يتأخر بعد ذلك،
فقد كان مرجعاً يرجع إليه الناس في أمور دينهم. واتفق في
يوم من الأيام أن مات أحد القصابين، فأُخبر (العالِم) فحضر
للصلاة عليه، ولكنه ـ وعلى خلاف عادته ـ تأخر هذه المرة
حتى دفنوا الميت، ثم جلس على قبره، وقرأ له الأدعية وسور
من القرآن الكريم. فأثار هذا الأمر استغراب البعض، وعندما
أراد الانصراف سُئل عن وجه اهتمامه بهذا الميت، فقال: (إن
هذا القصاب ساعدني في أيام عسيرة، فكان يقرضني ـ وهو لا
يعرفني ـ في وقت كنت محتاجاً، دون أن يرجو قدرتي على إرجاع
المال إليه. فيوم قدمتُ إلى هذا البلد كنت فقيراً، ولم يكن
أحد يعرفني بمن فيهم هذا القصاب الذي لم يكن يعرفني ولا
أعرفه، غير أني كنت أشتري منه اللحم، وفي إحدى المرات لم
يكن عندي مال لأدفع الثمن، وكنت معيلاً، فقال لي: لا بأس
أنا مستعد لأن أبيعك اللحم ديناً، وتكررت الحالة في يوم
آخر وبعده، وهو يقرضني برحابة صدر دون أن يعرفني أو
يعلم أني قادر على تسديد الديون، ولا أوصاه أحد بي. فقد
سألته يوماً: "هل أوصاك أحد بي"؟ فقال: "لا". قلت:
"تعرفني"؟ قال: "لا". قلت: "لماذا إذاً تقرضني"؟ قال:
"رأيتك مؤمناً بادي الصلاح ومعيلاً، فأقرضتك في سبيل الله،
فإنْ حصلتَ على المال رددته إلي، وإنْ لم تحصل فلا بأس
عليك ولا أخسر في صفقتي مع الله").
شعر.. وقنديل
روي أن رجلاً من الأعراب زار قبر الإمام أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب (ع)، ونظم عنده بيتاً واحداً من الشعر مختل
الوزن وعارياً من البداعة، فسقط قنديل من الذهب معلق في
الحرم أمامه على الأرض. فقيل للأعرابي: "إن هذا القنديل
إكرام وهدية لك من الإمام". وذلك لأن الأمر كان خلاف
العادة، فالقناديل محكمة الربط بسلاسل حديدية. فسمع أحد
شعراء النجف في تلك الأيام بالقصة، فنظم قصيدة عصماء، وقرر
أن يلقيها عند ضريح الإمام، ليحصل على قنديل من ذهب ـ إن
لم يكن أكثر ـ وسمعة طيبة ما دام الإمام أعطى ذلك الأعرابي
قنديلاً رغم ركاكة ما قاله من بيت شعر. واجتمع مع أصدقائه
في اليوم المقرر الذي أخبرهم به في حرم الامام (ع)، وشرع
بقراءة البيت الأول ولم يسقط قنديل، واستمر فقرأ البيت
الثاني ثم الثالث حتى وصل الى العشرين، وأكمل القصيدة،
ولكن دون جدوى. حينها تألم الشاعر، وتقدم نحو الضريح
المقدس، وخاطب الإمام قائلاً: "أنشدك ذاك الأعرابي بيتاً
واحداً من الشعر لا يُعرف أوله من آخره، فأعطيته جائزة،
وأنا أتيتك بقصيدة عصماء ولم تكافئني عليها!" فرأى الإمام
(ع) في عالَم الرؤيا يقول له: "لماذا عتبتَ عليَّ هذا
اليوم؟" فقال: "إذا كانت القضية قضية شعر، فشعري أجمل
وأبلغ، فلماذا أعطيته وحرمتني؟!" قال له الإمام: "إن ذلك
الأعرابي قال الشعر لي، وأنت قلته للقنديل!".