موقع يازهراء سلام الله عليها                          www.yazahra.org

الزهراء وفدك

لمّا بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك وإنصراف عاملها _ جاء هذا الحديث مسنداً عن جلّ المحدّثين في دلائل الإمامة للطبري _ لاثت خمارها ثمّ أقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ أذيهالها ما تخرم مشية رسول الله حتّى دخلت على أبي بكر وقد حفل حوله المهاجرون والأنصار فنيطت دونها ملاءة فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ثمّ أمهلت حتّى هدأت فورتهم وسكنت روعتهم افتتحت الكلام فقالت:
 أبتدأ بالحمد لمن هو أولى بالحمد والمجد والطول الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم والثناء على ما قدّم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وإحسان منن والاها جمّ عن الإحصاء عددها ونأى عن المجاراة أمدها وتفاوت عن الإدراك أبدها استدعى الشكور بأفضالها واستحمد إلى الخلائق بأجزالها وأمر بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله كلمة جعل الإخلاص تأويلها وضمن القلوب موصولها وأبان في الفكر معقولها الممتنع عن الأبصار رؤيته ومن الألسن صفته ومن الأوهام الإحاطة به ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبله وأنشأها بلا احتذاء مثله وضعها لغير فائدة زادته إظهاراً لقدرته وتعبّداً لبريّته واعزازاً لأهل دعوته ثمّ جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنّته وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله اختاره قبل أن يبعثه وسمّاه قبل أن يستنخبه إذ الخلائق في الغيب مكنونة وبسدّ الأوهام مصونة وبنهاية العدم مقرونة علماً من الله في غامض الأُمور وإحاطة من وراء حادثة الدهور ومعرفة بموقع المقدور ابتعثه الله إتماماً لعلمه وعزيمة على إمضاء حكمه فرأى الأُمم فرقاً في أديانها عكفاً على نيرانها عابدة لأوثانها منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمّد ظلمها وفرّج عن القلوب شبهها وجلا عن الأبصار غممها وعن الأنفس عمهها، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة ورحمة واختيار ورغبة لمحمّد عن تعب هذه الدار موضعاً عنه أعباء الأوزار محفوفاً بالملائكة الأبرار ورضوان الربّ الغفّار ومجاورة الملك الجبّار أمينه على الوحي وصفيّه ورضيّه وخيرته من خلقه ونجيّه فعليه الصلاة والسلام ورحمة الله وبركاته.

نحن وسيلة الله في خلقه

ثمّ التفتت إلى أهل المسجد فقالت للمهاجرين والأنصار:
وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه وحملة دينه ووحيه وأُمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأُمم زعيم الله فيكم وعهد قدمه إليكم وبقيّة استخلفها عليكم كتاب الله بيّنة بصائره وآيه منكشفة سرائره وبرهانه متجلّية ظواهره مديم للبرية استماعه قائد إلى الرضوان أتباعه مؤدّ إلى النجاة أشياعه فيه تبيان حجج الله المنيرة ومواعظه المكرّرة وعزائمه المفسّرة ومحارمه المحذّرة وأحكامه الكافية وبيّناته الجالية وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة ورحمته المرجوّة وشرائعه المكتوبة ففرض الله عليكم الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر والزكاة تزييداً في الرزق، والصيام إثباتاً في الإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والحقّ تسكيناً للقلوب وتمكيناً للدين، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا لمّاً للفرقة والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على الاستجابة، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة والنهي عن المنكر تنزيهاً للدين، والبرّ بالوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالعهود تعرّضاً للمغفرة ووفاء المكيال والميزان تغييراً للبخس، والتطفيف واجتناب قذف المحصنة حجاباً عن اللعنة، والتناهي عن شرب الخمور تنزيهاً عن الرجس، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة وأكل مال اليتيم والاستيثار به إجارة من الظلم، والنهي عن الزنا تحصّناً عن المقت والعدل في الأحكام إيناساً للرعية، وترك الجور في الحكم إثباتاً للوعيد والنهي عن الشرك إخلاصاً له تعالى بالربوبية، فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، ولا تتولّوا مدبرين وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم فإنّما يخشى الله من عباده العلماء. فاحمدوا الله الذي بنوره وعظمته ابتغى من في السموات ومن في الأرض إليه الوسيلة فنحن وسيلته في خلقه ونحن آل رسوله ونحن حجّة غيبه وورثة أنبيائه ...

أنقذكم الله بأبي محمد

ثمّ قالت: أنا فاطمة وأبي محمّد أقولها عوداً على بدء وما أقولها إذ أقول سرفاً ولا شططاً لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم إن تعزوه تجدوه أبي دون نساءكم وأخا ابن عمّي دون رجالكم بلغ النذارة صادعاً بالرسالة ناكباً عن سنن المشركين ضارباً لأثباجهم آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة يجذّ الأصنام وينكث الهام حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر وحتّى تفرّى الليل عن صبحه وأسفر الحقّ عن محضه ونطق زعيم الدين وهدأت فورة الكفر وخرست شقاشق الشيطان وفهتم بكلمة الإخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها نبيّه تعبدون الأصنام وتستقسمون بالأزلام مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطيء الأقدام تشربون الرنق وتقتاتون القدّة أذلّة خاشعين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم فأنقذكم به بعد اللتيا واللتي وبعد ما مني بهم الرجال وذؤبان العرب كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله وكلّما نجم قرن الضلالة أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بحدّه مكدوداً في ذات الله قريباً من رسول الله سيّداً في أولياء الله وأنتم في بلهنية آمنون وادعون فرحون تتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال على الأعقاب حتّى أقام الله بمحمّد عمود الدين ولمّا اختار له الله عزّ وجلّ دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهرت حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين وأخلق ثوبه ونحل عظمه وأودت رمته وظهر نابغ ونبغ خامل ونطق كاظم وهدر فنيق الباطل يخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخاً بكم فألفاكم غضاباً فخطمتم غير إبلكم وأوردتموها غير شربكم بداراً زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وأنّ جهنّم لمحيط بالكافرين هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لمّا يندمل فهيهات منكم وأين بكم وأنّى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم زواجره لائحة وأوامره لامحة ودلائله واضحة وأعلامه بيّنة وقد خالفتموه رغبة عنه فبئس للظالمين بدلاً ثمّ لم تريثوا شعمها إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها تسرون حسواً بارتغاء أو نصبر منكم على مثل حزّ المدى وزعمتم أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
 إيهاً معشر المسلمين أأبتزّ إرث أبي يابن أبي قحافة؟ أبي الله أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فرياً جرأة منكم على قطيعة الرحم ونكث العهد فعلى عمد ما تركتم كتاب الله بين أظهركم ونبذتموه إذ يقول: ]فهب لي من لدنك وليّا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّاً[ وقال عزّ وجلّ: ]يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثيين[ وقال تعالى: ]إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين [ وزعمتم أن لا حظّ لي ولا أرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان؟ ألست أنا وأبي من ملّة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممّن جاء به فدونكموها مرحولة مزمومة تلقاكم يوم حشركم فنعم الحكم الله ونعم الخصيم محمّد والموعد القيامة وعمّا قليل تؤفكون وعند الساعة ما تخسرون ولكلّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثمّ التفتت إلى قبر أبيها وتمثّلت بأبيات صفيّة بنت عبدالمطّلب:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناكم فقد الأرض وابلها

واجتثّ أهلك مذ غيّبت واغتصبوا

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لمّا نأيت وحالت بينا الكثب

تهجّمتنا ليال واستخفّ بنا

دهر فقد أدركوا منّا الذي طلبوا

قد كنت للخلق نوراً يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنّا فكلّ الخير محتجب

عمر يمزق كتاب استرجاع فدك

فقال أبو بكر: صدقت يابنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً وعلى الكافرين عذاباً أليماً وكان والله إذا نسبناه وجدناه أباك دون النساء وأخا ابن عمّك دون الرجال آثره على كلّ حميم وساعده على الأمر العظيم وأنتم عترة نبي الله الطيّبون وخيرته المنتجبون على طريق الجنّة أدلّتنا وأبواب الخير لسالكينا فأمّا ما سألت فلك ما جعله أبوك وأنا مصدّق قولك لا أظلم حقّك وأمّا ما ذكرت من الميراث فإنّ رسول الله قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.
فقالت فاطمة: ياسبحان الله ما كان رسول الله قال مخالفاً ولا عن حكمه صادقاً فلقد كان يلتقط أثره ويقتفي سيره أفتجمعون إلى الظلامة الشنعاء والغلبة الدهياء اعتلالاً بالكذب على رسول الله وإضافة الحيف إليه ولا عجب أن كان ذلك منكم وفي حياته ما بغيتم له الغوائل وترقّبتم به الدوائر هذا كتاب الله حكم عدل وقائل فصل عن بعض أنبيائه إذ قال: ]يرثني ويرث من آل يعقوب[ وفصل في بريته الميراث ممّا فرض من حظّ الذكور والإناث فلِمَ سوّلت لكم أنفسكم أمراً؟ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون قد زعمت أنّ النبوّة لا تورث وإنّما يورث ما دونها فما لي أمنع إرث أبي أأنزل الله في كتابه إلاّ فاطمة بنت محمّد؟ فدلّني عليه أقنع به.
فقال أبو بكر لها: يابنت رسول الله أنت عين الحجّة ومنطق الحكمة لا أدلي بجوابك ولا أدفعك عن صوابك. لكن المسلمون بيني وبينك فهم قلّدوني ما تقلّدت وآتوني ما أخذت وما تركت.
فقالت فاطمة لمن بحضرته: أتجتمعون إلى المقبل بالباطل والفعل الخاسر لبئس ما اعتاض المسلمون وما يسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين، أما والله لتجدنّ محملها ثقيلاً، وعبأها وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء فحينئذ لات حين مناص وبدا لكم من الله ما كنتم تحذرون.
قالوا ولم يكن عمر حاضراً فكتب لها أبو بكر كتاباً إلى عامله بردّ فدك فأخرجته في يدها واستقبلها عمر فأخذه منها ومزّقه. وقال: لقد خرف ابن أبي قحافة وظلم. فقالت له: ما لك لا أمهلك الله تعالى وقتلك ومزّق بطنك.

الزهراء توبخ الأنصار

 وأتت من فورها ذلك الأنصار. فقالت: معشر النقيبة وحصنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقّي والسنّة عن ظلامتي أما كان رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟! فسرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا اهالة أتقولون مات محمّد فخطب جليل استوسغ وهيه واستهتر فتقه، وفقد رائته فأظلمت الأرض لغيبته، واكتأب خيرة الله لمصيبته وأكّدت الآمال، وخشعت الجبال، وأُضيع الحريم، وأُزيلت الحرمة بموت محمّد فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافاً هتافاً. ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله «وما محمّد إلاّ رسول الآية» ابني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة ويشملكم الجبن وفيكم العدّة والعدد ولكم الدار والخيرة وأنتم أنجبته التي امتحن ونحلته التي انتحل وخيرته التي انتخب لنا أهل البيت؟ فنابذتم فينا العرب وناهضتم الأُمم وكافحتم البهم لا نبرح وتبرحون، ونأمركم، فتأتمرون حتّى دارت بنا وبكم رحى الإسلام، ودرّ حلب البلاد وخضعت بغوة الشرك، وهدأت روعة الهرج، وبلغت نار الحرب واستوسق نظام الدين فأنّى صرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام عن قوم نكثوا أيمانهم وهمّوا _ الآية_ ألا أرى والله أن أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة فحجتم الذي استرعيتم ورسعتم ما استرعيتم ألا وإن تكفروا ومن في الأرض جميعاً إنّ الله لغني حميد. ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟ ألا وقد قلت الذي قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ولكنّها فيضة النفس ونفثة الغيظ وبثّة الصدر ومعذرة الحجّة فدونكم فاحتقبوها دبرة الظهر ناقبة الخضا باقية العار موسومة بشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. أنا إبنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فاعملوا إنّا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون، وسيعلم الكفّار لمن عقبى الدار، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ومن يعمل مثقال ذرّة «الآية» وكان الأمر قد قصر.
ثمّ ولّت فتبعها رافع بن رفاعة الزرقي فقال لها: ياسيّدة النساء لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحداً.
فقالت: إليك عنّي فما جعل الله لأحد بعد غدير خمّ من حجّة ولا عذر.
قال: فلم ير باكٍ وباكية كان أكثر من ذلك اليوم ارتجّت المدينة وصاح الناس وارتفعت الأصوات.

ابوبكر يعترف بالغدر

فلمّا بلغ ذلك أبا بكر قال لعمر: تربت يداك ما كان عليك لو تركتني فربما فات الخرق، ورتقت الفتق ألم يكن ذلك بنا أحقّ؟ فقال عمر: قد كان في ذلك تضعيف سلطانك وتوهين كافتك وما أشفقت إلاّ عليك.
قال: ويلك فكيف بإبنة محمّد وقد علم الناس ما تدعو إليه وما نحن من الغدر عليه؟ فقال: هل هي إلاّ غمرة انجلت وساعة انقضت وكأنّ ما قد كان لم يكن.
أقم الصلاة وآت الزكاة وأمر بالمعروف وإنّه عن المنكر ووفّر الفيء وصل القرابة، فإنّ الله يقول: إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين ويقول: يمحو الله ما يشاء، ويقول والذين إذا فعلوا فاحشة، ذنب واحد في حسنات كثيرة قلّدني ما يكون من ذلك. فضرب بيده على كتف عمر وقال: ربّ كربة فرّجتها ياعمر.
ثمّ نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
أيّها الناس ما هذه الرعة ومع كلّ قالة أُمنية أين كانت هذه الأماني في عهد نبيّكم فمن سمع فليقل ومن شهد فليتكلّم كلاّ بل هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة هو الذي يقول كروهاً جذعة ابتغاء الفتنة من بعد ما هرمت كأُمّ طحال أحبّ أهلها البغي ألا لو شئت أن أقول لقلت ولو تكلّمت لبحت وإنّي ساكت ما تركت يستعينون بالصبية ويستنهضون النساء. وقد بلغني معشر الأنصار مقالة سفهائكم فوالله إنّ أحقّ الناس بلزوم عهد رسول الله لأنتم لقد جاءكم الرسول فآويتم ونصرتم وأنتم اليوم أحقّ من لزم عهده ومع ذلك فاغدوا على عطيائكم فإنّي لست كاشفاً قناعاً ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً إلاّ على من استحقّ ذلك والسلام.
قال: فأطلعت أُمّ سلمة رأسها من بابها وقالت: ألمثل فاطمة يقال هذا؟ وهي الحوراء بين الإنس والأُنس للنفس ربّيت في حجور الأنبياء وتداولتها أيدي الملائكة ونمت في مغارس الطاهرات نشأت خير منشأ وربّيت خير مربأ أتزعمون أنّ رسول الله حرّم عليها ميراثه ولم يعلمها وقد قال الله تعالى له: ]وأنذر عشيرتك الأقربين[. فأنذرها. وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان وأُمّ سادة الشبّان وعديلة مريم إبنة عمران وحليلة ليث الأقران تمّت بأبيها رسالات ربّه فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ فيوسدها يمينه ويدثرها شماله رويداً فرسول الله بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون فواهاً لكم وسوف تعلمون.
قال: فحرمت أُمّ سلمة تلك السنة عطاءها.

أمير المؤمنين يصبر الزهراء

ثمّ انكفأت عليها السلام والأمير يتوقّع رجوعها إليه فلمّا استقرّت بها الدار قالت: يابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنين نقضت قادمة الأجدال فخانك ريش الأعزال هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي وبلغة إبني لقد أجهد في خصامي وألفيته ألدّ في كلامي حتّى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها وغضت الجماعة دوني طرفها فلا دافع ولا مانع خرجت كاظمة وعدت راغمة أضرعت خدّك يوم أضعت حدّك افترست الذئاب وافترشت التراب ما كففت قائلاً ولا أغنيت طائلاً ولا خيار لي ليتني مت قبل منيّتي ودون ذلّتي عذيري الله منه عادياً ومنك حامياً ويلاي في كلّ شارق ويلاي في كلّ غارب مات العمد ووهن العضد شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي اللهمّ إنّك أشدّ منهم قوّة وصولاً وأشدّ بأساً وتنكيلاً.
فقال عليه السلام: لا ويل لك بل الويل لشانئك نهنهي عن وجدك ياإبنة الصفوة وبقيّة النبوّة فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون وما أُعدّ لك أفضل ممّا قطع عنك فاحتسبي الله.
فقالت: حسبي الله. وأمسكت.
قال الكفائي: ويقال ما وجه قول فاطمة لعلي بن أبي طالب _ إلى آخر كلامها _ وهي التي كان صوتها دون صوته وما خاطبته باسمه يوماً ما وكانت لا تناديه إلاّ يابن العمّ، أو ياأبا الحسن والحسين _ وهو كلام ينافي عصمة كلّ منهما ظاهراً، وخروجها لأجل فدك منافٍ للزهد والتقدّس في الدنيا!
فنقول: أمّا عن الأوّل فإنّ كلامها وكلامه عليهما السلام إنّما كان من باب المعاتبة لمصلحة هناك كما لله مع نبيّه في كتابه العزيز معاتبات وتأديبات. من باب إيّاك أعني واسمعي ياجارة. فمرادها في المقام أنّ علياً كان غير راضٍ بغصبهم فدك وهي أيضاً غير راضية بذلك ولا رضى علي عليه السلام بخلافة أبي بكر وإنّ بيعته لا عن رضى منه، كما في قضية موسى لمّا رجع إلى قومه غضبان أسفاً وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه وشريكه في الرسالة يجرّه إليه.

الزهراء تخبرهم بما سيحيق بهم من ظلم وويلات

وقال سويد بن غفلة لمّا مرضت فاطمة عليها السلام المرض التي توفّيت فيه دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يابنت رسول الله؟
فحمدت الله وصلّت على أبيها ثمّ قالت: أصبحت والله عائفة لدنياكنّ قالية لرجالكنّ شنأتهم بعد أن عرفتهم ولفظتهم بعد أن عجمتهم وسئمتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحدّ واللعب بعد الجدّ وقرع الصفاة وصدع القناة وختل الآراء وزلل الأهواء وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها وحمّلتهم أوقتها وشننت عليهم غارتها فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأُمور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن نقموا والله منه نكير سيفه وقلّة مبالاته لحتفه وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتبحّره في كتاب الله، وتنمّره في ذات الله وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة لردّهم إليها وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلّم خشاشه، ولا يكلّ ساعده، ولا يملّ راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيّئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وإن تعجب فعجب قولهم ليت شعري إلى أي سناد استندوا وإلى أي عماد اعتمدوا وبأي عروة تمسّكوا ولمن اختاروا ولمن تركوا وعلى أيّة ذرّية أقدموا واحتنكوا لبئس المولى ولبئس العشير وبئس للظالمين بدلاً استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ويحهم أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع أم من لا يهدي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون؟ أمّا لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً وذعافاً ممقراً مبيداً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً واطمئنوا للفتنة جأشاً وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وبهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً، وجمعكم حصيداً فياحسرة لكم وأنّى بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهنّ فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: ياسيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره.
فقالت: إليكم عنّي فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم.

الزهراء تبين سبب غدرهم

ولمّا دخلت عليها أُمّ سلمة عائدة لها قالت: كيف أصبحت عن ليلتك يابنت رسول الله؟
قالت عليها السلام: أصبحت بين كمد وكرب فقد النبي وظلم الوصي هتك والله حجاب من أصبحت إمامته مقتضية على غير ما شرّع الله في التنزيل، وسنّها النبي صلّى الله عليه وآله في التأويل ولكنّها أحقاد بدرية وترات أُحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لا مكان الوشاة فلمّا استهدف الأمر أرسل إلينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق وقطع وتر الإيمان من قسي صدورها وبئس على ما وعد من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين. احرزوا عائدتهم من غرور الدنيا بعد انتصار ممّن فتك بآبائهم في مواطن الكرب ومنازل الشهادات.
وقالت لها عائشة بنت طلحة: ما لي أراك باكية؟ فقالت عليها السلام: اسائلتي عن هنة خلق بها الطائر وحفى بها السائر ورفع إلى السماء أثراً ورزأت في الأرض خبراً أن قحيف بني تيم واحيول عدي جاريا أبا الحسن في السباق حتّى إذا أخذا الخناق أسرا له الشنآن وطوياه الإعلان فلمّا خبا نور الدين وقبض النبي الأمين بطقا بفورهما ونفثا بسورهما وأدلا بفدك فيالها لمن ملك إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجي الأوفى ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي وأنّها بعلم الله وشهادة أمينه فإن انتزعا منّى البلغة ومنعناني اللمظة فاحتسبها يوم الحشر زلفة وليدجنّ آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم.

تعليقات بعض العلماء

يقول ابن أبي الحديد بعد أن يذكر خطبة الزهراء الثانية في شحر النهج: قلت: هذا الكلام وإن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث إلاّ أنّه من تتمّة ذلك وفيه إيضاح لما كان عندها وبيان لشدّة غيظها وغضبها.
وجاء فيه أيضاً: قال أبو بكر _ صاحب كتاب السقيفة _ : حدّثني أبو جعفر محمّد بن القاسم قال: حدّثني علي بن الصباح قال: أنشدني أبو الحسن رواية المفضّل لكميت:
 

أهوى علياً أمير المؤمنين ولا

أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا

ولا أقـول وإن لم يـعـطيا فدكاً

بنــت الــنبي ولا مــيراثها كفرا

الله يعلـم مـاذا يحضــران به

يوم القيامـة من عذر إذا اعتذرا

قال ابن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول أنّه قد أكفرهما في هذا الشعر؟ قلت: نعم. قال: كذلك هو.
ويقول السيّد المرتضى: كيف يدّعي أنّها عليها السلام كفت راضية وأمسكت قانعة لولا البهت وقلّة الحياء.
ويقول ابن أبي الحديد: ولست أعتقد أنّها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنّها انصرفت ساخطة وماتت وهي على أبي بكر واجدة.
وقد أجمع التاريخ أنّها ماتت وهي غضبى على أبي بكر وعمر كما أجمع التاريخ أنّه صلّى الله عليه وآله قال: فاطمة بضعة منّى فمن أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله. جاء ذلك في الصحاح الستّة وغيرهم من رجال الحديث والمعاجم ورجال التاريخ.
أخرج البخاري عن عائشة: أنّ فاطمة عليها السلام إبنة رسول الله صلّى الله عليه وآله سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله أن يقسّم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله قال: لا نورّث ما تركناه صدقة.
فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت.
وأخرج في الغزوات باب غزوة خيبر عن عائشة قالت: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر فلم تكلّمه حتّى توفّيت وعاشت بعد النبي صلّى الله عليه وآله ستّة أشهر فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها.
وقال الواقدي: ثبت عندنا أنّ علياً كرّم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلاّ وصلّى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها أحداً.
وقد غضبت فاطمة عليها السلام على عائشة وحفصة كما غضبت على أبي بكر وعمر. فجاءت عائشة تدخل على فاطمة فمنعتها أسماء. فقالت: لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر وقالت: هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله فوقف أبو بكر على الباب وقال: ياأسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبي أن يدخلنّ على بنت رسول الله وقد صنعت لها هودج العروس؟ قالت: هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد وأمرتني أن أصنع لها ذلك.


المصادر
دلائل الإمامة للطبري
شرح النهج لابن أبي الحديد/ج4و16
مناقب ابن شهر آشوب/ج1
امالي الطوسي
سنن ابن ماجه/ج1
صحيح البخاري/ج5
السنن الكبرﯼ للبيهقي/ج6
مسند احمد/ج1
سنن الترمذي/ج4
المغازي للواقدي/ج3
ذخائر العقبي للطبري

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه