الشورى

 

قال تعالى:(وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى‏ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

ظاهر الشورى هنا انه واجب حيث ذكر في صفات المؤمنين وكان بين الواجبات فدل على الوجوب سياقاً وتصافاً، ومن المعلوم أن من ذكر من صفات المؤمنين فكان ظاهراً في وجوبها، كما أنه ذكر في عداد اجتناب الكبائر وإقامة الصلاة، وما أشبه من الواجبات، وهو دليل على الوجوب، إذ السياق يفيد ذلك.

ولا يستشكل: بان التوكل وغفران الذنب ليسا بواجبين، لأنه:

أولاً: إذا كان دليل على عدم وجوب شيء بسبب قرينة خارجية لم يكن ذلك صارفاً عن ما ظاهره الوجوب، ولذا قالوا: إن الأمر في غسل الجمعة والجنابة لا يفيد استحباب الجنابة لسياقها مع الجمعة المستحبة.

ثانياً: التوكل قسمان واجب ومستحب، ايكام الأمر إلى الله سبحانه فيما ليس من صنع الإنسان من لوازم الإيمان وقد ورد في الآيات والروايات الأمر بذلك، وألمعنا إليه في الفقه في قسم الواجبات والمحرمات.

أما الغفران في قبال الاسترسال في المعاصي من جهة الغضب ـ كما هي عادة كثير من الناس، حيث أنهم إذا غضبوا فعلوا المحرم بالنسبة إلى المغضوب عليه ـ فواجب نعم لا يجب بالنسبة إلى القدر المحتاج منه مما أشار إليه سبحانه بقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وقوله تعالى: (والحرمات قصاص) إلى غير ذلك، ولذا قال سبحانه بعد الآيات المذكورة: (وجزاء سيئةُ سيئةٍ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إلى آخرها.

ومما تقدم ظهر وجه الجواب في إشكال: انه إذا كان مطلق الشورى في كافة الأمور واجبة كان ذلك خلاف الضرورة، وان كان في بعضها كان ذلك مجملاً، فلا دلالة، عليه فلا بد من حمل الآية على الاستحباب.

إذ يقال في رده: إن ظاهر الآية وجوب الشورى إلا ما خرج، والمحكم مما لم يخرج قطعاً، فالآية سواء استعملت في الجامع بين الواجب والمستحب مثل آيات الإنفاق، أو في الوجوب واحتاج الخارج إلى الدليل، كانت الاستشارة في الحكم واجبة.
هذا ويؤيد الوجوب قوله سبحانه: (وشاورهم في الأمر بضميمة انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة، فاللازم إتباع الحاكم الإسلامي له.

وهنا إشكالات:

الأول: إن هذه الآية  لا تدل على الشورى في تعيين الحاكم، بل شورى على نفس الحاكم، فمن أين وجوب الشورى في الأول؟

الثاني: لا دليل على وجوب الشورى على الرسول (صلى الله عليه وآله) فإذا لم يكن واجباً على غيره.

الثالث: لعله إذا ثبت الوجوب عليه كان ذلك من اختصاصاته.
الرابع: انه كان واجباً عليه ولم يكن من اختصاصاته، لكن من أين انه كان عليه الأخذ بمقتضاه بل كان لأجل استجلاب خواطرهم؟ ويؤيده انه عقله فوق الكل والمتصل بالوحي فلم يكن يحتاج إلى آرائهم.

الخامس: إن الأمر مجمل، فلا دلالة فيه على الإطلاق الذي هو مصب الكلام.

والجواب:

عن الأول: إن الآية تدل بالملاك الاولوي على الشورى في تعيين الحاكم، بعد إن لم يكن المنصوب عن الله حاضراً. كما في الحال الحاضر، حيث غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف فهل يمكن وجوب الشورى في الأمور العامة، وعدم وجوبه في تعيين القادة التي هي الأصل، والأولوية بعد وضوحها عرفاً، وهم الملقى إليهم الكلام، قال سبحانه: (بلسان عربي مبين) إلى غير ذلك، واضحة من جهة إن القيادة تكون بتعيين الله سبحانه، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) وقال سبحانه: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض) وفي زيارة الإمام الحجة عليه الصلاة والسلام السلام عليك يا خليفة الله وخليفة آبائك المهديين إلى غير ذلك.
وعن الثاني: إن ظاهر الأمر والوجوب، فمن أين انه لم يكن واجباً عليه فيما لم يرد فيه نص من الله؟

ربما قيل: بدليل السياق، حيث قال سبحانه (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) بضميمة إن العفو والاستغفار لهم غير واجبين.

وفيه:
أولاً: كيف يدعى عدم وجوبهما عليه صلى الله عليه وآله بل على كل قائد مع إن القيادة لا تنجح إلا بهذين: العفو والاستغفار، وآلا فالناس لا يلتفون حول العنفاء كما هو واضح، كما إن الاستغفار للتطهير حتى يكونوا موضع لطف الله سبحانه، فانه بدون لطفه لا ينزل النصر عليهم، بل صدر الآية (فبما رحمة من الله) دال على الوجوب، لو سلم عدم وجوبها فان الأمر ظاهر فيه كما تقدم في: اغتسل للجمعة والجنابة، وظاهره مقدم على ظاهر السياق.

وعن الثالث: إن ظاهر الأحكام إنها عامة ألا ما خرج بدليل، وليس المقام من المستثنى، وذلك بضميمة دليل الأسوة: دال على الوجوب على الحكام كما يدل على تعيين الحكام بالشورى بالملاك المتقدم.

وعن الرابع: انه خلاف الظاهر، ولا منافاة بين كونه عقلاً كاملاً واتصاله بالوحي، ومع ذلك كان عليه الشورى لتعليم الأمة الاستشارية.

ثم لو استشار فإن لم يأخذ بآرائهم كان ذلك تنفيراً لهم، بل أكثر من عدم الاستشارة، فإن من لا يستشير ويأخذ برأي نفسه منفور في المجتمع، فكيف بمن يستشير ثم يضرب رأي المستشارية عرض الحائط، والآية صريحة في الامر لأجل الجمع والإلتفاف قال سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك) ثم اذا استشارهم واختلفوا ـ كما هي طبيعة الآراء ـ فاما ان يكون هناك اقلية واكثرية، وهو الأكثر، او تساو، وهو الأقل.

ففي الأول: إن أخذ برأي الأقلية كان جرحاً لرأي الاكثرية، وذلك مما لا يليق عقلاً ولا شرعاً، اما عقلاً فواضح، واما شرعاً فلما نجده في مسألة أكثرية شاهد طرف من شاهد طرف آخر، كما في كتاب القضاء، فلو كان في مثل النزاع في دار، أو مأة درهم أو ما اشبه، يؤخذ بالاكثرية شهوداً فهل لا يدل ذلك على تقديم الاكثرية في الامور المهمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية ونحوها.

ومن الواضح ان الأقلية غير المأخوذ برأيهم لا ينزعجون بعد أن رأوه تقديم رأيهم اذا صاروا اكثرية في قصة اخرى، كما هي شأن مجالس الشورى، واتحاد الطلبة، ومجالس الوزراء وغير ذلك في العالم الحاضر، اما اذا تساوى الرأيان فالسبيل القرعة، وقد قال سبحانه: (فساهم فكان من المدحضين) في قصة يونس عليه السلام.

وقال تعالى:(اذ يلقون اقلامهم ايهم يكفل مريم) في قصة زكريا.
وقال صلى الله عليه وآله (القرعة لكل امر مشكل)

بل له صلى الله عليه وآله ان يأخذ بأحد الرأيين، لأنه بالاضافة إلى احدهما يكون الاكثرية، بل الظاهر ان معنى الشورى هو الأمران فيما كان اكثرية وفيها كان تساو.

لا يقال: قوله سبحانه: (فاذا عزمت فتوكل على الله) دليل على ان الأمر كان لا لأسترضائهم، والا فهو العازم الوحيد.

لأنه يقال: (فإذا عزمت) بعد (شاور) ظاهر أن العزم منبعث عن نتائج المشورة، لا انه في قبالها، الا ترى انك اذا قلت: شاور الطبيب فإذا عزمت فتوكل، كان معناه العزيمة المنبعثة عن مشورته.

ومن الواضح ان التوكل لإيكال أمر ما ليس بيد الانسان إليه سبحانه، كما ذكرنا تفصيله في بعض الكتب المرتبطة بهذا الشأن.

وعن الخامس: ان الأمر محلى باللأم ومثله يفيد العموم كما ذكرناه في الأصول ولذا كان (أحل الله البيع)ونحوه دالاً على ذلك، حيث ان الطبيعة سارية في كل الافراد نعم بقرينة العرف اللقى اليه الكلام ذلك في الشؤون المرتبطة بالقياده.

فلا يقال انه ان كان عاماً فهو مقطوع العدل وان كان خاصاً كان مجملاً، فإذا قيل لمن يريد بناء الابنية: استشر المهندس، سبق إلى الذهن الاستشارة في شؤون الهندسة، وهكذا بالنسبة إلى اشباه ذلك.
بل انا ذكرنا في الأصول ان المفرد أذا لم تكن قرينة على ارادة الفردية منه يفيد العموم، فمثل (تمرة خير من جرادة) و (آتنا في الدنيا حسنة) و(ان مع العسر يسرا) وفي (وشر الآخرة) ونحوها ظاهر في الطبيعة السارية مما يفيد العمود البدلي في مورده، والاستقرائي في مورده.

4ـ5 وبهذا تبين ان الشورى في ماذا، ولماذا؟ فإنها في أي أمر مرتبط بقطاع من الأمة صغير أو كبير، فالاستبداد في الأمة بالحكم محرم حراماً بحجم الأمة، والاستبداد في اتحاد الطلبة مثلاُ، حرام بحجم اتحاد الطلبة، اذ معنى الاستبداد هو الأستئثار بحق الأخرين حقاً مالياً أو حقاً جسدياً، (فإن الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم) هذا حتى اذا فرض ان الحاكم لم يفعل في ادابه أدار المستشفيات احسن ادارة من حيث الرعاية والعناية والموازين الشرعية، فهي كما اذا جاء الغاصب إلى دار الناس، وادار العائلة احسن الادارة أليس ذلك حراماً؟ اما اذا فعل الحرام، كما اذا اخذ المكوس والعشر، أو جعل الضرائب الخارجة عن الخمس واخواته الثلاثة، أو منع  الناس عن حرية الزراعة والتجارة والصناعة وما اشبه، فهو حرام في حرام كشرب الخمر في اناء الذهب، وعلى أي فمن يستولي على اتحاد الطلبة بدون شرائط الله وشرائط الأمة، وعددهم مثلاً الف، يفعل الف حرام، بينما من يستولي على بلد ذي مأة مليون يفعل مأة مليون من الحرام.

اما لماذا؟ فقد عرفت بانه من جهة العقل والشرع، وربما يستدل له بالادلة الاربعة، والاجماع وان لم يصرح بهذه الصغرى الا انها مشمولة ـ لما دل من الاجماع على حرمة التصرف في مال المسلم والكافر المحترم وشخصهما بدون رضاه.

6ـ في الواجبات والمحرمات لا مشورة وكذلك في امر النبوة والامامة حيث انهما بالنص من الله تعالى وكذلك لا مشورة في سائر الاحكام الخمس ـ والتي منها الامور الوضعية ـ اما في سائر الشؤون الشخصية منها فتستحب فيها المشورة والامور الاجتماعية فتجب المشورة (للحاكم) مجيئاً إلى الحكم وتنفيذاً لأمر دون امر.
اما وجوب المشورة في مجيء الحاكم إلى الحكم، فلأنه نوع تسلط على الناس، والناس لا يصح التسلط عليهم الا برضاهم، اما الصغرى فواضح، واما الكبرى فلقاعدة الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم. هذا بالاضافة إلى وجوب كون الحاكم واجداً للشرائط المقررة في الشريعة.

وأما وجوب الشمورة في امور الناس بعد مجيئه إلى الحكم، لأن للحاكم بقدر تخويل الناس له الصلاحية، ففي غيره يحتاج إلى اذنهم.

والحاصل: انه ما كان من شأن الناس يحتاج إليه ابتداءاً واستدامة.

ان قلت: اليس مرجع التقليد منصوباً من قبلهم عليه الصلاة والسلام فهو كالواجب؟

قلت:

أولا ـ اختيار هذا المرجع دون ذلك بيد الناس كاختيار امام الجماعة والقاضي وما اشبه.

وثانياً: اذا كان هناك مراجع اختارهم الناس ـ مما يصدق اختارهم الناس، لا ان يكون فقيه يقلده مأة شخص مثلاً، حيث لا يصدق بالحمل الشائع انه اختاره الناس، لا حق لأحدهم في تنفيذ رأية على سائر المراجع، ولا على مقلديه، بل لا حق لتنفيذ رأيه على مقلديه بالقسر، سواء القسر الظاهر أو المغلف، اذا نتخاب المقلدين له في هيئة للحكومة ليس معناه تخويلهم له الصلاحية المطلقة لتصرفه في اموالهم ودمائهم وانفسهم بل بقدر ما يرى المقلدون، فاذا رأى هو الحرب والمقلدون السلم، لا حق له ـ في ادخال الناس في الحرب، وقوله عليه السلام: (فاذا حكم بحكمنا) لا دلالة فيه على نفوذ رأيه اذا لم ير المقلدون انه ليس بحكمهم (عليهم الصلاة والسلام) والمراد بالمقلدين له، أو بالمراجع، الاكثرية، لأن دليل الشورى حاكم على دليل التقليد، والالم يبق لدليل الشورى مجال، كما ذكروا في العناوين الثانوية الحاكمة على العناوين الاولية.

7ـ اما انه هل يلزم على المستشار الادلاء برأية؟ فالظاهر انه لازم على نحو الكفاية من باب ارشاد الجاهل وتنبيه الغافل بل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ في جملة من مواردها ـ على التفصيل الذي ذكر في الفقه في تلك الابواب، واما الزائدعلى ذلك فلا يلزم، وان كان يستحب لا طلاق بعض الادلة ولعل ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وآله (اشيروا علي)

وقول علي (عليه السلام) بان (لهم شوره علي) يعطيان كلا الامرين من الواجب والمستحب كل في مورده حسب مقتضيات الحكم والموضوع، فان الموضوع قد يكون قرينة الحكم، وقد يكون العكس، فاذا قال ـ وهم في حالة الحرب ـ جئني بأسد ، دل الحكم على ارادة الشجاع من الموضوع لا الحيوان المفترس ولو كان في حديقة حيواناته كانت القرينة على ارادة المفترس بينما اذا كان بحاجة إلى رجل شجاع لحراسته ومفترس لحديقة حيواناته، لم تكن لأيهما القرينة، وفي عكس الامر لو قال: من اكرم عالماً فقد اكرمني، حيث ان العالم قرينة على اكرام خاص لا كل اكرام لا يليق بالفقهاء، وان لاق بالتجار والشجعان ومن اشبههم.

8ـ واللازم الاخذ بالمشورة بقدر تحقق اجازة التصرف في المال والنفس لا اكثر ولا اقل.

أما الأول ـ فلعدم الدليل عليه.

وأما الثاني ـ فلأن دونه خلاف تسلط الناس على اموالهم وانفسهم، فاذا اقتضت المشورة تبليط مأة ألف كيلو متر من الطرق لم يجز أقل لأنه تصرف في اموال الامة حيث لا يريدون، ولو كان بالسلب كمن اعطاه الولي ديناراً ليشتري بضاعة فاشترى بنصف المبلغ، كما انه لا يلزم ان يتعب نفسه في تبليط اكثر من القدر المقرر وان كانت الامة راضية بذلك.

9ـ اما قدر المشورة فذلك موكول، إلى العرف، وليس من قبيل الامر بالطبيعة المحقق ولو بأقل قليل منها، فهو مثل ما اذا قال المولى جئني بالماء حيث لا يكفي الاتيان بقدر قطرة، بينما القرينة قائمة على مقدار سقي بعد الطعام، ومن ذلك وضح وجه عدم لزوم الاتيان بكل الطبيعة وان كانت ميسورة فاذا قال: جئني بالصاغة لا يلزم الاتيان بجميعهم بدعوى ان الطبيعة سارية في الجميع.

والحاصل: ان القرائن الحالية والمقالية هي التي تحدد قدر الطبيعة زيادة ونقصاً وقلة وكثرة، وما في بعض الروايات الآتية من استشارة عشرة أو عشر مرات في مستشار واحد، انما اريد ظهور الرأي الحصيف بذلك، فان الغالب ان عشرة اشخاص مربوطين بالامر من اهل الخبرة تكفي آرائهم لظهور النتيجة الاكثر قرباً إلى الحقيقة، كما انه لو استشير من شخص واحد عشر مرات كان في ذلك متقلب الآراء ظهراً وبطناً وقرباً وبعداً بما لا يحتمل الظفر بأكثر مما ظفر به من مقترب الصواب، وعشر مرات من قبيل الكر والفر في المباحث العلميه المظهرة للرأي السديد، مثلاُ لو سأل عن ضمان الضامن للقيمة التي ارتفعت لا من جهة السوق بل من جهة ان المثل موجود عند من لا يبيعه الا باضعاف قيمته، فهل يلزم؟ او لا يلزم الابقدر القيمة الواقعية؟ أو يفصل بين القيمة المجحفة فلا يلزم، وغيره فنعم، أو يفصل بين ما كان المتلف عالماً عامداً فنعم، والا فلا؟ أو يفصل بين قدر القيمة حتى الزائدة دون الاجحاف، لا بقدر فاذا كانت القيمة ديناراً، وخمسة دنانير اجحاف، وثلاثة بينهما وجبت الثلاثة ـ كما لكل قول في الفقه ـ فأن هذه الآراء الخمسة اذا ذكرت لمن يريد الاستنباط اختار احصفها، فكيف بما اذا كانت الادلة عشرة من عشرة افراد أو خمسة لكل رأيان، أو واحد يقيم الوجه لكل رأي من العشرة، إلى غير ذلك.
ثم ان الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى بالديمقراطية ـ أو في الحكومة الاسلامية، هي صمام الامان، وذلك لأن الناس كما يحاجون إلى ملء بطونهم يحتاجون إلى ملء اذهانهم، فكما ان الجائع يخرج على من اجاعه بالاضراب والمظاهرة ولذا ورد (عجبت للفقراء كيف لا يخرجون بالسيف على الاغنياء) كذلك من لا يستشار يخرج على من اجاع فكره، مهما فرض نزاهة الحاكم، وكونه مطبقاً لقوانين البلاد، سواء كانت تلك القوانين اسلامية كما في بلد الاسلام أو غير اسلامية، كما في البلاد الديمقراطية.

ولا يكفي للحاكم الاسلامي ان يطبق مبادىء الاسلام وقوانينه بدون قانون الشورى، لأن الناس يرون انه لم يطبق قانون الاسلام الذي هو الشورى فينفضون من حوله ثم يثورون عليه حتى اسقاطه، هذا اذا فرض انه حسن الاستنباط وحسن التطبيق، وذلك قليل أو عديم، بل الظاهر انه من غير الممكن حسن الاستنباط وحسن التطبيق من غير الاستشارية في اصل مجيء الحاكم وفي مدة امتداده بعد المجيء، اذ الاستنباط المحتاج إلى العمل المداوم لا يكون حسناً، فكيف بالتطبيق الخالي عن الاستشارة الدائمة، وفي الحديث (ان العلم ليدعو بالعمل فإن اجابه والا ارتحل).

ولذا الذي ذكرناه من ان حسن الاستنباط والتطبيق لا يكون الا بالاستشاريه، نجد ان الحكومات في العصر الحاضر، التي قامت باسم الاسلام، لم يمض الا زمان يسير، حتى انفض الناس من حولهم، ثم عملوا لتقويضهم، بعضهم سقط، وبعضهم قرب، ان أول سؤال الناس عنهم، اين هي الشورى؟ وحيث انهم يريدون الاستبداد تارة يقولون:

ان الشورى ليست واجبة.

واخرى انها من شأن الرسول صلى الله عليه وآله فقط.

وثالثة: انا نستشير.
الا ترون مجلس الامة، أو مجلس قيادة الثورة.

 أو مجلس الوزاء.

أو ما اشبه ذلك؟
ثم يلفون حول انفسهم بأموال الامة المصفقين والمهرجين والمرتزقة، ليسبحوا بحمدهم في الاعلام، ويفتحون باب السجودن وينصبون المشانق، وويل لمن فتح فمه بكلمة ولذا تراهم أكثر امعاناً في سلب الاموال، وقتل الابرياء، وتكثير السجودن والسجناء، وخراب البلاد، واذلال العباد ممن سبقهم الذين ماكانوا يسمون انفسهم بالاسلاميين.
 فان الخلافة الاموية سقطت من غير رجعة، ثم كذلك الخلافة العباسية، ثم هكذا الخلافة العثمانية، كل ذلك لهذا الشأن ومن جاء بعدهم سقط أو هو في حال السقوط. فاللاستشارية ليس معناها عدم تطبيق حكم الشورى في الحكم، فقط بل معناها عدم تطبيق مئات احكام الاسلام، والمسلمين يعون السياسة الاسلامية كما يعون الصلاة والصوم والحج، فكما انهم لا يخدعون بمن يترك العبادة بالف عذر وعذر كذلك لا يخدعون بمن يترك السياسة الاسلامية بالف عذر وعذر، واذا انفصل المسلمون عن الحاكم انكمش واخذ يترنح للسقوط الى حين سقوطه.

وحيث ان الحاكم الذي يسمي نفسه بالاسلامي يرى تهاجم المسلمين عليه، يأخذ هو بمهاجمتهم واتهامهم بمختلف انحاء الاتهام ابتداءاً من انهم ضد الحكم وعملاء الاستعمار، وانتهاءاً بانهم رجعيون خرافيون، وانهم كسالى وعاطلون إلى غير ذلك، فان مثل هذه المهاجمات يعجل في سقوطه، ان مثله مثل لص دخل الدار وسرق اثاثها، ثم لما رآى هجوم صاحب الدار عليه، اخذ يتهم صاحب الدار بانه لص وكذا وكذا، فهل يكون ذلك الا سبباً لتعجيل القبض عليه واخراجه من الدار ومعاقبته، ومن شك في ذلك فلينظر إلى جعفر النميري السوداني، وغيره ممن ادعوا الاسلامية زوراً، كما ان الامر كذلك في سائر مدعي المبادىء الذين خالفوها، كناصر بادعائه القومية، وقاسم بادعائه والوحدة الوطنية الصادقة، إلى غيرهما من الأمثلة الكثيرة في العالم المتخلف الذي يسمى بالعالم الثالث، وليس سر تخلفه إلا حكامه الذين حالوا بين الناس وبين حرياتهم.
 ان الغرب لما ابتلى بحكام مستبدين سواء باسم الدين، كما كان حكام الكنيسة، أو باسم الدنيا، كما كان في الملوك والدوقات، كان يتقهقر من سيء على اسوأ، حتى ألف عقلائه عشرين الف نوع من الكتب التوعية ـ كما رأيت في مطبوع ـ ووزعوها بالملايين ونبهوا الناس إلى ان المشكلة من الحكام المستبدين وان الخلاص بتوزيع القدرة، فلما عمل الغرب بذلك ارتفع عن تلك المهاوي السحيقة، حتى وصل إلى ان ساد العالم ـ حتى العالم الاسلامي ـ.

وانا لا نقول: ان الغرب وصل إلى الواقع، لانا لا نرى الواقع الا في الاسلام بل نقول، ان الغرب لما اخذ بمبدأ الشورى ـ إلى حد ما ـ وقد قال على عليه السلام الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعلم به غيركم ـ ارتفع عن ذلك الحضيض إلى هذا المرتفع الذي سيطر به على العالم.
ثم انه ليست المشكلة فقط في الحاكم المستبد والمتزلفين حوله الذين ينالون من ماله وجاهه، ولذا يسحقون وجدانهم فيطرونه ويكيلون الثناء والمديح له جزافاً، ويعملون بأوامره حتى في قتل الابرياء وهتك الاعراض ونهب الاموال،

بل المشكلة الأهم في الرحم التي تولد هذا الحاكم، وهي الامة، وهل الحاكم وجماعته المعدودون يتمكنون من السيطرة على الملايين، اذا لم يكونوا مستعدين لا ستثمارم لهم؟ فالامة اذا صارت كالجسم الضعيف تسلط عليه المرض، بينما الاقوياء لهم المناعة في طرده عن أجسامهم.
ولذا فمهمة الوعاة رفع هذا المرض عن الامة، حتى لا تستعد لتقبل المستبد، وحينذلك لا تجد اثراً منه، ولذا قال علي عليه السلام لولا..... ما أخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها).

وفي حديث (لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم).
وفي حديث آخر (اذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه والا فعليه لعنة الله) إلى غير ذلك وقبل الاحاديث قال القرآن الحكيم (لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار).
وكما ان الطبيب الجسماني يحتاج إلى بيان المرض والعلاج، كذلك اطباء الروح بحاجة إلى توعية الناس بمشاكلهم، وانها من أين ابتدأت، وإلى بيان العلاج، وقد تقدم انه في تقسيم القدرة، كما ذكرنا تفصيله في كتب متعددة.
ومن الواضح ان الجسم الذي تعشش فيه المرض مدة طويلة لا يمكن علاجه بمدة قصيرة أو دواء بسيط، وكذلك جسم المسلمين الذي تعشش فيه الاستبداد قروناً لا يعالج الا بنشر الوعي العالم بكل الوسائل الممكنة الاعلامية وغيرها.

لكن هول المشكلة لا يحول دون الشروع في العلاج كل بحسب قدرته العلمية أو المادية، وقد ذكرت التواريخ ان كنفوشيوس مر على قبيلة قاطنة جنب جبل عظيم، فالتف حوله افراد القبيلة طالبين عونه في حل مشكلتهم؟ قالوا: يا معلم الخير نحن قبيلتان انحدرنا من جد واحد لكن اقربائنا يقطنون الطرف الآخر من الجبل، ولا بد لنا من اللقاء كل عام مرة أو أكثر من مرة، وقطع الجبل يستوعب زماناً كثيراً وتضحية في افرادنا، سواء هم جاءوا الينا أو نحن ذهبنا إليهم، وبالسقوط من الجبل في المهاوي أو بافتراس الوحوش لا فراد منا، فما هو الحل؟

قال: انه بسيط ان اهتممتم وهو بقلع الجبل صخرة صخرة من بينكما، فعملوا بما قال وبعد سنوات كانت القبيلتان مترابطتين عبد نفق في الجبل.

10ـ وقد تبين بذلك كيف ذا؟ اذ هو حسب الاستنباط الشرعي في الكبريات والتطبيق العرفي في الصغريات فان حدود المفاهيم الشرعية بيد العرف الملقى اليهم الكلام كما ان تشخيص الموضوعات بايديهم، فاذا قال الشارع: (الناس مسلطون على اموالهم) مثلاً روجع إلى العرف في مفهوم السلطة، ومصداقها، ولدى الشك بالشبهة الصدقية أو المصداقية فالمرجع الاصول العملية.

ولذا فمن الضروري على السلطة المنتخبة مرجعياً، او سائر السلطات التنفيذية أو القضائية أو التأطيرية ـ مما يسمى بالتشريعية، لكن حيث ليس في الاسلام تشيع خلاف قوانين الله سبحانه، سميناها بالتأطيرية بصب القانون الالهي في الصيغة الملائمة عصرياً، فان لكل كبرى صغريات يمكن الأخذ بهذه أو هذه ان تجمع حول نفسها جماعة من المثقفين الاسلاميين، وآخرين من المثقفين الزمنيين، لتكون الكبرى بانظار الاولين والصغرى بانظار الآخرين، نعم مما لا شك فيه أن أعلى السلطات التي هي السلطة المرجعية الاستشارية شورى المراجع لا تحتاج إلى المثقفين الكبرويين لغرض انهم هم المستنبطون، كما ان المثقف الزمني، كالاقتصادي، أو التجاري أو الزراعي او ما اشبه، لا يحتاج إلى المثقف الصغروي.
ومما تقدم ظهر حال ما اذا اختلفت جماعة مخصصة لشأن، في الكيف (الصغرى) حيث يلزم ملاحظة الاكثرية، وذلك لمبدأ الشورى المتقدم، فمثلاً اذا قال جماعة من الفئة الاقتصادية: ان اللازم تقوية الاقتصاد الزراعي وقال آخرون بلزوم تقوية الاقتصاد الصناعي، قدم الاكثر منهما وكذلك اذا اختلفوا في تقوية الصناعات الثقيلة أو الخفيفة، ولو فرض التساوي في الآراء فالمرجع السلطات العليا ولو وقع الانشقاق هناك ايضاً فالاكثرية ثم القرعة التي هي لكل امر مشكل.

وربما يكون هناك حل آخر بالتقسيم فيخصص نصف الجهود ونحوها طبق احد الرأيين والنصف الآخر حسب الرأي الآخر.

وعلى أين فليس المهم البحث في هذه المسألة الجزئية، بعد الأخذ بمبدأ الشورى في كل شؤون الامة على ما عرفت.

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها