خلفيات كتاب مأساة الزهراء

 

كتاب مأساة الزهراء

(عليها السلام)

الجزء الأول

الطبعة الخامسة 1422هـ. الموافق 2002م. مزيدة ومنقحة حسب المواضيع من قبل المؤلف

 


الإهداء:

بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والصلاة والسلام على محمد وآله.

 

سيدي.. يا بن النبي.. ويا حفيد علي.. بحق أمك الزهراء المظلومة.. إلا ما كنت الشفيع لي إلى الله سبحانه.. في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

 

سيدي.. إن هذا الجهد الذي أرفعه إليك، وأضعه بين يديك.. ومعه كل هذا الأذى الذي أتحمله، وكل ما أتعرض له من خيانة وكيد.. وكل ما يرميني به الموتورون من سهام الحقد والشحناء، وقوارص الضغينة والبغضاء. إن ذلك كله.. لم يكن منافسة منا في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام.. ولكن لنرد المعالم من هذا الدين.. نعم.. لنرد المعالم من هذا الدين، ونظهر كلمة الحق والهدى بين العباد، ونحملها وهي أمانة الله في أعناقنا لننشرها في مختلف البلاد..

 

سيدي.. فكن لي المعين والنصير، والولي، والمؤيد. فأنت باب الله وخيرة الله من خلقه، وصفوته، وحجته على عباده. وأنت المظهر للعدل والناشر للهدى في بلاده..

 

سيدي، هذه حاجتي إليك، وطلبتي وضعتها بين يديك، فبحق أمك الزهراء، وعمتك زينب، إلاّ شملتني بعين عطفك ومحبتك ورعايتك.

 

14شعبان 1418 هـ.ق.

 

تنبيه من كلام البعض:

يقول البعض:

 

"نحن ندعو إلى الحوار بين العلماء والنقد بينهم، وعلينا أن لا نعتبر النقد عداوة.. ولكننا لا نزال متخلفين نعتبر النقد عداوة". (نشرة فكر وثقافة، عدد 3ص 4)

 

فنحن عملا بهذه المقولة نبادر إلى عرض بعض ما طرحه هو نفسه من مقولات وأفكار، ونرجو من الله أن لا يعتبر ذلك عداوة حتى لا نكون متخلفين.

 

ويقول البعض أيضاً:

 

"أنا لا أدعي لنفسي العصمة، ولكنني أستطيع أن أقول: إن 99, 99% مما يقال وينشر ضدي هو كذب، وافتراء، وبهتان"[1].

 

ونقول:

 

إننا نطلب من القارىء الكريم أن يراجع ويقارن فقط!!!.

 

وسئل البعض:

 

هل على المفكرين العظام أن ينظروا إلى ردود الفعل الآتية حول كلماتهم أم أن لهم نظرة أخرى؟

 

فأجاب:

 

"لابد لهم أن ينظروا إلى ردود الفعل لا أن يتعقدوا منها، ولكن عليهم أن يبحثوا في الأمر جيداً فقد يكون فيها شيء من الحقيقة، فليس معنى هذا أن من يرد عليك هو عدو، فنحن نقول كما علمنا أئمتنا (رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي) فقد يكون الشخص الذي ينقدك أو ينقد فكرك يحبك أكثر مما يحبك الشخص الذي يمدحك.

 

لذلك فنحن سعداء أن ينتقدنا الناس، ونحن نسمع ردود الفعل ونقرؤها، ونفكر فيها، فإن كان فيها خير أخذنا بها، وإن لم يكن فيها خير دعونا لصاحبها بالهداية. وتبقى النظرة المستقبلية تتحرك على أساس متابعة الواقع"[2].

 

ونقول:

 

إننا لم نجده أعلن عن تراجعه ولو عن مفردة واحدة مما أثير، مما يعد بالمئات، بل بالألوف، كما يظهر من كتابنا هذا، مما يعني أن كلامه هذا لم يزل في مستوى الشعار، ولم يتحول إلى عمل وممارسة خصوصاً وهو يعلن أن أفكاره ما تزال أفكاره، وأنه يتحمل مسؤوليتها مائة بالمائة. مما يعني أنه ملتزم حتى بالمتناقضات، وسنرى الكثير منها في هذا الكتاب.

 

وقد سئل البعض:

 

كثير من الأفكار والطروحات بدأ البعض يطرح التأويل والشكوك حولها منذ فترة، علماً أنها كانت موجودة في مقالاتكم وكتبكم منذ الثمانينات، وكانوا يرون بأنها مميزة ومهمة. ما هو سر الانقلاب؟

 

فأجاب ذلك البعض بقوله:

 

"إسألوا هؤلاء الأشخاص فهم يتحملون مسؤولية ما يقولونه، فمن جهتي أفكاري ما تزال أفكاري، ومستعد أن أتحمل مسؤوليتها مائة بالمائة ـ وأنا مستعد أن أشكر كل من يدلني على خطأ في قول وفعل، وأعتبر أنه قدّم لي هدية في هذا المجال ـ ولكن الكثير من الناس يشتمون ويشتمون، ولا يحاورون، ولا يناقشون"[3].

 

ونقول:

 

سبحان من يغير ولا يتغير!! فهل يعقل أن يعلن أحد عن عدم حدوث أي تغيير في أفكاره طيلة ما يقرب من عقدين من الزمن، ولا تتكامل أفكاره ولا يطرأ عليها أي تطور نحو الأفضل أو أي تقليم أو تطعيم، علماً أن في تلك الأفكار الكثير من الاختلاف والتناقض أو نحو ذلك؟.

 

يقول البعض:

 

"إنه عندما تطرح القضية ويكون فيها موقفان فإن صاحب الموقف الذي يرى الحق له يتكلم على أساس أنه لا يخاطب شخصاً ولكن يخاطب موقفاً ويخاطب رأياً ويخاطب اتجاهاً، مضافاً إلى أنه في الحق لا مجال للمجاملة، ذلك أن المجاملات والديبلوماسيات والكلمات الضبابية إنما هي في العلاقات الإنسانية التي تتصل ببعض الأوضاع التي يعيشها المجتمع في خطوطه، أما عندما تكون القضية قضية إثبات حق ودحض باطل، فإن المجاملة تكون خيانة، وإن الإعتبارات الإجتماعية حينئذٍ لا تسقط الإعتبارات الموضوعية العلمية، ولذلك كانوا يتكلمون بكل صراحة الحق الذي يعتقدونه، ومن المفارقات أن هذا الحق الذي يطرحونه بكل صراحة وبكل موضوعية لا يثير رد فعل اجتماعي سلبي كما لو يتساءل البعض: كيف تتجرأ على هذا وكيف تتكلم مع هذا بهذه اللغة لأنهم كانوا يعيشون المسألة في أجواء الصراحة في الحق، ولم تؤثر فيهم كل هذه الأساليب التي جاءت بها الحضارات من تغطية الحق بكلمة هنا وبعاطفة هناك"[4].

 

هكذا هو شعورنا:

يقول البعض في كتابه "من وحي القرآن" ج2 ص171:

 

"وقد يكون الأساس في اختيار النبي للخطاب، ثم اتباع أقسى الأساليب شدة في خطاب الله معه، هو الإيحاء بأن هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص، وإن كان عظيماً في مستوى عظمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم لله فيما يريد وفيما لا يريد فإذا انحرفوا عن الخط، ولن ينحرفوا عنه، سقطت عظمتهم وتحولوا إلى أشخاص عاديين خاطئين لا يملكون لأنفسهم من دون الله ولياً ولا نصيرا.

 

ويعتبر هذا أسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف".

 


قبل المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

 

ـ لولا كتاب مأساة الزهراء:

لم أكن أقرأ له.. لأنني ـ شأن كثيرين غيري عاشوا في حواضر العلم ـ أعتبر كتبه ومقالاته تخصّ جيلا بعينه، وتعنيه، وتريد أن ترشده وتهديه.

 

وقبل أكثر من أربع سنوات.. وفي مسجد بئر العبد بالذات، وأمام كاميرا الفيديو.. تحدث إلى طائفة من النساء عن الزهراء (ع)، وعن مأساتها..

 

فأثار تساؤلات، على حدّ تعبيره.. وأصدر أحكاما، أثارت عاصفة من الإحتجاج، و وُوجهت بالإدانة والرفض..

 

فتراجع في رسائل له مكتوبة، وعبر وسائل مسموعة..

 

ولكنه بعد أن هدأت العاصفة، عاد ليثير نفس الأفكار عن الزهراء (ع)، ويحرك قضايا، ويطرح مسائل هي الأخرى حسّاسة وهامة.

 

ورأيت أن من واجبي أن أطّلع على بعض مقولاته وطروحاته، فقرأت له بعض ما كتب ونشر، وسمعت نزرا يسيرا مما بثّته إذاعة محليّة تابعة له..

 

ففوجئت بما قرأت وسمعت، إلى درجة كبيرة.. وأدركت خطورة الأمر.. فبذلت محاولات كثيرة للدخول في حوار مثمر ومفيد، يمنع من تفاقم الأمور، ويعيدها إلى نصابها، فلم أوفق في ذلك.

 

وكان كتاب (مأساة الزهراء (عليها السلام): شبهات وردود) بمثابة إعلانٍ لفشل تلك الجهود، ودق ناقوس الخطر بالنسبة للموضوع برمّته..

 

وكان أن تحرّكت بعنف وشراسة حرب الإشاعات والاتهامات، وقيل ما قيل، ونُشِر ما نُشِر، وأصدروا عددا من الكتب.. وبدا واضحا أن ذلك كله ـ تقريبا ـ يهدف إلى تعمية الأمر على الناس، وإبعادهم عن الموضوع الأساس والحساس جدّا، والمصيري من الناحية الإيمانية، والعقائدية..

 

وكان خيارنا الوحيد لإنجاز التكليف الشرعي الملقى على عواتقنا، تقديم نبذة يسيرة من مقولات يعرف كل عالم بصير: أنها لا تنسجم مع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.. فكان هذا الكتاب..

 

ونحن على يقين بأن حملاتهم التشكيكية وغيرها ضدّنا، ستكون هذه المرة أشدّ ضراوة وأقسى.. غير أننا نريد لكل المخلصين أن يطمئنوا إلى أن ذلك يزيدنا معرفة، وسيعزز من صلابتنا في نصرة الحق، وتوخّي المزيد من الصراحة في بيان الحقيقة، مهما كان الثمن..

 

ومن جهة أخرى، وقبل حوالي ثلاثة أشهر سرقت إحدى مسوّدات هذا الكتاب، ورغم أنها كانت ناقصة بدرجة كبيرة، وغير منقحة، فقد بيعت لمن يهمهم الأمر بمبلغ كبير من المال، هو ـ على ذمة الشهود ـ يعد بآلاف الدولارات!.

 

وعلى أثر ذلك نشطت مساع من هنا وهناك، كان من بينها ما شارك فيه عدد من أهل العلم، الأعزاء والأحباء، يطالبوننا بتأخير إصدار هذا الكتاب، ولو لمدة وجيزة، آخذين على عاتقهم إقناع البعض بإصدار كتاب يشتمل على تصحيحات من شأنها أن تحل الإشكال القائم وتعيد الأمور إلى نصابها. على اعتبار: أن ثمة خطأ يحتاج إلى تصحيح ولا نُصِرّ أن يكون ذلك بأيدينا، فرحبنا بهم جميعا، وقطعنا على أنفسنا وعدا بتأخير إصدار هذا الكتاب مدة عشرة أو خمسة عشر يوما، إذ لا يحتاج هذا المهم إلى أكثر من ذلك.

 

ثم مدّدت المهلة مرة ثانية. وفي المرة الثالثة مددناها لمدة شهر، ومضى أكثر من شهرين، وذهبت تلك الأيام التي حددت في تلك المرات، ولحقتها أيام عديدة أخرى.. ونحن ننتظر الفرج..

 

وجاء الفرج أخيرا على شكل كتاب تخيّل مؤلفه أنه يرد على كتابنا "مأساة الزهراء (ع)" وكتاب "لماذا كتاب مأساة الزهراء (ع)" وتعرض أيضا لكتاب "الصحيح من سيرة النبي الأعظـم صلى الله عليه وآله".

 

ولم يفاجئنا كل ذلك في حد نفسه. ولكن ما لفت نظرنا هو أنه قد تعرض بصورة مبطنة، فيها شيء من إظهار (الشطارة) لكتابنا هذا بالذات، مستفيدا ـ كما هو ظاهر ـ من تلك النسخة التي سرقت وبيعت بذلك المبلغ الكبير من المال..

 

ومهما يكن من أمر، فقد أحببنا أن نعرف القارئ الكريم بحقيقة ما جرى وأن ينتظر المزيد من أمثال هذه الأمور، فإن ذلك من حقه علينا..

 

وإذا كان ذلك قد أزعجه، فنحن نعتذر إليه وعليه منّا سلام الله، ورحمة منه وبركات.

 

وعودا على بدء، نكرر ونقرر: أن الزهراء عليها السلام في مأساتها ومعاناتها، ومواقفها الرسالية، كما عرّفتنا الحق بعد وفاة النبي (ص)، ها هي في غيبة الولي توضح المكنون، وتظهر ما كنا عنه غافلين..

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

فصلوات الله وسلامه على الزهراء، وأبيها، وعلى بعلها وبنيها..

 


المقـدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول المسدد، والمصطفى الأمجد، المحمود الأحمد، حبيب إله العالمين، سيدنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

وبعد..

 

لا نريد أن نتجنّى على أحد، ولا أن نسيء إلى أي كان من الناس، وما نريده هو فقط أن نسهم في حفظ السلامة العامة من الوقوع تحت تأثير بعض الأفكار التي سجّلها البعض في مؤلفاته، وطرحها ليتداولها الناس في شرق الأرض، وغربها.

 

ونحن نرى أن كل مؤلّف يحب نشر أفكاره، ولاسيما التجديدية منها.. ويرغب في أن يتداولها الناس، ليستفيدوا منها، أو لينقدوها، لتصبح أكثر دقةً، وأعمق تأثيرا..

 

ولكن الأمر في هذا المورد بالذات قد يكون على عكس ذلك، فقد ينزعج البعض من نشر ما لديه من أفكار، رغم أنها كانت منشورة مسبقا في ثنايا الكتب، والنشرات، وعلى صفحات الجرائد والمجلات.

 

ولا ندري إن كنا سنتّهم من جديد بأننا نهدف من وراء ذلك إلى التشهير، أو الإسقاط، أو أننا لم نفهم كلامه، ولم ندرك مقاصده، مع أنه يتكلم بلسان عربي، لا تشوبه عُجمة، ولا يعاني من لُكنة. كما أن من يستمعون ويقرؤون له إنما يفهمون الكلام العربي باللغة العربية ولا يفهمونه بغيرها من اللغات كالصينية أو الهندية أو الكردية، وهم في أكثرهم ـ أعني من يستمعون لذلك البعض ـ أناس عاديون، فيهم الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمثقف وغير المثقف.

 

ومهما يكن من أمر، فإننا قد صرّحنا والمحنا إلى أن ما دعانا إلى كتابة كتاب (مأساة الزهراء (ع) شبهات وردود) ليس هو خصوص قضية كسر الضلع الشريف للزهراء البتول، والصديقة الشهيدة. بل هو دفع ما أثير من شبهات خطيرة حول ظلم الزهراء وما جرى عليها، ثم الإلفات والتحذير مما هو أوسع وأشمل، وأكبر وأخطر، وأمرّ وأدهى..

 

ونحن في ضمن كتابنا هذا بأقسامه المختلفة، نعرض مجموعة من مقولات "جريئة" سجلها البعض في مؤلفاته المنتشرة في مختلف البلاد، وبين أصناف شتى من العباد، وللقارئ الكريم الحق في أن يؤيد ما فهمناه واستفدناه منها، أو يرده، إذا اقتضى الأمر ـ بنظره ـ أياً من الرد أو القبول، شرط أن يكون ذلك وفق المعايير الصحيحة والموضوعية، ووفق النصوص القرآنية، والتوجيهات الثابتة عن أهل بيت العصمة (ع)، وما هو ثابت ومعروف في مذهب الشيعة الأمامية.

 

ولنا أن نوفّر على القارئ الكريم الجهد والوقت، لنقول له إن هذه المقولات التي أوردناها، إنما أوردناها للتدليل على أنها مقولات لا يصح القبول بها، وتبنيها كجزء من تكوينه الفكري والإيماني، ومن أراد ذلك فعليه إن لم يكن قادرا على تمحيصها بالوسائل العلمية الصحيحة، أن يرجع إلى علماء الأمة ليوقفوه على ما فيها من هنّات، وما تشتمل عليه من إشكالات وثغرات.

 

وغني عن القول: أن ما سوف نورده هنا يتفاوت ويختلف الأمر فيه من حيث الأهمية، ثم في طريقة التعاطي معه، فقد نورده لخطأ الرأي فيه بحيث يحتاج إلى التصحيح، وقد نورده لفساد طريقة التعاطي معه، ولوجود خطأ أساسي في معالجته له.

 

وبعدما تقدم نقول: لنفترض أننا استطعنا أن نجد لكلام هذا البعض تأويلات بعيدة، ومحامل شاذة وغير سديدة. ولكن ما يثير تعجبنا، وتساؤلنا هو أن يكون كل هذا الحشد الهائل الذي يعد بالمئات ـ بل الألوف ـ مما لا بد من تأويله أو حمله على خلاف ظاهره، بالإضافة إلى الكثير الكثير مما يأبى عن أي حمل أو تفسير مقبول أو معقول!!!

 

ولقد كان بالأمكان التغاضي عن ذلك لو كان الخطاب شخصيا وفي نطاق محدود، أما حين يصبح الخطاب للناس كلهم، ثم يسجل في عشرات الكتب والنشرات وفي مختلف الوسائل المقروءة والمسموعة، ليتناقله الناس ويتداولوه جيلا بعد جيل، حيث سيفهمونه بعفوية، وبسلامة نية، وبالطريقة التي يستظهرها منه أهل المحاورة، فإن الأمر يصبح أكثر حساسيةً، وأهميةً وخطرا.. ويجعل الجميع أمام واجباتهم، ويفرض عليهم التعاطي مع الموضوع بصورة أكثر جدية ومسؤولية، حيث لا بد من التنبيه على هذا الخطأ، وتحصين الناس من الوقوع فيه.

 

وحيث تتأكد الحاجة إلى إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وإلى توضيح ما يحتاج إلى إيضاح، من دون أن يكون ثمة أية خصوصية للجهة التي تتولى تحقيق هذا الغرض النبيل، والعمل بهذا الواجب الشرعي والإنساني الجليل، فإن ما لا بد من مراعاته في عملية الإصلاح والإيضاح هذه، هو شموليتها لكل ما كتب ونشر، ولكل ما تتداوله الأيدي وتتناقله الألسن، أو استقر في الأسماع والقلوب.

 

ولا يكفي لتحقيق هذا الغرض حديث خاص هنا، أو حديث خاص أو حتى عام هناك، يتضمن تأويلا أو تعديلا في مورد أو موارد يسيرة، قد لا تكون هي الأهم والأولى بالإصلاح من غيرها؛ فان ذلك لا يكفي في نفسه، بالإضافة إلى أن معناه أن تبقى نفس تلك الموضوعات، هي وغيرها مما يعد بالعشرات والمئات، مبثوثة في عشرات الكتب والنشرات، وفي مختلف وسائل الإعلام، يتداولها الناس في شرق الأرض وغربها، ويتوارثونها جيلا بعد جيل.

 

وهذا ما يؤكد الحاجة إلى إجراء تعديلات وإصلاحات مباشرة على كل تلك المكتوبات والمنشورات، وفي كل ما قيل وأذيع، ثم إعادة نشره مع التأكيد ـ توضيحا وتصريحا ـ على أن أي رأي أو قول قد يختلف عما ورد في هذه الطبعات الأخيرة لا اعتداد به ولا اعتبار له.

 

وفقنا الله جميعا للعمل بما يرضي الله ونسأله أن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه، وان لا يستبدل بنا غيرنا، وان يثبتنا على طريق الهدى، ولنا برسول الله صلى الله عليه وآله، وبأهل بيته الطاهرين أسوة حسنة، ومنار رشاد، وصلاح وسداد.

 

هذا الكتاب:

وبعد كل ما تقدم نقول: إننا نقدم للقراء الكرام هذا الكتاب (خلفيات كتاب مأساة الزهراء) على أمل أن يجدوا فيه ما ينفع ويجدي في توضيح الحقيقة، وتمييزها عن شوائب يحاول البعض لسبب أو لآخر إلحاقها بها.

 

ولكن من المحتمل: أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، إذ قد يظهر أنّ ثمة حاجة لمتابعة إصدارتٍ أخرى تبين موارد الخلل فيما ينشره هذا البعض بين الناس من مقولات.

 

وبما أن هذا البعض يقول تارة:

 

"إن 99، 99 % هو كذب وافتراء وبهتان.."

 

ويقول تارة أخرى:

 

"إن 90% كذب وافتراء، وعشرة بالمئة تحريف للكلام عن مواضعه.."

 

فقد التزمنا في هذا الكتاب أن لا نأتي من كلمات هذا البعض إلا بما هو مكتوب أو منشور ومتداول، ولا نتعرض إلى ما يذاع أو يباع على شكل أشرطة تسجيل أو فيديو. إلا في حالات يسيرة تبلغ عددها أصابع اليد الواحدة.. وإن كنا نعلم أن ذلك لن يردعهم عن التمادي في الاتهام الظالم لنا بدبلجة الكلام مخابراتياً أو بغير ذلك!!!

 

الدوافع والنوايا:

إننا لا نريد أن نتحدث عن الخلفيات، والدوافع، والنوايا التي تدفع لتسجيل هذا النوع من السعي لاقتحام المسلمات ـ على حد تعبير البعض ـ لأن همنا هو لفت نظر القارئ إلى أن عليه أن لا يأخذ من أقوال هذا البعض شيئاً إلا بعد البحث والتمحيص، لأنه يتبنى آراء خاصة به، ويلقيها إلى الناس، دون أن يبين لهم: أنها آراؤه الشخصية التي لا تتوافق مع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

 

لا سباب ولا شتائم:

وفي اتجاه آخر نشير إلى أن بيان آراء هذا البعض وطرح أقاويله على بساط البحث ليس سباباً ولا شتماً له.. ولا يمكن أن يدخل في دائرة الخلافات الشخصية معه.. فلماذا يحاول هذا البعض الخلط بين هذين الأمرين وتصوير الأمر للناس على أنه هجوم على شخصه ثم هو يدعي: أنها هجمة مخابراتية، وان منشأها العقدة والغريزة وقلة الدين.. وأن من يناقشونه في أفكاره (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وان (مثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).. وأنها إسقاط للرمز وو الخ… وأنهم حاقدون وحاسدون ومعقدون لا يخافون الله.

 

وإن كانت مناقشة أفكار هذا البعض تعني كل ذلك.. فإنه هو نفسه لم يزل يناقش أفكار العلماء ـ الشيعة وغيرهم ـ وينتقدهم.. ويوجه لهم أبشع الإهانات، وقد ذكرنا طائفة من كلماته في حقهم في بعض فصول هذا الكتاب.

 

فهل يرضى منا ـ ولأجل هذا بالذات وفقا لمنطقه ـ أن نجعل ذلك في دائرة العقد النفسية، والكيد المخابراتي، وعدم التدين وفقدان التقوى.. إلى آخر ما هنالك مما ألمحنا إلى بعض منه؟.

 

على أن مناقشتنا لا تهدف إلى تسجيل أي هنات في شخصه، ولا في شخصيته، ولا في ممارساته العملية..

 

كما أنها لم تتضمن أية قائمة، لا طويلة، ولا قصيرة في أي شأن من الشؤون ـ لا في دائرة تعامله مع الناس ولا في نطاق المواقف والممارسات العملية للشأن العام، ولا في محيط الأخلاق والالتزام.

 

وذلك لأننا نربأ بأنفسنا عن الانجرار إلى هذه المزالق، أو الوقوف عند مثل هذه الأمور على أننا قد تحيرنا مع هذا البعض، فتارة هو يقول:

 

"إنه هو المستهدف شخصياً، وإن المسألة تنطلق من أجواء عقد نفسية وحالات غرائزية".

 

وأخرى يقول:

 

"إن الهدف هو إرباك (الحالة) وإن المخابرات الإقليمية والمحلية والدولية ـ وحتى قمة شرم الشيخ هي رائدة هذا التوجه البغيض".

 

وأخرى يقول:

 

"إن الصراع إنما هو بين ظاهرتي التخلف والتجديد".

 

ورابعة يقول:

 

"إن مرجعيته هي المستهدفة..".

 

إلى آخر ما هنالك من مفردات احتوتها قائمة البالونات الاعلامية، الهادفة إلى تمييع القضية الأساس، التي هي تلك المخالفات الخطيرة في أمور الدين والعقيدة.. والتي سنقدم في هذا الكتاب طائفة وفيرة منها..

 

ولا ندري إذا كان الإصرار على تشويه الحقيقه سوف يضطرنا إلى متابعة إطلاع الأخوة الأبرار على المخالفات التي ارتكبت والتي أثارت عاصفة من الاعتراضات القوية في الساحة..

 

الردود في الميزان:

والذي يلفت نظرنا: أن هذا البعض يعمل باستمرار على نشر ردود، على كتبنا تهدف إلى إثارة الغبار، وذر الرماد في العيون.

 

ونلاحظ على هذه الردود أموراً كثيرة نذكر منها ما يلي:

 

1 ـ إنه يتم انتقاء موارد يسيرة جداً، يرون أن بإمكانهم المداورة، والمناوره فيها.. ولكنهم يتركون الأمور الأساسية، ولا يجرؤون على الاقتراب منها..

 

2 ـ إن هذه الأمور اليسيرة التي يتعرضون لها يحاولون أيضاً تغيير اتجاه البحث فيها ثم الإطالة في الحديث، والذهاب يمينا وشمالا حتى يضيع القارئ الكريم في فوضى الأقوال..

 

ونذكر نموذجاً على ذلك، وللقارئ أن يقيس عليه الكثير من الموارد ـ ما ذكره البعض حول امتداد نسل آدم..

 

فإن إشكالنا الأساسي عليه هو في ثلاثة أمور هي:

 

أولاً: قوله:

 

"إنه لا طريق إلى امتداد النسل إلا تزويج الأخوة بالأخوات"

 

مع أن الله الذي خلق آدم وحواء، قادر على أن يخلق لأبنائهما أناسي أجمل من الحور، ليمتد النسل من هذا الطريق..

 

ثانياً: قوله:

 

"إنه بعد امتداد النسل، استقام نظام العائلة، ولتنمو في جو طاهر من الناحية الجنسية"

 

فإن هذا يستبطن اتهاماً خطيرا لبيت نبي الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.

 

ثالثاً: قوله:

 

"إنه لا مناعة جنسية بين الأم وولدها.."

 

فترى: أن الذين تصدوا للدفاع عنه قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها في عمل خداعي يهدف إلى صرف نظر القارئ عن الإشكال الحقيقي إلى أمر آخر غير ذلك كله، وهو أنه هل يجوز تزويج الأخوة بالأخوات أم لا، مع أن هذا الأمر لم نبحث فيه، ولم نورده في جملة العناوين التي تحدثنا عنها وإن كنا قد أشرنا إليه إشارة عابرة.

 

3 ـ إن عمدة ما يستدلون به هو أن فلانا قال كذا، وفلانا الآخر قال كذا.. وكأن الأدلة أصبحت خمسة هي:

 

الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، وقول فلان، أو فلان.

 

ونقول لهم: إذا قال أهل الأرض كلهم بأمر يخالف قول الله ورسوله والأئمة وقواعد الدين والمذهب الثابتة فإنهم يكونون مخطئين ولا بد من رد أقوالهم جميعاًً.

 

4 ـ إن الكثير مما ينسبونه إلى العلماء يعاني من التحريف في معناه أو لفظه.. كما أوضح ذلك الذين واجهوهم بالأمر، وصدعوا بالحق فراجع كتاب (جاء الحق) و (الفضيحة) و (حتى لا تكون فتنة).. وغير ذلك من الكتب التي بينت ذلك حين ردت على تلك المقولات التي أطلقها البعض.

 

5 ـ إن ما ينقلونه أيضاً من أقوال العلماء لا ينسجم في معظمه مع ما يريدون، بل إن أكثره لا يشبه كلام هذا البعض في شيء، ولا يتضمن أية جرأة على الأنبياء والمرسلين، وعلى الأئمة الطاهرين، ولا ينال من مقاماتهم التي وضعهم الله فيها.

 

فمثلاً لو قارنت بين كلام من يقول: إن سورة عبس وتولى نزلت في رسول الله (ص)، وبين ما قاله هذا البعض في هذا المورد لرأيت البون شاسعاً، والفرق كبيراً.. فإن من قال بنزولها فيه (ص) لم يزد على ذلك أي توصيف.

 

فلم يقل مثلاً:

 

"لا تفعلوا مثل فعل النبي (ص)..".

 

ولا تكن "تكون (باللهجة العراقية أو اللبنانية العامية) [5] منطلقاتكم منطلقات النبي (ص)".

 

ولا قرر:

 

أن النبي يترك الأهم وينشغل بالمهم.

 

وأن النبي (ص) يقوم بتجربة غير ذات موضوع..

 

وأن الله يربي رسوله تدريجاً بعد الوقوع في الخطأ.

 

وأن النبي يستغرق فيما فيه مضيعة للوقت.

 

ويفوت الفرص المهمة.

 

ويخطئ في التشخيص.

 

ولا يعرف مسؤوليته المباشرة..

 

6 ـ إنهم يحاولون التشكيك في النوايا فيما يرتبط بالإعتراض على مقولات البعض:

 

فتارة يقولون: هي عقد شخصية.

 

وأخرى إنها: خطط مخابراتيه.

 

وثالثة: إنها لأجل الطعن بمرجعية بعينها.

 

أو أي سبب آخر.…

 

ونقول لهم: ليكن الدافع أي شيء تفرضونه، فإن ذلك لا يبرئ صاحبكم من الأخطاء التي وقع فيها، ولا يجعل خطأه صوابا، ولا يعفيه من مسؤولية التصحيح والتراجع.

 

7 ـ إنهم يتهمون من يعترض على هذا البعض، الذي يريد صدم الواقع، ويسعى لاقتحام المسلمات، بأنه يثير فتنة.

 

ونقول لهم: إن إطلاق الاتهام بهذه الطريقة يذكرنا بقصة قتل عمار بن ياسر الذي قال رسول الله (ص) له: تقتلك الفئة الباغية، فلما قتل، وطولب معاوية بذلك قال: نحن قتلناه؟! إنما قتله من وضعه بين أسيافنا.

 

دعوات فاشلة إلى الحوار:

وبعد.. فإن ما يثير العجب حقا: أن هذا البعض لا يكل ولا يمل من التلفظ بالدعوة إلى الحوار في الهواء الطلق.. فإذا ندبناه إلى ذلك، وسيرنا إليه وسطاء الخير، وأصحاب النوايا الطيبة وتكررت المحاولات، واختلفت حالات الوسطاء في مواقعهم الاجتماعية، وفي ميزاتهم وسماتهم، وتكرر الذهاب والإياب، زرافات تارة، ووحداناً تارة أخرى.. وبعد الكثير من الأخذ والرد والجلسات الطويلة، وحين يبلغ الحق مقطعه، فإنك تجده حين يجد نفسه محاصراً ومحرجاً يعلن رفضه لهذا الأمر، ويريح نفسه ويريحهم حين يطلب منهم إقفال الموضوع.

 

مع أننا لم يكن لدينا أي شرط سوى شرط واحد يتيم، وهو أن يتم الحوار أمام ثلة كبيرة من العلماء الذين هم من الطراز الأول، يختار هو نصفهم، ونختار نحن النصف الآخر، وذلك ليكونوا الحكم والمرجع حين تتباين وجهات النظر، وهم الذين يضعون حدا للمكابرة، أو التجني، إن حدث أي شيء من ذلك.

 

لا بد من إعلان التصحيح:

وآخر ما نذكره هنا هو أن من حقنا جميعا أن نطالب من يقول: إن أفكاره ما تزال أفكاره منذ الثمانينات، وأنه يتحمل مسؤوليتها، نطالبه لتصحيح أفكاره، وبأن يعلن هذا التصحيح. كما أعلن الإصرار خصوصاً بالنسبة لكتابه "من وحي القرآن" حيث يقول عنه:

 

"إن جميع ما ورد في كتابه (من وحي القرآن) في الطبعة الأولى والطبعة الثانية التي هي طبعة دار الملاك، فهو صحيح، والإختلاف إنما هو في الأساليب".

 

مما يعني أن كل فكرة وردت في الطبعة الأولى فهي صحيحة، حتى لو حذفها من الطبعة الثانية، لأن الأسلوب يكون هو السبب في الحذف..

 

فكيف يفسر لنا إذن إنكاره لنبوة يحيى عليه السلام في الطبعة الأولى، وسكوته عن ذلك في الطبعة الثانية، فإن كل ما فيهما صحيح على حد قوله.

 

وكيف يفسر لنا ما قاله من أن فواتح السور {ألم وكهيعص} وغيرها هي من إضافات النبي في القرآن ـ إن كانت السور التي وردت فيها هذه الأحرف مكية في أغلبها ـ وهي كذلك.

 

وقد سكت عن هذا الأمر في طبعة دار الملاك، ولم يصرح بخطئه فيه ولا بخطئه في قضية يحيى، وإذا كان كل ما في هذه الطبعة وتلك صحيحاً.. فإن معنى ذلك أنه منكر لنبوة من صرح القرآن بنبوته، وأنه يقول بأن النبي قد زاد في القرآن، وأن القرآن محرف بالزيادة فيه.

 

لماذا السباب، ولماذا الاتهام؟!

على أننا نقول:

 

إننا من جهة: نتوقع من هذا البعض الذي يعلن أنه سعيد بنقد الناس له، وأنه يقول: رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي ـ نتوقع منه ـ أن يترحم علينا، وأن يكون سعيداً بهذا النقد.. وأن يعفينا من قوله عن مراجع الأمة وعلمائها في إذاعة تابعة له:

 

ـ كمثل الحمار يحمل أسفارا.

 

ـ كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث.. الخ.

 

ـ بلا دين، بلا تقوى.. ولا تثبّت.

 

ـ يفهمون الكلام بغرائزهم..

 

ـ يعانون من عقدة وحسد..

 

ـ متخلفون..

 

وما إلى ذلك..

 

هذا عدا عن وصمهم بأنهم عملاء مخابرات إقليمية، أو دولية، أو محلية… أوأنهم واقعون تحت تأثير المخابرات.

 

ثم هو يصور المراجع للناس على أنهم (ألعوبة بلهاء شوهاء) بأيدي بعض المحيطين بهم، وأنهم يأتيهم الناس بقصاصات:

 

ما رأيكم بمن يقول كذا..

 

فيكتب هذا كذا وكذا. على طريقة ويل للمصلين..

 

نعم.. إن الأمر أجل من ذلك وأخطر.

 

لا بد من الإنصاف:

ومن جهة ثانية:

 

فإننا نتوقع من أي مؤمن ومنصف أن لا ينظر إلى هذا الأمر على أنه خلاف شخصي بين فريق وفريق..

 

فكما يستبعد أن يكون شيء من ذلك قد صدر من هذا البعض، ويستبعد أن يكون هذا البعض لا يصرح له بالحقيقة حين يقول له: إن هذه الأمور مكذوبة أو محرفة..

 

فإننا نطلب منه أن يستبعد أيضاً أن يكون العلماء، ومراجع الدين في شتى بقاع الأرض قد كذبوا على هذا الرجل.. أو أنهم يتحاملون عليه من موقع الحقد والضغينة، فإنهم أيضاً علماء مسلمون مؤمنون لهم حق علينا أن ننصفهم، وأن لا نظن بهم سوءاً، وأن نسمع منهم كما نسمع من غيرهم، وأن نحتمل الخير والصلاح فيهم كما نحتمل ذلك في من عداهم.

 

فلا يظن السوء بفريق بعينه، ولا يتهمه ويتحامل عليه، ولا يرفض قراءة ما سجله من مخالفات، بل يقرأ لكل فريق، ويسمع من الطرفين، ويراجع المصادر ليطمئن إلى صحة ما يقال له.

 

موقف مراجع الأمة:

ومن جهة ثالثة:

 

إن موقف المراجع وعلماء الأمة مما يجري.. لم يكن لأجل جر النفع إلى أنفسهم، إذ إنهم أتقى، وأجل من أن يظن في حقهم ذلك، وهم حفظة هذا الدين، والأمناء على حقائقه، وأحكامه..

 

وإنما هدفهم هو تحصين أهلنا وأبنائنا من الانسياق وراء الخطأ في أمور لا تختص بفريق دون فريق.. ولا بطائفة دون طائفة، ولا بجيل دون جيل.

 

ويلاحظ: أن الإعتراضات قد انصبت بصورة أكبر على الجانب العقائدي، وعلى المفاهيم والقيم، وعلى التفسير وعلى المناهج التي تحكم التوجه الفكري والعقيدي والمفاهيمي ولم تركز اهتمامها ـ بصورة جدية ـ على المخالفات في نطاق الأحكام.

 

وما ذلك إلا لأن دائرة الأحكام تبقى محصورة في نطاق جماعة بعينها استطاع ذلك الشخص بأساليبه أن يؤثر عليها ويربطها بنفسه. وينتهي الأمر عند هذه الفئة، ولا يتعداها إلى الجيل الذي بعدها، حتى من أبنائها.

 

أما المفاهيم والحقائق الايمانية، وشؤون العقيدة، والتفسير فلا تقتصر على من اليه يَرجع في التقليد. بل يأخذ ذلك الناس كلهم وقد يأخذونها من الحي ومن الميت على حدّ سواء.

 

فإذا كان ثمة من خطأ فإن هذا الخطأ سينتشر في هذه المجالات، ولسوف لا يقتصر الأمر على فئة دون فئة، أو جيل دون جيل.

 

فكان أن وقف مراجع الدين، وعلماء الأمة ليصونوا حقائق هذا الدين، حتى ولو أهينوا وحقّروا على شاشات التلفزة، وصوروا على أنهم ألعوبة في يد بعض المقربين منهم، أو يقعون تحت تأثير سياسات المخابرات.. وما إلى ذلك.

 

فإنا لله وإنا إليه راجعون...

 

خطر التحصن بالمرجعية:

إن المشكلة هي أنه بعد أن افتضح الأمر في ما يرتبط بمقولات البعض الكثيرة جداً، والتي تعد ـ ربما ـ بالألوف، والمتنوعة جداً والتي تتعلق بقضايا العقيدة، وحقائق الدين والإيمان، والشعائر، والتفسير، والتاريخ وما إلى ذلك.. ونشرت طائفة من هذه المقولات، وتصدّى لها العلماء ومراجع الأمة في النجف الأشرف، وفي قم المشرفة.. وسائر البلاد لجأ هذا البعض إلى أمر بالغ الخطورة، وهو التطلع إلى سدّة المرجعية، ليصبح كلامه أشد تأثيراً، وأكثر قبولاً عند الناس، حيث يضفي عليه هذا المقام مسحة من القداسة، وليدخل من ثم إلى وجدان الناس بطريقة عفوية، وبتسليم بعيد عن أي إحساس بالحاجة أو الميل إلى مناقشة الأمر، أو إلى التفكير فيه..

 

ورغم أن ظهور هذه الأمور، وقيام العلماء ضدها قد بدأ قبل إعلانه عن طموحاته في المرجعية بسنوات فقد ارتفعت الضجة العارمة ضد مقولاته في سنة 1993 م وهو إنما أعلن عن طموحات للمرجعية في سنة 1995 م.

 

نعم رغم ذلك، فإنه ما فتئ يقول للناس عبر الإذاعات، وأجهزة التلفاز، وفي الجلسات الخاصة: إن السبب في قيام الضجة هو تصدّيه لمقام المرجعية المقدس..

 

ما يهمنا هنا:

ومهما يكن من أمر، فإننا لم نزل نؤكد على أن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو مقولات هذا البعض العقائدية، ولا تهمنا كثيراً آراؤه الفقهية، لأنها لا ولن تجدلها مكاناً مرموقاً بين فقهاء الأمة وأساطينها بعد أن كانت مرتكزة إلى منهجية بحث مرفوضة لدى علماء المذهب. غير أننا أحببنا أن نعطي القارئ الكريم صورة متكاملة ومتقاربة الملامح عن نهج هذا الرجل وعن آرائه، ولسوف يجد أنه حتى في مجال الفقه، لم يزل يقدم الدليل تلو الدليل على أنه بعيد كل البعد عن مسلك فقهاء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في منهجه الاستنباطي غير المرضي عندهم، لأنه يعتمد القياس والاستحسان وغيرهما من مناهج غير مرضية.

 

إعتذاراته الموجهة إعلامياً:

ونضيف إلى جميع ما تقدم أن هذا البعض كان في بدايات ظهور مقولاته إلى العلن، وتنديد مراجع الدين بها.. واعتراض علماء الأمة عليها، ورفضها وتفنيدها.. ـ كان ـ يقول:

 

"إنهم يقطّعون كلامي..".

 

ويقول:

 

"إن ذلك مكذوب علي..".

 

ويقول:

 

"إن الأشرطة مدبلجة مخابراتياً..".

 

ويقول.. ويقول..

 

ولكن الذي شهدناه أخيراً هو تبدل قوي وملفت في السياسة مع المعترضين على هذه المقولات. حيث توجهت أنظاره هو ومؤيدوه إلى الإعتراف والتسليم بأنها من مقولاته، واتجهت هممهم وجهودهم إلى إثبات: أن ثمة من يوافقه عليها من أهل العلم أو من المفسرين، أو ما إلى ذلك.. وارتكبوا في هذا السبيل الكثير من جرائم التزوير، والتحريف، حتى لكلام نفس هذا البعض صاحب المقولات الذي يناصرونه، ويدافعون عنه.

 

ونحن إذ نشكر الله على هذا الإعتراف، فإننا نعيش أشد أنواع الأسى والألم تجاه هذه الفاجعة التي تحل بالدين من جراء هذا التزوير المتعمد والفاضح من قبل أناس يصح أن يقال فيهم: إنهم باعوا دينهم بدنيا غيرهم.

 

ونرى في هذا الأمر خطورة قصوى لا تماثلها خطورة.. ولا ندري كيف نوقف زحف هذا التزوير، ولا كيف نكافحه، ونقضي عليه..

 

وهذا الأمر لا يختص بنوع من مقولات هذا البعض دون نوع، بل هو منتشر في كل اتجاه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

هذه هي قناعاته:

ومهما يكن من أمر فإننا نذكر في هذا الكتاب موارد كثيرة من أقوال البعض توضح لنا:

 

أن ما ذكرناه عنه لم يكن مجرد هفوة عابرة، نشأت عن عدم إلتفات منه أو أي سبب آخر، ليقال: إنها لا تمثل قناعة راسخة عنده..

 

بل إن ذلك الذي ذكرناه، وأمثاله كثير، يبين بما لا مجال معه للشك: أن هذه المقولات هي صفوة ما عنده من فكر، وأنه يتبناها، ويرددها وينشرها، وأنه يعتقد بها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وحول..

 

شاهدنا على ذلك: أنه قد أعاد طبع بعض كتبه، ومنها كتابه المعروف باسم (من وحي القرآن) ولم يغير منه شيئا ذا بال، ولا أصلح أياً من مقولاته الخطيرة والهامة، وإنما بدل بعض العبارات التي لا تحمل في طياتها أهمية تذكر، وإذا كان يقول على المنابر وفي المناسبات، ما ربما يظهر منه خلاف ذلك، فإن إعلانه عن أن أفكاره لم تتبدل منذ الثمانينات كما أشرنا قريباً، ثم إصراره على إبقاء ما كان على ما كان يدلنا على أنه يعرف أن ما يبقى هو المكتوب، أما الخطب والمقابلات، والمداولات في المجالس فإنها تتلاشى، وتزول، وهو يسعى لإرضاء الناس بكلام مبهم من جهة، ويصر من جهة أخرى على إبقاء كل شيء على ما هو عليه، لتتداوله الأجيال من بعده، ومن يريد التأثير عليهم في العالم الإسلامي الكبير.. ليفرض على الآتين أن يفهموا ما ورد في خطبه ومداولاته الشخصية، على أنه إنما كان تحت وطأة الضغوط التي واجهها..

 

انظر إلى ما قيل:

ولي رجاء أكيد من القارئ الكريم، هو أن يراجع كتاب "مأساة الزهراء" في طبعته الثانية التي تشتمل على كتاب "لماذا كتاب مأساة الزهراء".

 

وثمة رجاء آخر آمل أن لا يردّه القارئ عليّ، وهو أن ينظر إلى ما قيل في هذا الكتاب وفي غيره، ولا يكن همه النظر إلى من قال... ولتكن القاعدة القوية والحاسمة عنده هي "إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنّما يعرف الرجـال بـالحق". و "إعرف الحق تعرف أهله" و {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون} [6].

 

فليراجع النصوص التي نقلناها في مصادرها، وليقارن، ليتأكد من أننا لم نقطّع أوصال الكلام، ولا أخللنا بالنقل.

 

وليكن رائده هو معرفة الحق ليحدد موقفه من خلال معرفة تكليفه الشرعي الذي سيطالبه الله به يوم يلقاه، حيث {لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}. وإنا على ثقة ويقين أن من يعمل بهذه القاعدة بصدق، وينطلق منها بإخلاص، فإن الله سيشرح صدره للحق وللحقيقة، وسيكون إن شاء الله مسدداً ومؤيداً من الله سبحانه...

 

قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.

 

ويلاحظ هنا:

 

ألف: يقول بعض الأخوة: إنك إذا تتبعت مقولات هذا البعض فستجد أنه قد تعرّض لمختلف الحقائق الإسلامية بالتشكيك، وربما إلى درجة النفي القاطع أحياناً.. لكن الملفت ـ والكلام لبعض الأخوة ـ أنه لم يتعرض حتى الآن بالتشكيك في الموضوعات التالية:

 

1 ـ الخمس..

 

2 ـ الصدقات والمبـرّات..

 

3 ـ المرجعية، وفقاً لبعض المواصفات المناسبة!!

 

ويضيف هؤلاء الأخوة أموراً أخرى، لا نحب أن نتعرّض لها، لأنها قد تصل إلى حد الاتهام..

 

ونحن لا نريد أن نتهم أحداً، لأننا نعتقد: أن الأهم من كل شيء هو إلفات نظر الناس إلى مقولات نرى أنها على غاية في الخطورة لأنها تمسّ جوهر مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وتهدف إلى إثارة التساؤلات والشكوك حول أهم مفردات العقيدة، والكثير من حقائق الدين..

 

ب: إنه ربما يشعر البعض أن ثمة درجة من الجفاء، أو الجفاف في تعابيرنا، الأمر الذي قد يفسح المجال أمام التعللات الهادفة إلى التهرب من مواجهة الحقيقة، حيث يتمكنون من إثارة عواطف الناس، وتحريك مشاعرهم، وصرفهم عن حقيقة المشكلة حيث يصوّر هو للناس أو يصورون لهم أنه مستهدف، وأنه مظلوم.. وأنه وأنه..

 

ونقول:

 

لا بد من ملاحظة الأمور التالية:

 

أولاً: إن اللغة العلمية هي بطبيعتها لغة جافة، لأنها تسعى إلى وضع النقاط على الحروف، بصراحة تامة، وبأمانة ودقّة.

 

ثانياً: إننا نرتاب كثيراً في صدقية كثير من الألقاب والمقامات والقداسات التي يحاط بها بعض الناس، ويتخذون منها ذريعة لمنع الناس من توجيه النقد، وحتى الإتهام المستند إلى الوقائع، وإلى الشواهد المكتوبة وغيرها.. التي يعطيها ذلك البعض لنفسه.. بل نقطع بما لا نحب التصريح به في هذا المجال..

 

ثالثاً: انه لا مجال لمجاملة من يجترئ على مقامات الأنبياء والأوصياء، ويسعى لاقتحام مسلمات الدين والعقيدة والمذهب، ولا يصح: تعظيمه وتبجيله، وهو يصف الأنبياء بكثير من أوصاف المهانة، ويصورهم بصورة، هي اقرب إلى صورة المتخلفين عقلياً منها إلى صورة الإنسان العادي حتى إن شيخ الأنبياء فيها عنده بدرجة من السذاجة أنه ينظر إلى السماء نظرة حائرة بلهاء.

 

مع أنهم هم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، وانتجبهم، واختارهم ليكونوا الأسوة والقدوة، والقادة، والهداة للعباد و.. وقدّمهم على أنهم الإنسان النموذج، والأكمل والأفضل والأرقى، والأمثل..

 

إن الصورة التي يقدّمها هذا البعض للأنبياء قد تجعل الإنسان العادي يعيد النظر في ما عرّفه وهداه إليه عقله عن الذات الإلهية، فيظن بالله الظنون ـ والعياذ بالله ـ فينسب إليه الجهل بمخلوقاته.. أو العمل على غشهم، وعدم النصيحة لهم. حيث يختار أناساً غير لائقين بما يختارهم له.

 

وإن ما نورده في هذا الكتاب من مقولات هذا البعض يوضح هذه الحقيقة بجلاء تام.

 

هذا كله.. عدا عما يصف به هذا البعض أئمة الدين، وأولياء الله. وكذلك ما يصف به السيدة الزهراء عليها السلام، مما سيمر على القارئ الكريم بعضه أيضاً في قسم مستقل إن شاء الله تعالى..

 

والحمد لله رب العالمين.

 

جعفر مرتضى العاملي

 

إلفات نظر:

إننا كنا قد اعتمدنا في بعض موارد هذا الكتاب على الطبعة الأولى من كتاب البعض والمسمى ـ زوراً ـ (من وحي القرآن)، ولكن بعد أن صدرت الطبعة الثانية، آثرنا أن نعتمد عليها في سائر ما نورده من عباراته في كتابه المذكور لأن الوصول إليها أيسر، فعلى القارئ الكريم مراعاة هذه الجهة وملاحظة الطبعة الأولى فيما لا يجده في الطبعة الثانية، راجين منه أن يقبل اعتذارنا عن هذا الأمر.

 

تمهيد:

ـ حيث لا بد من الإشارة:

 

قد عرفنا: أن البعض قد أفصح في كتبه ونشراته، وفي محاضراته، ومحاوراته الإذاعية وغيرها عن أمور أثارت جوّا معيّنا.. وقد كتبنا كتابنا "مأساة الزّهراء (ع) شبهات وردود"، للردّ على بعضٍ من ذلك..

 

وقبل أن نضع أمام القارىء بعضا آخر مما قاله ذلك البعض، مما يحتاج إلى توضيح أو تصحيح، نذكّر بالأمور التالية:

 

الأمر الأول:

إن بعض مسوّدات هذا الكتاب قد سرقت وبيعت بمبالغ كبيرة، في محاولة لعرقلة صدور هذا الكتاب والحد من تأثيره، ولنا أن نتوقّع في نطاق الإصرار على هذه المقولات بعضا مما عرفناه وألفناه، كما كان الحال حين صدر كتابنا: "مأساة الزهراء (ع) شبهات وردود".

 

الأمر الثاني:

إن ما يحويه هذا الكتاب من مؤاخذات، ليس هو من الأمور التي يمكن إغماض النظر عن أي مورد منها، فلو فرضنا ـ وفرض المحال ليس محالا ـ أنه أمكن تلمّس بعض التأويلات لموارد قليلة مما ذكر، فإنه لا يمكن الإكتفاء بذلك، وغض النظر عن الباقي، لأن كل مورد فيه له أهميّة كبيرة، وقسم منه يتمتع بدرجة عالية من الحساسية والخطورة، فيما يرتبط بالتكوين الفكري، على مستوى المذهب.

 

الأمر الثالث:

إننا نتوقّع أن تنصب ردودهم وإثاراتهم على الأمور التالية:

 

1ً ـ سيقولون إنها نصوص مجتزأة لا تمثّل الحقيقة كلّها.

 

ونحن نرجو من القارىء الكريم أن يتأكّد من الأمر بنفسه، ليجد: أن هذا الكلام ليس دقيقا.

 

2ً ـ سيقولون إن كلام ذلك البعض لم يفهم على حقيقته، أو إنه لا يقصد ما فهم منه..

 

ونقول:

 

أولاً: إننا نطلب من القارىء الكريم أن يراجع كلام ذلك البعض، ليفهمه بنفسه، ليتبين له هل يصح أن يعتمد على ما يقال له من تأويلات بعيدة عن ظهور الكلام ودلالاته، أم لا يصح له ذلك.

 

ثانياً: ليكتب صاحب تلك المقولات إيضاحات لمقاصده، ويضمها إليها، ليقرأها القارىء معا مباشرةً، ويكون بذلك قد حصّنه عن الوقوع في فهم خلاف مقصوده.

 

3ً ـ قد يقال: إن هذا الكلام قد قيل في مقامات مختلفة تختلف وتتفاوت، ولكل مقامٍ مقال..

 

ونقول:

 

لا بدّ من بيان خصوصيات المقام الذي قيل فيه، إذا كانت تلك المقامات بمثابة قرائن متصلة على المراد؛ ليعرف الناس ذلك؛ فإن الناس لا يعلمون الغيب، ومن سيولد بعد مئة سنة سيكون أبعد عن هذه المقامات، وعن معرفة تأثيرها في دلالة الكلام.

 

كما أنّ لنا أن نسأل هنا:

 

هل المقام الذي قيل فيه هذا الكلام يفرض هذه التنازلات، أو تلك الإعترافات؟!

 

وهل ستستمر سلسلة التنازلات هذه في المقامات المختلفة؟!

 

وهل سيأتي يوم نتنازل فيه عمّا هو أهمّ وأعظم؟!

 

وهل هذا الحشد الهائل هو من بوادر ذلك وإرهاصاته؟!

 

وهل كل هذا الكم الهائل وسواه أضعاف كثيرة، قد اقتضته المقامات المختلفة؟!

 

أم أنّ أكثره قد كتب ونشر بمبادرة مباشرة، ومن دون أن يكون ثمّة مقام يقتضيه؟ أو يفرض له وعليه قيودا وحدودا؟!..

 

4ً ـ قد يقال: لماذا تتمسّك بهذا القول بالذات، وتترك ما سواه من أقوال أخرى لهذا البعض نفسه؟.

 

وجواب ذلك واضح:

 

أولاً: إن الطبيب إنما يلاحق موضع الداء، ويضع إصبعه على الجرح ويعالجه، ولا شغل له بما هو صحيح وسليم.

 

ثانياً: إن ذلك البعض قد أعلن في ندوة له قبل مدّةٍ يسيرة: أنه مسؤول عن كل ما كتبه منذ ثلاثين سنة وهو ملتزم به [7].

 

وقال أيضا:

 

"إنني عندما انطلقت في العمل الإسلامي والفكري منذ ما يقارب ال 45 عاما كنت أعتقد في كل ما كتبت وحاورت وحاضرت وكانت حصيلة ذلك عشرات الكتب وآلاف المحاضرات" [8].

 

وهذا الذي نقدّمه هو بعض ما صدر منه وعنه.

 

ثالثاً: إذا كانت أقوال هذا البعض متناقضة، فليدلّ على الصحيح منها، ليؤخذ به، وليبين للناس الفاسد ليُجتنب عنه، فإنّ بيان ذلك من مسؤولياته، أيضاً، كما أن من مسؤولياته أن لا يتكلم بالمتناقضات.

 

5ً ـ قد يقال: إن بعض الموارد التي يرد عليها الإشكال، قد ذُكرت لها في مواضع أخرى حدود وقيود تجعلها مقبولة ومعقولة..

 

ونقول: إن من الواضح أن من يكتب شيئا في مقالة ما، فإنه لا يصح له أن يطلب من الناس أن يقرأوا ما كتبه طول عمره، ليعرفوا ماذا يقصد بكلامه في مقالته تلك، وليس له أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فيفصل بين مراده وبين الشاهد والقرينة عليه؟!

 

وما هو الداعي له ليجعل البيان في كتب أخرى، فإن الأولى هو إصلاح نفس الكتاب الذي يشتمل على الخطأ، ثمّ إعادة طباعته، أمّا تسجيل الإصلاح في كتب قد لا تصل إلى جميع من سيقرأ له؟.. أو في محاضرة أخرى قد لا يسمع بها قرّاء مقالته تلك، ولا تمرّ عليهم؟! فلا أثر له، ولا يمكن أن يحل المشكلة، لاسيما مع تكرر صدور هذه المقولات عنه.

 

بل لماذا يجعل الجواب في موضع آخر من الكتاب نفسه، خصوصا إذا كان ذا أجزاء عديدة، قد تصل إلى خمسة وعشرين جزءا، حيث لا يخطر في بال الكثيرين أن يقرأوه كله، وإذا خطر ذلك لبعضهم، فقد لا يمكنه ذلك.

 

وهل يصح أن يقال: إنه من أجل معرفة المراد من آية قرآنية، لا بد من قراءة تفسير القرآن كله بجميع أجزائه؟!

 

ثم ما هي الضمانة في أن تصل تلك الموارد التي تتضمن الفكرة الصحيحة للأجيال اللاحقة، فلعلّها تضيع ـ كما ضاع غيرها ـ وتصل إليهم الأفكار التي هي موضع الإشكال.

 

6ً ـ قد يقال لك في بعض الموارد: قد ذهب فلان من العلماء إلى هذا القول، أو إلى ذاك القول..

 

ولكن لماذا لا يقال لك: إن ألوفا بل عشرات الألوف على مرّ التاريخ، وكلّهم من كبار العلماء، وأفذاذ الرجال قد قالوا بخلافه؟!..

 

ولماذا لا تلاحظ الحقيقة التي تقول: إن معالم المذهب إنما تؤخذ من مشهور علمائه، الذي يمتلك الأدلة القاطعة على ذلك، ولا يصح نسبة رأي شذّ به هذا العالم أو ذاك العالم إلى المذهب. فمثلا لا يصح أن يقال: الشيعة يقولون ويعملون بالقياس لأن واحدا من علمائهم كان يعمل به – لو صحّت النسبة إليه – فإن رفض القياس معروف من مذهب الشيعة، فمن يقول به يكون مخالفا للتشيع، حتى وإن كان ثمة عالم من السابقين يقول به، وإن الزواج المؤقت معروف من مذهب الشيعة، فلا يصح الخروج على ذلك، بحجة أن فلانا العالم قد ذهب إلى رأي آخر.

 

ولو أردنا أن نجمع شذوذات العلماء إلى بعضها البعض، فـقـد يتكون لدينا مخلوق جديد، له مواصفات وحالات تجعله أعجوبة، ما دام أنه قد لا يشبه أيّا مما نعرفه ونألفه.

 

على أن من الواضح: أن كثيرا من الأمور الإيمانية، لا بدّ أن تؤخذ من النصوص، وقد جمعت تلك النصوص من كتاب إلى كتاب، ومن عالم إلى عالم، في ذلك الزمان الصعب، وضم بعضها إلى بعض بصورة تدريجية، حيث تبلورت النظرة من خلال ذلك، وقد كان طبيعيا أن يتأخّر الإلتفات إلى بعض القضايا، أو أن يعطي عالم ما رأيا خاطئا فيها، ولاسيما إذا كانت من الأمور التفصيلية، أو تلك التي تحتاج إلى توثيق وتدعيم بالشواهد الكثيرة، والنصوص الغزيرة، خصوصا إذا كان أمرا يقل التعرّض لذكره، أو يصعب الإنقياد له..

 

وكجزء من التمهيد نذكر ما يلي:

 

 

 

1 ـ عقائد الشيعة (متوارثة).

2 ـ عقائد الشيعة قد يكون فيها الخطأ.

3 ـ هل في عقائد الشيعة بدع؟!!.

4 ـ أسعى لاقتحام المسلّمات.

لقد قُدّمَ إلى البعض سؤال يقول:

 

هناك فكرة لدى البعض مفادها لزوم ترك التحدّث في الأمور العقائديّة، حتى ولو كانت محل حاجة الناس الفكريّة، والإقتصار في ذلك على المجالس الخاصّة للعلماء، وذلك خوفا من أن تتزلزل عقيدة العامة، فهل في الإسلام ما يبرّر كتمان العلم والإقتصار على تثقيف الخاصة وحسب، وما هو الصحيح في هذه الفكرة؟

 

فاعتبر أنّ هذا الطرح قد جاء بدافع الخوف على موروثاتهم.. لا أنّه جاء بدافع الحرص على عدم إدخال الناس في بلبلة فكريّة واعتقاديّة، فهو يقول:

 

"يخاف البعض أن يؤدي طرح المسائل الفكرية والعقائدية إلى مس أفكار متوارثة قد تكون صحيحة وقد لا تكون".

 

ويقول:

 

"بأنّه ليس من حق أيّ عالم أن يطرح القضايا التي تثير الجدل أمام الناس، وأن عليه أن يقتصر في ذلك على العلماء الذين يناقشهم ويناقشونه حذرا من (ضياع) الناس.

 

وربما يلاحظ عليّ بعض إخواننا أنني أطرح القضايا وأثير التساؤلات في الهواء الطلق، ويعتبرون أن بعض الأفكار المطروحة قد تصدم الذهنية العامّة المتوارثة، ويرون أن ذلك خطا، لأنه يولّد جدلا ومشاكل تضعف عقائد الناس"[9].

 

ثم بدأ يستدل على صوابية موقفه بأن القرآن قد طرح أفكار المشككين في النبي، كقولهم ساحر، مجنون، وكاذب، ثم قال:

 

"ولو أن كل مصلح أو عالم أخفى أفكاره عن الناس، فكيف ستصل الحقيقة إليهم" [10].

 

نعم، لقد قال هذا البعض ذلك، مع أن القرآن إنما ذكر أقوال المشركين في مقام الإنكار والتهجين لها، هذا مع أنها ليست أفكارا وإنما هي شتائم.

 

ثم إن ذلك البعض خاطب الناس بقوله:

 

"لا تبيعوا عقولكم لأحد، ولا تبقوا على جمودكم على غرار ما ذكرته الآية الكريمة: {أنا وجدنا­ آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف 13)، لأن كل جيل يجب أن ينفتح على الحقيقة وفق ما عقله وفكر به".

 

ولكن قد فات ذلك البعض أن عدم إشراك العامّة في البحث الفكري والعقائدي ـ عند القائلين بذلك ـ إنّما هو في مرحلة التحقيق، لا في إطلاعهم على النتائج، ولا يلتزم القائلون بهذا القول، بعدم إشراك جميع الناس في ذلك، بل يقتصرون على من ليس عندهم الأهلية للتحقيق.

 

وهذا لا ينطبق على الأمور الفكرية والعقائدية فقط، وإنما على جميع العلوم، فلا يُتوقع أو يُطلب من باحث الطبّ أن يشرك أو يُطلع جميع الناس على تدرجه في البحث مرحلة فمرحلة، ولا الباحث الفيزيائي، ولا سواه في أي علم من العلوم، فلا معنى لقول البعض:

 

"لو أن كل مصلح أو عالم أخفى أفكاره عن الناس، فكيف ستصل الحقيقة إليهم".

 

فإنّ ثمرة جهد الباحثين والمحققين ستصل إلى الجميع، وتكون مشتركة بينهم، وتعمّهم فائدتها.

 

وسيأتي كلامه بنصه الحرفي والذي يعتبر فيه أن المشكلة هي: أن الشيعة لا يريدون أن يتنازلوا عن شيء مما ورثوه.

 

ثم يقول:

 

"إنني أشعر بأن مسؤولية العالم أن يظهر علمه إذا ظهرت البدع في داخل الواقع الإسلامي وخارجه، وإذا لم يفعل ذلك (فعليه لعنة الله) كما يقول النبي (ص)، والله تعالى قال: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}(البقرة 159) [11].

 

إذن، فهو يرى أن ما يطرحه هو البينات والهدى،وأن هناك بدعا في عقائدنا، وأن عليه أن يظهر علمه لإزالتها،على أساس أنه لا يؤمن بأن الناس عوام يجب أن نبقيهم على جهلهم.

 

حيث يعقب ذلك بقوله:

 

"أنا لا أؤمن بأن الناس عوام يجب أن نبقيهم على جهلهم،إنما يجب أن نثقفهم ليعوا دورهم ومسؤولياتهم في الحياة وأمام الله تعالى.

 

إني أرى أن من الخطأ إثارة القضايا في المجالس الخاصة وحسب،بل لا بد من أن نثيرها في المجالس العامة بالطريقة التي تحقق للناس توازنا في فهمهم وأفكارهم،حتى يعيشوا ثقافة الإسلام بوعي وفهم وتدبر لأن الله لم يخاطب الخاصة ليحولهم إلى طبقة مغلقة، ولكنه خاطب الناس والمؤمنين جميعا.

 

وإذا كان بعض الناس يختلفون معي في الرأي أوفي فهم القضايا لأن لهم وجهة نظر أخرى، فليس معنى ذلك أن آرائي التي أطرحها تؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى الحقيقة أو في الواقع،بل قد تكون سلبية على مستوى آرائهم. وإذا كان هؤلاء لا يجدون مشكلة في طرح أفكارهم على الناس لأنهم يرون صوابيتها، فما المشكلة في طرح أفكار أخرى يعتقد أصحابها بصوابيتها؟ علما أن اختلافك مع الآخر لا يعني أنك تمثل الحق المطلق،ليكون الآخر في موقع الباطل المطلق".

 

إذن، فهو يعتبرها أفكارا في مقـابل أفكار،وآراء في مقـابل آراء، ووجهات نظرٍ تقابلها وجهات نظرٍ أخرى، وعقائد موروثة.. وقد يكون فيها الخطأ.

 

غير أن الذي لم يتضح بعد، هو أنها إذا كانت كذلك، كيف ثبت له أن ما عدا أفكاره ووجهات نظره وآراءه هو بدع لا بد من إظهار علمه لإزالتها؟!..

 

ومهما يكن من أمر، فإن ذلك يجعلنا نفهم ما يرمي إليه حين يعلن أنه: "يسعى لاقتحام المسلّمات"، فهو يقول:

 

"إنني أحاول أن أبحث عن الحقيقة،وأسعى إلى اقتحام المسلّمات،لأن المسلّمات قد تكون ناتجة من حال ذهنية معينة وقد تصير مسلّمات وهي ليست كذلك. بعض الناس يخاف اقتحام المسلّمات وحتى اقتحام المألوف. ولكن عندما نريد أن نصنع تاريخنا وفكرنا علينا أن نفكر على أساس البحث عن الحقيقة ومراعاة واقع العصر".

 

وأضاف:

 

"على صاحب التفكير المنفتح أن يتحمل ضربات التيار الذي يقف في وجهه،وأن يتحمل الرجم بالحجار الاجتماعية والسياسية" [12].

 


المقصد الأول المنهج الفكري والإستنباطي (قواعد ومبانٍ للفكر والإستنباط)


الفصل الأول

 

قواعد ومناهج


بـداية:

قبل الشروع في استعراض مقولات هذا البعض على مختلف الصعُد الدينية، والفقهية، والأصولية، والعقائدية، والتفسيرية، وغيرها، أحببت أن أعطي القارئ الكريم لمحة عن الطريقة الفكرية والمنهج الاستنباطي الذي ارتضاه هذا البعض لنفسه، ليكون لديه هو الآخر صورة عن هذا المنهج فإن ذلك سيساعده على فهم كثير من الأمور التي سترد عليه في أقسام الكتاب المختلفة، إذ لا ريب أن أولى الأولويات في سياق الهدف الذي ننشده من وراء الكتاب هو إحاطة القارئ الكريم بظوابط البحث وقواعد الإستدلال التي يعتمدها البعض ليسهل عليه بعد ذلك، وفي كل مورد مورد، تطبيق ما عرفه من قواعده وضوابطه ـ إن صح تسميتها ضوابط ـ، وليتضح له أن الأمر ليس مجرد فلتة لسان هنا، أو زلة هناك، بل إن هناك منهجاً كاملاً مضطرب الأركان مختل الركائز، قد نسج من شذوذ في بعض سماته، ومن شبهات في بعضها الآخر، ومن أباطيل وتزييفات في عمدة ملامحه حتى غدا مخلوقاً عجيباً لا تجد له نظيراً في فكر مفكر أو منهج مذهب من المذاهب، لا يراد به إلا خدمة غرض معيّن يعلمه الله تعالى، ونحن بفضل الله نعلمه، فعسى القارئ الكريم أن يعلمه أيضاً، فإلى ملامح هذا المنهج في العناوين التالية:

 

المنهج الإستنباطي:   

إننا فيما يرتبط بالمنهج الإستدلالي لذلك البعض، نكتفي بذكر النقاط التالية:

 

 

 

5 ـ العمل بالقياس عند الحاجة ولو في مسألة واحدة.

6 ـ النهي عن القياس لأجل عدم الحاجة إليه.

إنه لا مانع عند البعض من العمل بالقياس وغيره من الطرق الظنية في أي مورد لا يجد في الكتاب وفي الحديث، ما يفيد في إنتاج الحكم الشرعي. على اعتبار أن نهي الأئمة عن العمل بالقياس إنما هو بسبب عدم الحاجة إليه. فإذا احتاج الناس إليه ولو في مسألة واحدة فلا مانع من العمل به [13].

 

وقد صرّح بذلك في كتابه تأملات في آفاق الأمام الكاظم عليه السلام، كما سنرى.. مع أن ما ورد عن أئمة أهل البيت من النهي الصحيح والصريح عن القياس لا مجال للنقاش فيه، وهو معروف من مذهب الشيعة الأمامية..

 

ونختار بعض ما كتبه ذلك البعض حول موضوع القياس، فهو يقول:

 

"جاء في الحديث عن الأمام موسى الكاظم (ع) ما رواه المفيد بسنده عن الحسن بن فضال عن أبي الفراء عن سماعة عن العبد الصالح: سألته فقلت: إن أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث فربما كان شيء يبتلى به بعض أصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه، وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال:لا، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس، فقلت له: لم لا يقبل ذلك؟ فقال: لأنه ليس من شيء إلاّ جاء في الكتاب والسنة.

 

إن هذا الحديث يوحي بأن رفض القياس كان بسبب عدم الحاجة إليه لشمولية الكتاب والسنة لكل ما يحتاجه الناس من الأحكام الشرعية في شؤون الحياة العامة والخاصة بحيث يمكنهم أن يجدوا فيها المعالجة الخاصة للقضايا الجزئية، والمعالجة العامّة للقواعد الكليّة المنفتحة على أكثر من موقع.. فيكون الرجوع إلى القياس رجوعا إلى ما لا ضرورة له، بالإضافة إلى أنه لا يملك أساسا للحجيّة لأنه يعتمد على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، لاسيما أن علل التشريع قد لا تكون واضحة وضوحا كليا بالمستوى الذي يستطيع الإنسان أن يدرك معه أساس التشريع في هذا المورد بشكل قطعي ليستنتج من ذلك حكم المورد الآخر الذي يشابهه، فقد يدرك الإنسان جانبا من المدرك ويغفل عن الكلية التي تزن الأمور بميزان دقيق، حيث يختلف في الموضوع حسب الإنطباعات الذاتية في فهمهم لأسرار الحكم والموضوع معا".

 

إلى أن قال:

 

"وقد ورد في بعض الروايات أن الأمام موسى الكاظم سأل أبا يوسف عندما سأله عن الفرق بين التظليل للمحرم في الركوب وفي النزول، فقال له ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال: لا، قال: فتقضي الصوم؟ قال: نعم. قال: ولم؟ قال: هكذا جاء. فقال أبو الحسن: وهكذا جاء هذا.

 

وهذا الذي أراد أهل البيت أن يؤكدوه، وهو أن دين الله لا يصاب بالعقول، لأن العقول تدرك بعض الأمور ولكنها قد تغفل عن إدراك البعض الآخر مما يوحي بأن الحكم الشرعي لم يستكمل ملاكه بشكل دقيق وهذا ما نلاحظه في اختلاف الحكم في بعض الموارد المتشابهة في أكثر من وجه كما في الصلاة والصوم اللذين تجمعهما الناحية العبادية، ولكن حكمهما في القضاء مختلف، وهكذا أمر الله في كتابه بالطلاق وأكد فيه شاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا شهود.

 

وربما نستفيد من الحديث الأول الذي يؤكد عدم الحاجة إلى القياس لوفاء الكتاب والسنة بجميع الأحكام، أن الأمر لو لم يكن كذلك بحيث كانت هناك حاجة ملحة إلى معرفة الحكم الشرعي لبعض الأمور ولم يكن لدينا طريق إلى معرفته من الكتاب أو السنة، فإن من الممكن أن نلجأ إلى القياس أو نحوه من الطرق الظنية في حال الانسداد انطلاقا من أن الإعتماد على الطرق الظنية العقلائية أو الشرعية كان مرتكزا على الحاجة إليها لإدارة الشؤون العامة للناس بحيث لولاها لاختل نظام حياتهم لأن العلم وحده لا يكفي في ذلك، ولكننا قد لا نحتاج إلى ذلك لأن في القواعد العامة كفاية، ولأن في توسعة الإستظهار بإلغاء الخصوصية التي تجمد الحكم في مورد خاص من جهة الفهم العرفي الذي لا يجد للخصوصية أساسا في الحكم ونحو ذلك"[14].

 

ويقول أيضاً:

 

"إننا نتصور أنه لا بد لنا من أن ندرس هذه الأمور دراسة أكثر دقّة وأكثر حركية باعتبار أننا نستطيع في حال استنطاق الحكم الشرعي الوارد في هذا المورد نستطيع أن نصل إلى اطمئنان في كثير من الحالات من خلال دراستنا لعمق الموضوع الذي نحيط به من جميع جهاته مقارنا بموضوع آخر مشابه له في جميع الحالات مما يجعل احتمال اختلافهما في الحكم احتمالا ضعيفا بحيث لا تكون المسألة ظنية بالمعنى المصطلح عليه للظن، بل قد تكون المسألة تقترب من الإطمئنان إن لم تكن اطمئنانا، إن المشكلة هي أن الدراسة الأصولية والفقهية تؤطر ذهنية الإنسان في هذه الدائرة الضيقة. ومن هنا ينشأ الإنسان وفي قلبه وحشة من أن يمد الحكم الثابت لموضع إلى أمثاله، لأن ما أسميه لغة القياس التي تألفها الذهنية الشيعية تجعل كل شيء قياسا عندهم حتى ولو كان الإحتمال احتمالا بعيدا جدّا، لأنهم إذا لم يستطيعوا أن يشيروا إلى خصوصية الإحتمال في مضمونه، فإنهم يطلقون الإحتمال في المطلق ويقولون إن الله اعلم بالخصوصيات ونحن لا طريق لنا إلى معرفتها بحيث يغلقون الباب على أي استيحاء واستلهام للملاك الشرعي.

 

حتى إننا نجد بعض الأصوليين عندما يتحدثون عن مورد من الموارد التي كانت متعلقة بالأمر الذي يكشف عن وجود ملاك ملزم في الموضوع، فإننا نراهم أنهم إذا حدث هناك أي عنوان يسقط الأمر؛ إمّا من جهة عدم القدرة أو من أي جانب من الجوانب أو من جهة التزاحم بأمر آخر أهم مثلا، بحيث يصبح الموضوع من دون أمر، فإنهم يقولون إنه لا يمكننا أن نتقرب، إذا كان المورد مما يتقرب به إلى الله بالملاك عينه لأننا لا نحرز وجود الملاك إلا من خلال الأمر، فإذا سقط الأمر ولو من خلال أشياء أخرى طارئة خارجية عن ذات الموضوع فإننا لا نحرز الملاك، ولذلك فنحن لا نستطيع أن نعتبر هذا الموضوع واجدا للملاك الشرعي بحيث نرتب عليه آثار أي موضوع وارد من ملاكه، فيما هي من آثار الملاك.

 

ما نتصوره أن علينا أن نعيد دراسة الأحاديث التي وردت في رفض القياس عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لأن الواضح أن بعض القضايا التي رفض فيها نقل الحكم من موضوع إلى موضوع آخر كانت منطلقة من أن السائل اعتقد الملاك في جانب مقاس بينما كان الملاك شيئا آخر لا يسمح بهذا القياس، لأنه لا يحقق عناصر القياس كما نلاحظ في رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق (ع) " قال: قلت له: ما تقول في رجل قطع اصبعا من أصابع المرأة؟

 

قلت: كم فيها؟

 

قال: عشر من الإبل.

 

قلت: قطع اثنتين.

 

قال: عشرون.

 

قلت: قطع ثلاثا.

 

قال: ثلاثون.

 

قلت: قطع أربعا.

 

قال: عشرون.

 

قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون!؟... إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان!؟

 

فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله (ص) إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان إنك أخذتني بالقياس. والسنّة إذا قيست محق الدين".     

 

"إذا تنطلق المسألة من جانب آخر، لا من جانب العدد بالمقام، وإنما من جانب طبيعة مشاركة المرأة في العقل الديتي (أي الدية) التي تتحملها العاقلة، فالقضية لها جانب آخر هو تصور الملاك في جانب ولكن هناك ملاك آخر في جانب آخر، ربما نجد بعض الحالات التي لا مجال فيها حتى للقياس، كما في قضية قضاء الصوم بالنسبة إلى ذات العادة وعدم قضاء الصلاة وهكذا.. إنني أتصور أن ثمّة مسلّمات درج عليها الأصوليون والفقهاء في الحكم الشامل بالنسبة إلى القياس.

 

ويمكننا أن نعيد النظر فيها، فلعلنا نكتشف شيئا جديداً. وفي هذا الإطار، لا بد من الإلفات إلى أحد محفزات العمل بالقياس عند بعض المذاهب، وهو انطلاقه من ضرورة معرفة الأحكام مع قلة الأحاديث الصحيحة، فلجأ هذا البعض إلى القياس لملء الفراغ كما حصل مع الأمام أبي حنيفة الذي كان أول من نظّر للقياس وعمل به، إذ لم يصح عنده من أحاديث النبي (ص) إلاّ ثمانية عشر حديثا حسب ما أذكر. بمعنى أنه لا يملك أي مصدر لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا ما نعبر عنه بانسداد باب العلم والعلمي، ومن الطبيعي أنه إذا انسد باب العلم بالأحكام أو باب الحجج الخاصة، أي ما يعبر عنه بالعلمي، فإننا لا بد أن نرجع إلى حجية الظن على بعض المباني، كمبنى الكاشفية، بمعنى أن العقل يحكم بذلك عند فقدان كل الوسائل لمعرفة الحكم الشرعي مع وجود علم إجمالي بوجود حكم شرعي لم يسقط. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يجعل الله حجة ويكون الظن حجة، وعند ذلك يكون القياس أقرب الحجج من هذا الموضوع.

 

ومن خلال هذا نفهم أن مسألة رفض القياس لدى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد يكون منطلقا من أن هناك أحاديث في السنة الشريفة واردة بشكل واسع جدا لا يحتاج فيه إلى القياس لأن باب العلم مفتوح من جميع الجهات مثلا، سواء أكان من خلال القواعد العامة أم من خلال النصوص الخاصة" [15].

 

ونعتقد أن فساد القياس في مذهب أهل البيت أشهر من أن يحتاج إلى بيان أو إقامه برهان..

 

 

 

7 ـ سيرة العقلاء تشرع للإنسان المسلم أحكامه.

8 ـ بناء العقلاء يشرع للمسلم أحكامه.

ويقول البعض:

 

"لا نتحدث عن منهج جديد، فالمنهج هو المنهج، وهو الإنطلاق من كتاب الله، وسنة نبيه (ص)، وما استوحى الفقهاء والأصوليون منهما في عملية تقعيد الفقه أو ما انفتح فيه الفقهاء على بناء العقلاء وسيرة العقلاء، باعتبارهما المصدرين اللذين لا يشرعان للمسلم أحكامه فحسب، ولكنهما قد يطلان على جانب من جوانب السنة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره" [16].

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

ظاهر العبارة: أن بناء العقلاء وسيرتهم لهما مهمتان: الأولى، أنهما يشرعان للمسلم أحكامه، والثانية: أنهما قد يطلان على قول المعصوم وفعله وتقريره.

 

فهو إذن يرى لبناء ولسيرة العقلاء حق التشريع، استقلالا، تارة، وبإمضاء المعصوم أخرى بقرينة قوله الأخير: قد يطلان على جانب.. الخ.

 

ولكننا نلاحظ:

 

إنه قد أسهب في باقي كلامه الذي لم ننقله في الحديث عن الشق الثاني، وربّما أمكنه بذلك أن يدّعي أن هذه كانت زلة لسان، لا تعبيرا صادقا عمّا في الجنان؟!

 

9 ـ ربط الناس بالعقل أغنى عن النبوّة.

ويقول البعض في جواب على سؤال:

 

لماذا تتغير النبوّات، ولماذا اختتمت بالإسلام بالمعنى المصطلح؟

 

الجواب:

 

"انطلقت النبوات من خلال حاجات الناس إلى خطوطها ومفرداتها العامّة، ثمّ تطورت حاجات الناس فانطلقت نبوّات جديدة حتى كان الإسلام الذي ربط الناس بالعقل، وبالخطوط العامّة ليستطيعوا من خلاله أن يطوّروا حياتهم بحيث لا حاجة بعد ذلك إلى نبوّة جديدة" [17].

 

 

 

10 ـ النصوص المتوافقة مع ذهنيات المجتمعات القديمة هي سبب الخطأ.

ونجده يصف النصوص الإسلامية التي كان الفقهاء يتحركون في دائرتها بأنها متوافقة مع الذهنية الإجتماعية التي كانت سائدة في العصور السابقة ويعتبر ذلك هو السبب في عدم كون المعرفة على هذه الدرجة من الصحة، فهو يقول معللا سبب حصول المعرفة الأصح بالنسبة للنظرة الإسلامية حول المرأة:

 

"ربما يعود ذلك إلى الآفاق الجديدة التي فتحت في العالم، الأمر الذي جعل العلماء يفكرون في الجانب الآخر من الصورة، وقد كانوا مستغرقين في الجانب الوحيد الذي عاشوه في دائرة مجتمعهم وفي دائرة النصوص المتوافقة مع الذهنية الإجتماعية السائدة"[18].

 

 

 

11 ـ الحكم الشرعي يتغير تبعاً لتغير الاجتهاد.

يقول البعض:

 

".. إنه يعني الرأي المستمدّ من القواعد الشرعية في فهم النصوص الدينية في الكتاب والسنة.. فيما يفهمه المجتهد منها وفيما يستوحيه مما ينسجم مع أجواء النص وإيحاءاته فلا يمكن له أن يعطي رأياً في مقابل النص، أو يضع حكماً لم يرد به نص، ولم تفرضه قاعدة فقهية مستمدة من الكتاب والسنة.. حتى العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً من أدلة الأحكام.. لا بد له أن يتحرك في نطاق الأفكار القطعية التي لايقترب إليها الشك فيما يستفيده من ملاكات الأحكام.. فلا مكان للحكم العقلي الظني في ذلك من قريب ومن بعيد..

 

إن الاجتهاد الإسلامي.. هو اجتهاد في فهم الإسلام.. وليس اجتهاداً ذاتياً يستمد أفكاره من حركة الواقع.. ولا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر الإجتهاد.. ولكن تغير الاجتهاد لا يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج بل من خلال اكتشاف خطأ في الإجتهاد السابق.. على أساس خلل في فهم النص أو تطبيقه.. أو في قاعدة شرعية هنا.. ربما لا يكون لها مجال في هذا المورد أو ذاك لأن قاعدة شرعية أخرى.. هي الأولى في هذا الموضع.. أو ذاك.. وعلى ضوء ذلك.. يبقى الإجتهاد متحركاً، في نطاق حدود علمية معينة تحفظه عن الإنحراف وتصونه عن الزلل.. وتحركه في اتجاه الاكتشاف الأمين للحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه، أو أوحى به إلى نبيه.. فلا مجال لتطوير الإسلام من خلال الإجتهاد.. بل كل ما هناك.. أن نجتهد في دراسة مدى انسجام خطوات تطور الإسلام في التشريع، أو ابتعادها عنه.. لنحدد موقفنا من ذلك على هذا الأساس.. لأن حكم الله هو القاعدة للحياة، وليست القضية بالعكس"[19].

 

وقفة قصيرة:

إن نظرية التصويب في الإجتهاد التي يقول بها جمهور علماء السنة مرفوضة عند الشيعة، ويرونها نظرية باطلة من الأساس.

 

والمُراجع لكلمات القائلين بالتصويب الباطل يجدهم فريقين:

 

أحدهما:

 

يقول: إنه ليس في الواقعة حكم أصلاً، بل الله ينشئ الحكم وفق اجتهاد المجتهد وظنه، فيتعدّد الحق بتعدد المجتهدين.

 

الثاني:

 

يرى: أن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وهو الذي وافق اجتهاده الحكم الواقعي الذي جعله الله، فلله سبحانه وتعالى حكم واقعي، لكن إذا أدى ظن المجتهد إلى حكم مخالف له فإن الله سبحانه تعالى ينشئ حكماً على وفق ظنه واجتهاده، فيصير المجتهد بذلك مصيباً، وإن كان قد أخطأ الحكم الواقعي.

 

ومن تصريحاتهم الدالة على ما يذهبون إليه من التصويب:

 

1 ـ قول الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة: (كلهم في أحكامه ذوو اجتهاد ـ أي صواب ـ وكلهم أكفاء).

 

2 ـ وعن العنبري في أشهر الروايتين عنه: (إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله، وأما الكفرة فلا يصوبون)[20].

 

3 ـ وقال الشوكاني: (ذهب جمع جمّ إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها، (أي في المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها) حق، وأن كل واحد منهم مصيب، وحكاه الماوردي والروياني عن الأكثرين، قال الماوردي: (وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة).

 

إلى أن قال: (وقال جماعة منهم أبو يوسف: إن كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق مع واحد، وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله).

 

إلى أن قال: (فمن قال: كل مجتهد يصيب، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ) [21].

 

4 ـ وقال حول حجية الإجماع: (فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً، ولا يلزم من كون الشيء حقاً وجوب اتباعه ؛ كما قالوا: إن كل مجتهد مصيب، ولا يجب على المجتهد الآخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه) [22].

 

5 ـ وقال الأسنوي حول الإجتهاد في الواقعة التي لا نص عليها: فيها قولان:

 

أحدهما: أنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين بل حكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد. وهؤلاء القائلون بأن كل مجتهد مصيب، وهم الأشعري، والقاضي وجمهور المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة الخ..)[23].

 

ونقل عن الأئمة الأربعة ـ ومنهم الشافعي ـ التخطئة والتصويب فراجع [24].

 

وحين يقول هذا البعض: لا مانع من أن يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغيُّر الاجتهاد، مع تصريحه بوجود حكم واقعي أخطأه من أخطأه وأصابه من أصابه فإن كلامه يحتمل أمرين:

 

أحدهما: أن يكون قد قال بمقولة الفريق الثاني من المصوِّبة، من غير الأمامية. وهي أن كل مجتهد مصيب لكن الحق مع واحد.

 

الثاني: أن يكون مراده من الحكم الشرعي الذي يتبدل بتبدل الاجتهاد هو الحكم الشرعي الظاهري كما تقول به الأمامية، لكن إطلاق عبارته، وما عرفناه عنه من جنوحه إلى الأخذ بآراء غير الأمامية، مثل عمله بالقياس، وبأخبار العامة، وبالاستحسان، وبالمصالح المرسلة وغير ذلك من مناهج غير الشيعة الأمامية، كما اتضح في هذا القسم ـ نعم ـ إن ذلك كله ـ يجعلنا غير قادرين على تأويل كلامه بما يوافق ما عليه الشيعة الأمامية، أو فريق منهم، لأن كلام أي شخص إنما يلتمس له التأويل، أو يحمل على خصوص أحد المعاني حينما يكون قد عرف عن ذلك الشخص أنه يلتزم نهج أسلافه في آرائه، وفي مناهجه ومقولاته، حيث يكون ذلك قرينة عقلية ومنطقية على إرادته هذا المعنى بخصوصه، أما حين يظهر في موارد كثيرة ومتنوعة في مجالاتها وخصوصياتها جنوحه إلى مقولات الآخرين، فان هذا يصلح لأن يكون قرينة على تحديد المعنى المراد من كلامه هذا، وهو الأمر الذي دعانا إلى أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذا النص الذي يومئ إلى مقولة التصويب، ويظن انطباقه عليها.

 

 

 

12 ـ كل التراث الفقهي والكلامي والفلسفي فكر بشري.

قد تقدّم أن البعض يعتبر:

 

أن كل ما جاءنا من تراث فقهي، وكلامي، وفلسفي، وكل الفكر الإسلامي ـ باستثناء البديهيات ـ هو فكر بشري وليس فكرا إلهيّا على حدّ تعبيره.. [25].

 

فإذا كانت النظرة هي هذه، فإن من الطبيعي أن يكون التعامل في مجال الإستدلال الفقهي منسجما مع هذه النظرة، وأن تصبح أدوات الإستنباط والإستنتاج تحمل معالم هذا التوجه، وسمات هذا الفهم للقضية برمّتها.

 

 

 

13 ـ لا توجد حقيقة فقهية مطلقة.

14 ـ لا توجد حقيقة كلامية مطلقة.

15 ـ كل جهد بشري هو نسبي.

يقول البعض:

 

".. بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، الذي نعتبر أن فهمه للدين ليس بشرياً. وفي ظل غياب المعصوم أيضاً فنحن نعتقد: أن الاجتهاد في الدين سواء في فهم النص، أو في استيحائه، أو في تقييد القاعدة هو أمر ممكن للمتأخرين أن يناقشوا القدماء فيه، كما كان القدماء يناقشون بعضهم بعضاً.

 

ليس هناك حقيقة فقهية مطلقة. وليس هناك حقيقة كلامية مطلقة. فكل جهد بشري هو نسبي في النهاية".

 

وقفة قصيرة:

ونسجل هنا ما يلي:

 

1 ـ إن كلام هذا البعض معناه: أن ثمة مجالاً للتغيير والتبديل في الاعتقادات.. فنعتقد مثلاً: أن الله تعالى في جهة، وأن له مكاناً مثلاً.. وبالأمكان الاستغناء عن كثير من العقائد، فتقل مفرداتها يوماً، وتزيد في يوم آخر، حسب تكثر الآراء والاجتهادات. وربما ينجر هذا الأمر إلى الأمامة فيكون الأئمة خمسة عشر أو تسعة، بدلاً من اثني عشر.. ويمكن أن يكون الأمام معصوماً اليوم، فاقداً للعصمة غداً.. وما إلى ذلك.

 

فإن ذلك كله وسواه من مفردات علم الكلام ليس حقيقة مطلقة.. وإنما هو من الأمور النسبية التي تختلف وتتفاوت حسب الاجتهادات في العصور المختلفة، من مجتهد لآخر..

 

وكل ذلك داخل في مفردات الحقيقة التي هي نسبية عنده.

 

وهذا أمر في غاية الخطورة على الدين، وعلى العقيدة.. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.

 

2 ـ وكذلك الحال بالنسبة لمقولته الأخرى حول: أنه ليس هناك حقيقة فقهية مطلقة. فهل يمكن أن يأتي يوم تصير فيه صلاة الصبح ركعة واحدة، وصلاة الظهر ركعتين، أو نصلي فيه يوم الجمعة فقط وتسقط الصلاة في سائر الأيام؟

 

أو يحل فيه اللواط والسحاق؛ باعتبارهما مثل استمناء الرجل والمرأة على حد تعبير هذا البعض؟!

 

أو يحل فيه شرب الخمر، إذا لم يصل إلى حد الإسكار، أو يحل فيه مصافحة الرجل للمرأة حيث لا تكون هناك ريبة؟! وغير ذلك..

 

3 ـ وهل يمكن أن يأتي يوم تسقط فيه القواعد والأصول عن الصلاحية، فنستبدل فيه قاعدة بقاعدة، ونعتمد على القياس، وعلى الاستحسان، وعلى الرأي؟! إن ذلك ليس ببعيد، فها نحن نرى هذا الأمر يظهر بكل وضوح في كتب وتصريحات هذا البعض. بل أصبحنا نشاهد آثاره في مختلف ما يصدّره من آراء، توصف بأنها فتاوي!!.

 

4 ـ ما معنى إطلاق التعميم بأن كل جهد بشري هو نسبي في النهاية. فهل إذا قام البشر بعَدِّ أوراق كتاب (وهي مائة) يكون ذلك نسبياً بحيث تكون مائة عند شخص وتسعين عند آخر، باعتبار أن عدّها جهد بشري؟!.

 

وهل يصح أن يقال: إن القول بوحدة الخالق أمر نسبي، فقد يقول مجتهد إنه واحد، ويقول الآخر: إنه أكثر من واحد؟!

 

وحيث يبذل جهد لإثبات نبوة النبي، فهل تكون هذه النبوة نسبية، وكيف؟!

 

وهل استنباط حرمة الكذب وكذلك حرمة الزنا يجعل هذه الحرمة نسبية؟! وكيف؟! وكذلك الحال بالنسبة لاستنباط حرمة الخيانة.. وحرمة الظلم، وحرمة المخدرات؟! وما إلى ذلك..

 

 

 

16 ـ المشكلة أن الكثير من الفقهاء يقولون: لا دليل يدلنا على مقاصد الشريعة.

17 ـ المسألة ترتبط بالمصداق الذي يحقق المفهوم، والثبوت.

18 ـ ربما أضعنا بسبب ذلك الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي..

19 ـ ضـياع المقاصد هي فتاوي يكون الحكم الشرعي فيها جسداً بلا روح.

20 ـ حفظ المقاصد يحتاج إلى دقة في الاجتهاد.

سئل البعض:

 

ما المقصود بمقاصد الشريعة، وهل إغفالها كشرط للإجتهاد أدى إلى ما يسمى بالحيل الشرعية؟!

 

وهل هي أساساً شرط للاجتهاد؟.

 

فأجاب:

 

"المقاصد (كذا) الشريعة تمثل منطلقات الشرع في أحكامه، أو ما يسمى بعلل التشريع أو ملاكاته. وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحققه من أهداف في حياته، من خلال التزامه بهذا الحكم الشرعي أو ذاك.

 

كما نلاحظ مثلاً أن الله تبارك وتعالى يحدثنا عن الصلاة بقوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت/45) فالنهي عن الفحشاء والمنكر هو من مقاصد تشريع الصلاة، ولذا ورد في الحديث الشريف: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً.

 

كما أن مقصد الصوم هو التقوى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة/183).

 

وهكذا، فمقاصد الشريعة هي الأهداف التي تستهدفها الشريعة، من خلال التشريع. ولكن المشكلة في البحث الفقهي الاجتهادي هي أن الكثير من الفقهاء يقولون بأنه ليست عندنا أدلة حاسمة قاطعة تدلنا على مقاصد الشريعة بشكل صريح، على نحو يمكننا من تحديد علاقة المقاصد بالتشريع كعلاقة العلة بالمعلول، ولكـننا نظـن ذلك {وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (النجم/28).

 

ولذلك فعلينا أن نأخذ بالشريعة حتى لو لم تحقق ما نظن أنه المقاصد؛ لأن ما نظن أنه كذلك قد لا يكون هو المقصد الحقيقي.

 

وهذا يعني أن المسألة ترتبط بالمصداق التي يحقق المفهوم والثبوت، فلا طريق لنا إلى إثبات مقاصد الشريعة على أنها بمثابة العلل والأسباب للشريعة.

 

وهذه هي المشكلة في هذا المجال. ولذلك ربما أضعنا الكثير من مقاصد الشريعة في كثير من الفتاوي التي يشعر الإنسان معها بأن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.

 

ومن الطبيعي أن هذه الأمور تحتاج إلى دقة في الاجتهاد.."[26].

 

وقفة قصيرة:

ونقول: إن لنا على كلامه العديد من الملاحظات:

 

1 ـ إننا نجد في كلام هذا البعض ما يلي:

 

ألف: إنه قد اعتبر قول الكثير من الفقهاء، بأن لا دليل يدلنا على مقاصد الشريعة بشكل صريح، بحيث تكون تلك المقاصد هي علة التشريع ـ اعتبره ـ هو المشكلة التي يواجهها..

 

ب: إنه يقول:

 

"إن هذه المشكلة هي السبب ربما في إضاعة الكثير من مقاصد الشريعة، في كثير من الفتاوي.."

 

ج: إن الفتاوي التي ضيّعت فيها مقاصد الشريعة يشعر الإنسان فيها أن الحكم الشرعي يمثل جسداً بلا روح.

 

د: إن هذه الأمور، تحتاج إلى دقّة في الاجتهاد.

 

2 ـ إن الأحاديث الذي ذكرت بعض العلل للأحكام، على نحوين:

 

أحدهما: ما ثبت أنه علة للحكم بصورة قطعية، استناداً إلى تصريح المعصوم بذلك.. أو لأن العلة قد جعلت عنواناً لموضوع الحكم أحياناً.. كالإسكار الذي هو علة لتحريم الخمر. فإن قوله عليه السلام: كل مسكر حرام، يظهر بجلاء أن الإسكار الذي علل به تحريم الخمر علة حقيقية لهذا التحريم، ولذلك دار حكم التحريم مدارها وجوداً وعدماً، حيث جعل المسكر موضوعاً للحكم بالحرمة، وذلك ظاهر.

 

الثاني: ما جاء على سبيل بيان فائدة مهمة من فوائد التشريع، التي يريد الشارع صونها وحفظها، فظهر في لسان الدليل بصورة التعليل للحكم، وإن لم يكن علة تامة للتشريع وذلك مثل عدم اختلاط المياه في ما يرتبط بالعدّة، فليس ذلك هو علة للتشريع، وإنما هو من حكمه وفوائده المهمة، ولذلك تجب العدّة حتى في صورة استئصال الرحم، أو في صورة الوطء في الدبر..

 

وكما أن الشارع قد استعمل أسلوب التعليل في كلا الموردين ليظهر أهمية تلك الفوائد عنده واهتمامه بحفظها وصونها، لم يمكن الإطمئنان في مقام الاستظهار والاستدلال إلى أن ما يذكر في صورة بيان السبب ـ هل هو علة حقيقية؟ أم هو من لوازم العلة، ومن الفوائد المهمة التي يريد الشارع أن يحفظها ويصونها؟!.

 

3 ـ وقد أدرك الفقهاء، من خلال ذلك: أنه حين يكون المقصود هو إعطاء الضابطة، وبيان علل التشريع الواقعية التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، فإن الشارع ملتزم بإزاحة العلة في بيان مقاصده، ولن يترك الأمر بدون استقصاء البيان الكافي والشافي.

 

وقد ظهر من خلال ممارسة الأدلة أن ما أراد الشارع بيان علله الواقعية قليل جداً، بل هو أقل القليل..

 

4 ـ إن الصلاة وإن كانت قد شرّعت من أجل أن تنهى عن الفحشاء، والمنكر.. وقد اعتبر البعض هذا النهي لها من مقاصد الشريعة. ولكن من الواضح أن ذلك ليس هو علةً التشريع بحيث يدور مدارها وجوداً وعدماً.. ولأجل ذلك لا يحكمون ببطلان صلاة لم تنهَ صاحبها عن الفحشاء والمنكر.. ولا يوجبون عليه إعادتها ولا قضاءها.

 

وكذلك الصوم، فإنهم لا يحكمون ببطلانه إن لم يحقق التقوى ولا يوجبون إعادته ولا قضاءه..

 

ويلاحظ هنا ما في التعبير بكلمة (لعلّ) في قوله تعالى: {لعلكم تتّقون} حيث دل على رجاء حصول ذلك.. مما يشير إلى أن ذلك هو فائدة متوخّاة من التشريع، وإن لم تكن هي تمام عناصر علته..

 

ومهما يكن من أمر، فقد قلنا: إنه لو كانت هذه الفائدة وتلك من المقاصد هي تلك التي تمنح مراعاتها توسعاً في الفتوى أو تقييداً في الأحكام.. لوجب أن يكون لها تأثير في البطلان والصحة، أو في الإعادة والقضاء، أو في تحمل أعباء معينة من أي نوع فرضت.. مع أن الأمر ليس كذلك، مما يدل على أنها ليست من المقاصد التي توجب توسعاً في الفتوى، أو تقييداً في الأحكام.

 

5 ـ وبعد.. فإن هناك مقاصد ـ كما في التقوى في الصوم، ونهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ـ تهدف إلى سوق الإنسان نحو مراتب ومقامات في الكمال قد تتجاوز ما يسعى إليه الكثيرون من الناس الذين رضوا بأن يخرجوا أنفسهم من منطقة الخطر، ولا يريدون أكثر من ذلك..

 

6 ـ وأخيراً.. نقول:

 

ربما يؤدي ما يسعى إليه البعض من فتح باب الأخذ بمقاصد الشريعة، واعتبارها من آليات التشريع.. إلى الوقوع في فخ خطير، وذلك بسبب شيوع العمل بالإستحسان، وبالرأي، وبغير ذلك من ظنون لا قيمة لها في الشرع الحنيف. ويكون الغطاء لذلك هو ادعاء إدراك مقاصد الشريعة، والعمل على نيلها، وسوق الناس إليها..

 

ولن يجدي نفعاً إطلاق شعارات برّاقة ورنانة، بأن هذه الأمور تحتاج إلى دقة في الاجتهاد، أو ما إلى ذلك.

 

كما لا يفيد التباكي على مقاصد الشريعة، حين تصبح الفتاوى فاقدة لها..

 

ولن يجدي أيضاً وصف الحكم الشرعي بأنه يمثل جسداً بلا روح.

 

إن التربية الروحية هي التي تهيئ الإنسان الذي يتصدى لامتثال الحكم الشرعي لأن ينفخ فيه الروح من خلال إقباله على الله فيه.. وليس بإعطاء الحرية للناس من خلال شعار حفظ مقاصد للشريعة ليعبثوا بالشريعة حسب آرائهم واستحساناتهم.

 

 

 

21 ـ ما أخذ من القرآن والسنة والقياس شريعة.

22 ـ اجتهاد الرأي شريعة.

23 ـ الاستحسان شريعة.

24 ـ المصالح المرسلة شريعة.

25 ـ سدّ الذرائع شريعة.

يقول البعض:

 

"الشريعة هي: كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من أحاديث النبي، أو أهل بيته صلوات الله تعالى عليه وعليهم، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة، ويقابل ذلك مصطلح البدعة" [27].

 

وقفة قصيرة:

1 ـ إن هذا النص قد أوضح بما لا مجال معه للشك أن هذا البعض مصر على العمل بالقياس، وأضرابه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة.. وغير ذلك..

 

فإن هذه الأمور هي مما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام..

 

2 ـ إن الملاحظ هو: أن هذا البعض، قد أثبت هذا النص في الطبعة الأولى، ولكنه حذفه من الطبعة الثانية. ولم ينبه على خطأه فيه، مع تصريحه بالتزامه بكل أفكاره منذ الثمانينات.. أو أنها باقية على ما هي عليه لم تتغير ولم تتبدل.

 

وأما سبب حذفه لهذه العبارة، فلعله إحساسه بتداعيات هذا التصريح، من خلال ردّات الفعل التي لمسها لدى أهل العلم.. حيث اعتبروا ذلك من جملة الأدلة الدامغة على سعيه لاقتحام المسلمات في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وجرّ الناس إلى ما عليه أهل المذاهب الأخرى.

 

3 ـ وظهر من ملاحظة جملة من مقولاته الكثيرة جداً، والتي تعدّ بالمئات والألوف: أنه حين قال: أسعى لاقتحام المسلمات، إنما كان يعني بذلك مسلمات مذهب التشيع ـ مذهب أهل البيت (عليهم السلام).. دون سواها..

 

4 ـ إن هذا البعض مهما حاول أن يعتذر عن مقولته السابقة، وحتى حين حذفها من الطبعة الثانية.. فإنه قد أثبت من خلال تصريحاته الأخرى، كتصريحه الذي أورده في كتاب تأملات في آفاق الأمام الكاظم عليه السلام.. أنه ملتزم بهذا الأمر. لا يبغي له بدلا، ولا عنه حولاً.

 

فحذفه للعبارة المذكورة من الطبعة الثانية، لا يدل على أن رأيه قد تبدل في هذا الأمر، إذ إنه لم يصرح بذلك ولا أشار إلى خطأ هذه الفكرة. لا من قريب ولا من بعيد مما يشير إلى أن هذا الحذف كان مصلحياً لا عن قناعة بفساد رأي.

 

ويدل على ذلك ما سنقوله تحت الرقم التالي.

 

5 ـ إنه حين واجه الاعتراضات من هنا وهناك قد حاول التخلص من تبعات هذا التصريح، فأطلق تأويلاً عجيباً وغريباً لكلامه هذا.. حين ادعى:

 

"أنه لا يقصد في كلامه هذا الشريعة الحقة، بل ما يطلق عليه أنه الشريعة.. وإن كان قد يقع الخطأ والصواب، كما هو الحال في اجتهادات المجتهدين حين تختلف فيما بينها.." [28].

 

ومن الواضح: أنه توجيه لا يصح، لأمور عديدة:

 

فأولاً: تقدم أن عمله ـ في مجال الفقه يظهر أنه ملتزم بالقياس، وبغيره، وإن كان لا يسمي الأمور بأسمائها الحقيقية..

 

ثانياً: إنه حين يقدّم كتابه المشتمل على المسائل الفقهية لمقلّديه.. إنما يحدثهم عن أمور تعنيهم، وتفيدهم في مجال عملهم.. ولا يتحدث لهم عما تقوله سائر المذاهب..

 

ولو فرضنا وجود مبرر لذكر قول مذهب ما، فإنه لا مبرر لاستخدام مصطلحات خاصة لا يخاطب بها إلا أهل الاستنباط. وليس دائماً أيضاً، وإنما في خصوص حالات معينة تفرض التعميم لآراء سائر المذاهب..

 

ثالثاً: إن سياق كلام هذا البعض في كتابه ذاك الذي ضمّنه هذا النص يتجه نحو الحديث عن الشريعة الحقة، التي يكون المكلف معذوراً في اتباعها، والالتزام بالأحكام الشرعية الواردة فيها، والتي استنبطها مجتهدوها.. ويُفْرَضُ على مقلديهم ـ من خلال تعاليمها ـ الرجوع فيها إليهم، وأخذها منهم.

 

وفي كلامه قرائن كثيرة على ذلك. فإن أول عبارة قالها في ذلك الكتاب هي:

 

"إن الشريعة المطهرة قد بينت أحكام أفعال المسلم، وجعلتها موزعة على خمسة أحكام، هي الواجب والحرام.. إلى أن قال: وهذا المبحث هو المتكفل بتحديد السبل التي بها يتعرف على ما كلفه الله تعالى به، وسنه له، وتفصيله كما يلي: الخ.."

 

ثم بدأ بالحديث عن الشريعة، وعن الأحكام الخمسة..

 

فكلامه صريح في أنه يتحدث عن الشريعة الحقة التي حاول أيضاً تحديد السبل إليها، ليتعرف المكلف على ما كلفه الله به وسنَّه له. ولا يتحدث عن المذاهب التي يعتقد المكلّف ببطلانها.. ولا عن السبل التي تعتمدها تلك المذاهب..

 

ورابعاً: إن مصطلح الشريعة الحقة إنما يعني ما يجب العمل به على المكلف ـ من خلال إلزام الشريعة به ـ حتى إذا أصاب الواقع فإنه يتنجّز في حقه، وإذا أخطأه يكون معذوراً فيه، على أساس تعذير الشريعة نفسها له..

 

فالأمر بالنسبة إلى المكلف هو أن الشريعة قد ألزمته بالأخذ بقول المجتهد.. فقول المجتهد هو الشريعة العملية بالنسبة إليه، وهو حجة في حقه..مع علمه بأن المجتهد قد يخطئ الحكم الواقعي الإلهي..

 

وأما المذاهب الأخرى فيراها من الباطل، ولا يصح مخاطبته بها، في ذات الوقت التي يُدْعى فيها إلى التقليد..

 


الفصل الثاني

 

الغاية تنظف الوسيلة وقاعدة التزاحم


26 ـ قاعدة التزاحم هي المصالح المرسلة عند السنة.

وهو يعتبر قاعدة المصالح المرسلة التي يستند إليها أهل السنة في اجتهاداتهم، هي نفس قاعدة التزاحم في مدرسة أهل البيت (ع) ! مع أن الفرق بينهما كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.

 

فهو يقول:

 

"هناك قاعدة في العلم الأصولي تسمى بقاعدة (التزاحم) في المذهب الشيعي الأمامي، وتسمى بـ (المصالح المرسلة) في مذهب المسلمين السنة"[29].

 

ثم يضرب مثالا لهذه القاعدة بالغريق الذي يتوقف إنقاذه على أن تكسر بابا، أو تهدم غرفة للغير[30].

 

ولا يفوتنا التذكير بأن اعتماده لقاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) قد كان مبتنيا عنده على قاعدة التزاحم أيضا.

 

وقال وهو يتحدث عن ولاية الفقيه، وبعد أن قدّم آية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي رحمه الله، كنموذج لمن يقول بولاية الفقيه الخاصّة، ثم يتصدّى لهذا الأمر حينما واجهته التطورات في أيام ما عرف باسم (الإنتفاضة) في العراق:

 

"ولذلك فالذين يقولون بالولاية الخاصّة عندما تجابههم التطورات، فانهم تلقائيا يقولون بالولاية العامة، ولكن بالعنوان الثانوي، أو المصالح المرسلة، أو ما شاكل..".

 

ولا نورد قوله هذا كشاهد على ما ذكرناه، ولكننا أحببنا: أن نسأل من أين عرف أنهم استندوا في قولهم بالولاية العامّة إلى المصالح المرسلة؟ وهل يمكن له أن يذكر لنا موردا صرحوا فيه بذلك..؟!

 

وهو مع ذلك كله يقول: "إنه يلتزم بالمنهج الجواهري في الإستنباط"[31].

 

 

 

27 ـ المحرم ما حرّمه القرآن والحلال ما أحله القرآن.

28 ـ يجب موافقة الحديث للقرآن في حجم دلالته.

وقيل له: ذكرتم أن المحرم هو ما حرم في القرآن، وكذلك الحلال هو ما أحل في القرآن..

 

فأجاب:

 

"ما ذكرت ذلك، قلت: هناك بعض العمومات التي تدل على حصر المحرمات في مورد معين، وهناك أشياء واردة في السنّة، فعلينا أن نكتشف القاعدة التي نستطيع فيها أن نوفق بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة" [32].

 

فهل إذا لم يكتشف القاعدة سيرفض ما جاء في السنّة؟!.

 

 

 

29 ـ ما من عام إلا وقد خص من موارد مسألة التزاحم.

30 ـ الغاية الكبرى تبرّر الوسيلة المحرّمة.

31 ـ الغاية تجمّد الوسيلة المحرمة.

32 ـ الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية.

33 ـ الأخلاق في الإسلام تمثل قيمة سلبية متغيرة تبعاً للعناوين الثانوية.

34 ـ وضع يوسف صواع الملك في رحل أخيه يؤكد: إن الغاية تبرّر الوسيلة.

35 ـ إنما تبرّر الغاية الوسيلة لأنها تنظفها وتطهّرها.

36 ـ قاعدة الغاية تبرّر وتنظف وتطهّر الوسيلة ـ هي مسألة التزاحم.

يقول البعض:

 

"إن القاعدة العقلية التي أقرها الفكر الإسلامي الفقهي، انطلاقاً من آيات الله وسنة رسوله، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد. إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب، فمعنى ذلك أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية، يفقد معناه في حدود ذلك، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال.

 

وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام فيما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية.

 

فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان، وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر، فإن من الممكن ان نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلامي، لكن لا يمكن أن تتقدم على سلامة الإسلام نفسه. وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول، بحالة (التزاحم بين الحكمين).

 

وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألٍة فقهيةٍ في نطاق المحرمات الشرعية، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها، وقد تعددت نماذجها حتى أصبحت بمثابة (القاعدة الثانوية الاستثنائية)؛ حتى قال الأصوليون: (ما من عام إلا وقد خُصَّ)، مما يوحي بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام.

 

وهذا ما نراه في الغيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالى: {لا يُحِبُ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ القَولِ إِلا من ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سِمَيعاً عَلِيماً} (النساء/148) فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسّسُوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه؟! واتقوا الله إن الله تواب رحيم} (الحجرات/12) فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمه بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم؛ كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه؛ وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه، وإبعاد الناس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ الناس من أضراره؛ وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين، ليمنعوهم من الهجوم عليهم، خوفاً من تأدية ذلك إلى قتل إخوانهم، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر، فأجاز الإسلام قتل الأسرى المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع على ذلك؛ وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد الشرعية.

 

وهذا باب ينفتح على أكثر من قضية من قضايا الناس العامة والخاصة، التي قد تؤكد الفكرة القائلة بأن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحولت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية، التي يمثل إظهارها خطراً على السلامة العامة؛ فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى؛ ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير، لأن الكذب يمثل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخط العام.

 

لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية، لأن المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من الحالة الاقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عام، ولكنها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضى بدرجة فعلية.

 

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية، بل تمثل قيمة سلبية قابلة للتغير في حركتها في الواقع الإنساني، تبعاً للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها.

 

ولا بد في هذه الحالة من التدقيق كثيراً في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام، لأن المسألة تحتاج إلى وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي، وفي الواقع الذي يتحرك فيه، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية على حركة الإنسان في الحياة."[33].

 

ويقول البعض أيضاً، وهو يفسر وضع صواع الملك في رحال إخوة يوسف (عليه السلام)، {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون}.

 

"وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهمية، لأنها بذلك تنظّف الوسيلة، وتطهّرها. وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتهامهم بالسرقة، وفوجئ هؤلاء الشباب"[34].

 

ثم يوجَّه إلى هذا البعض سؤال يقول:

 

ـ ما هو المراد من قولكم الغاية تنظّف الوسيلة؟

 

فأجاب:

 

"إنَّ الغاية تبرر الوسيلة مبدأ مرفوض من قبلنا؛ لأن الغاية الشخصية التي تبرّر هدم كرامة هذا وهتك حرمة ذاك غير جائزة إطلاقاً. ولكن عندما يكون الهدف كبيراً وله أهمية عند الله، كما لو فرضنا بأن حريقاً شبَّ في بناية كبيرة، وتوقف إنقاذ حياة الناس في البناية أن نهدم كثيراً من البناء ونتلف الأثاث، فهذا جائز لأن الغاية تبرّر الوسيلة، ولأن الغاية هي هنا إنقاذ حياة الناس الموجودين أو إنقاذ الجيران، فذلك أهمّ من البناية.

 

نحن نقول إن (الغاية تنظف الوسيلة) والفقهاء يضربون في ذلك مثلاً، فلو فرضنا أن شخصاً يغرق، والطريق إلى النهر أرض مغصوبة، وصاحبها لا يقبل أن نجتازها إلى النهر.. وعندنا حكم شرعي يقول بحرمة المرور في الأرض المغصوبة، فهنا يجب عليك أن تنجي الغريق من جهة، ويحرم عليك أن تمر بالأرض المغصوبة من جهة، والحكمان لا يمكن العمل بهما معاً. هنا يقول الفقهاء بأن الغريق أهم وأن الحرام يتجمد عند ذلك لمصلحة الغاية الأهم.

 

ومن الأمور التي تمثل ذلك: (الكذب) فهو ليس حلالاً، ولكن لو توقف إنقاذ أخيك المؤمن على أن تكذب حينما تعرف بأن هناك ظالماً يريد أن يقبض عليه ليقتله أو ليحبسه، وأنت تعرف مكانه فهل تقول بسذاجة بأنّ الكذب حرام، والحديث عن الأمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إحلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل)!

 

ومن الأمور التي يذكرها فقهاء السنّة والشيعة: إذا كانت هناك حرب كما هي الحرب بيننا وبين إسرائيل بحيث يترتب عليها نتائج كبيرة، وقد اتخذ العدو من أسرى المسلمين دروعاً بشرية، فهنا يجوز لك قتلهم من أجل القضية الكبرى إذا كان الإنتصار يتوقف على ذلك..

 

من كل ذلك نخلص إلى أن الغاية الكبرى المهمة التي تتصل بقضايا المصير تنظِّف الوسيلة" [35].

 

وسئل البعض أيضاً:

 

وفقاً لرأيكم "الغاية تنظِّف الوسيلة" لو أنّ شخصاً يعمل في تهريب المخدرات ويقدم من الربح دعماً للعمل الإسلامي لرفع راية الحق، فهل يجوز له ذلك؟

 

فأجاب:

 

"هذا غير ما قلناه. لقد تحدثنا عن القضية التي تتوقف عليها الحياة، أما هذا المثل فإنه يشبه قول الشاعر:

 

كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها         لك الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي!!

 

لا تدعم العمل الإسلامي بهذه الطريقة، فالعمل الإسلامي الذي يتوقف على تهريب المخدرات وعلى بيع الخمور هل تراه يكون عملاً إسلامياً؟!" [36].

 

وقفة قصيرة:

1 ـ إننا قبل أن نسجل بعض تحفظاتنا على هذا المنحى الخطير، نودُّ التعبير عن رغبتنا الأكيدة والشديدة في أن لا يلجأ هذا البعض إلى نظريته في أن "الغاية تنظف الوسيلة" فيما نناقشه فيه من أمر الدين والعقيدة، وفي تعامله مع الناس.. ومع العلماء.. وفيما يطرحه في وسائل الإعلام التي تقع تحت اختياره، أو يوفّرها له محبّوه في داخل لبنان وخارجه.. سواء في ذلك المنابر، والمؤتمرات، والإذاعات، وأجهزة التلفزيون، أو الجرائد أو المجلات ـ حتى تلك المجلة الخلاعية التركية التي أجرت مقابلة معه، ونشرت صورته على صفحاتها، وهو يهدي صورته لمراسلها..

 

فإن اعتماده على نظريته هذه في هذا الأمر، لسوف يفقد كل أقواله ومواقفه مصداقيتها، ويفقد الحوار معه معناه، ومغزاه، وجدواه. وعلينا أن لا ننتظر أية نتائج إيجابية على مستوى التأكد من رجوعه إلى الصواب والتزامه به.

 

2 ـ إن هذا البعض قد خلط مسائل العام والخاص بمسائل التزاحم، وبمسائل اجتماع الأمر والنهي وغيرها، ونوضح ذلك في ضمن النقاط التالية:

 

الف: إننا لا نريد أن نناقش هذا البعض في صحة تعابيره وسلامتها حيث قال:

 

"إذا تعارض حكمان شرعيان، يأمرنا أحدهما بشيء، وينهانا الآخر عنه، ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً".

 

إلى أن قال:

 

"وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول بحالة التزاحم بين الحكمين".

 

فإن ظاهر كلامه: أن الأمر والنهي إذا تعلقا بشيء واحد فهو من موارد التزاحم.. مع أن التزاحم هو في موردٍ وجود حكمين يتعلق أحدهما بأمرٍ ويتعلق الآخر بأمر آخر، وتضيق قدرة المكلف عن الاتيان بهما معاً، فتلزمنا القاعدة العقلية بـالإتيان بأحدهما وهو الأهم، وترك الآخر..

 

ب: إننا لتوضيح خلط هذا البعض بين قاعدة التزاحم، وبين موارد العموم والخصوص، وموارد اجتماع الأمر والنهي نقول:

 

إن كان الأمر والنهي متوجهين إلى شيء واحد، وعنوانٍ فارد، فإنهما يكونان متكاذبين متعارضين، وذلك مثل: صلِّ. ولا تصِلّ.

 

وإن تعلّق الحكمان بعنوانين، كأن تعلق أحدهما بعنوان إزالة النجاسة عن المسجد، وتعلق الآخر بالصلاة وضاق الوقت عن امتثالهما معاً، فيقع التزاحم بينهما، ويقدم الأهم.

 

وأما إذا كان الحكمان من قبيل الأمر والنهي وقد تعلقا بعنوانين مختلفين، بأن تعلق الأمر بالصلاة، وتعلق النهي بالغصب، ففي مورد اجتماع الغصب مع الصلاة، وحيث لا بد من أدائها في الأرض المغصوبة، فهناك حالتان:

 

إحداهما: أن يكون العنوان المأخوذ في متعلق الأمر والنهي قد لوحظ فانياً في مصاديقه شاملاً لها بما لها من كثرات ومميزات، فهو في حكم النافي لأي حكم آخر، فإذا تصادق مع عنوان آخر في مورد، فإنه يكون نافياً بنحو الدلالة الإلتزامية لحكم ذلك العنوان في ذلك المورد، ويقع التعارض بينه وبين حكم ذاك في مقام الجعل والتشريع لأنهما يتكاذبان في موضع الالتقاء في دلالتهما الإلتزامية. ومع التعارض يتساقط الدليلان في مورد الإلتقاء؛ فلابد من التماس دليل آخر.

 

الثانية: أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود للطبيعة، من دون نظر إلى أفرادها، فلا دلالة فيه على سعة العنوان للأفراد كلهم. بل المطلوب هو صرف وجود الطبيعة وامتثالها بفعل أي فرد من أفرادها، فلا تعارض بين الدليلين، ولا تكاذب بينهما، إذ لا يتعرض أحدهما للآخر في هذا الفرد أو ذاك، لأن المتعلق هو صرف الطبيعة لا الأفراد كما قلنا.

 

فإن صادف وابتلي المكلف باجتماع العنوانين في مورد، كما في الصلاة في الأرض المغصوبة.. ولم يكن له بدّ من الجمع بينهما، فيقع التزاحم بين التكليفين الفعليين ـ إذ الدليلان لم يتعارضا في مقام الجعل ـ بل المنافاة كانت بسبب ضيق قدرة المكلف عن التفريق بين الأمتثالين.

 

وبعد ما تقدم نقول:

 

إن هذا البعض قد خلط بين هذه الأمور، فهو تارة يتحدث عن تعلق الأمر والنهي في شيء واحد، ويجعله مورداً للتزاحم، مع أنه من موارد التعارض..

 

وتارة يطبق قاعدة التزاحم هذه على موارد العموم والخصوص، مع أن العموم والخصوص لا ربط له بمقام الأمتثال ولا بمقام الجعل، وإنما هو من موارد الجمع الدلالي بين دليلين متخالفين لفظاً وشكلاً، متوافقين مضموناً، فلا ربط لهما بمقام الجعل.. ليتساقط الدليلان في مورد التعارض، كما لا ربط له بمقام الأمتثال، وضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معاً. ليكون من موارد التزاحم ويختار الأهم منهما..

 

3 ـ إننا نعود إلى التأكيد على أن تطبيق قاعدة التزاحم على القول المعروف (ما من عام إلا وقد خص) لا معنى له.. فان التخصيص ليس فيه اختيار للأهم، كما هو الحال في باب التزاحم في مقام الأمتثال.. بل التخصيص هو جمع دلالي فقط.

 

وليس جعلاً لحكم مغاير لحكم العام في مورد الخاص.. بل هو استثناء ووضع حد يمنع العام من السريان والشمول في مقام الدلالة.

 

فإذا قيل مثلاً: أكرم العلماء إلا الفساق ـ في المخصص المتصل ـ أو قيل: أكرم العلماء.. ولا تكرم الفساق العلماء ـ في المخصص المنفصل، فانه ليس من قبيل اجتماع الأمر والنهي على مورد واحد.. بل من قبيل القول: بأن حكم وجوب الإكرام لا يشمل فسّاق العلماء.. لا أن فساق العلماء قد تعلق بهم وجوب الإكرام أولاً.. ثم تعلق بهم حرمة الإكرام ثانياً.. ثم قدمنا الأهم وهو الحرمة بسبب تزاحم المصالح العامة..، لا، ليس الأمر كذلك.

 

بل الخاص يريد أن يقول: إن المصلحة التي أوجبت الإكرام للعالم غير موجودة في العالم الفاسق، فشمول العموم للخاص ليس فيه مزاحمة لحكم الخاص، وإنما ذلك مجرد شمول أمر شكلي ولفظي وظاهري، سرعان ما يزول بمجرد النظر إلى الكلامين، والمقارنة بينهما. وذلك ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان..

 

4 ـ أضف إلى ذلك.. أن هذا البعض تارة يقول: إن المصالح العامة قد تزاحمت ـ في مورد تخصيص العموم..

 

وتارة أخرى يقول: إن قاعدة التزاحم كثيراً ما تكون متمثلةً في نطاق المحرمات الشرعية، حتى أصبحت بمثابة القاعدة الاستثنائية.. حيث تتزاحم المصلحة مع المفسدة، كما صرح به في أمثلته التي أوردها.. مثل قوله: إن مصلحة رفع الظلم اكبر من مفسدة الغيبة.

 

5 ـ بالنسبة للأمثلة التي ساقها نقول: إن ما ذكره من تقديم مصلحة رفع الظلم على مفسدة الغيبة على أنه من موارد التزاحم في مقام الأمتثال. ليس من صغريات قاعدة التزاحم، بل هو من باب تقديم الخاص على العام، فإن حرمة الغيبة تشمل مورد الخاص في نفس الخطاب الإلهي الموجه إلى المكلف.

 

بل قد يقال: إن هذا المثال لو كان من قبيل جلب المصلحة.. فانه لا يتناسب مع ما هو مقرر في محله، من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة..

 

وإن كنا نناقش في إطلاق وتعميم هذه القاعدة، حيث إن بعض المصالح أهم بكثير من بعض المفاسد، فلا يكون دفع المفسدة أولى من جلب تلك المصالح.

 

7 ـ إن هذا البعض قد قال هنا:

 

"إن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرّمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام".

 

ثم عمد إلى تطبيق هذا المبدأ على اتهام إخوة يوسف بالسرقة.

 

فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الكلام على إطلاقه. فإننا نخرج بنتيجة مفادها: أن علينا: أن نزني، أو أن نبيح الزنا إذا وجدنا أن الزنا أو إباحته للشباب سوف يزيد من إقبالهم على دين الإسلام، وهذا يزيد من قوة الإسلام في العالم. وبه يتم تحصينه في مقابل أعدائه، حيث إن كثرة المسلمين وقوتهم ودخول الشعب الأمريكي، والأوروبي في الإسلام سوف يمنع أعداءه من محاولة إبادة المسلمين!!!

 

أو يمكن إباحة وضع بعض البدع في الإسلام أو حذف بعض الأحكام منه إذا أوجب ذلك حفظ الإسلام والمسلمين!!!

 

بل ربما يصبح الإبتداع واجباً، والزنا والسرقة مما يقرب إلى الله، ما دام أن الغاية تنظف الوسيلة!!!

 

ومجرّد إنكاره ذلك في السؤال الموجه إليه أخيراً لا ينفع! إذ إن ما بنى كلامه عليه لا بد أن ينتهي إلى مثل هذه النتائج شاء أم أبى؛ فإن المهم هو القاعدة التي يؤسسها، وعليها يكون المدار وليس المهم هو إطلاق الشعار، إلا إذ أردنا أن نعتبر كلامه الأخير يمثل تراجعاً عن قاعدته التي أسسها ولكن ذلك لم يظهر لنا بعد.

 

8 ـ إن هذا البعض قد أنكر في كتاب الندوة ـ حسب النص الذي ذكرناه آنفاً ـ أن يكون مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مقبولاً عنده.. خصوصاً في الغايات الشخصية التي تبرر هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك، مع أننا نلاحظ:

 

أولاً: إن عبارته الأولى التي أوردها في كتاب: من وحي القرآن، ونقلناها عنه:

 

"إن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرّمة. بمعنى أنها تجمّدها وتنظفها".

 

فاستعمل كلمة "تبرر".

 

وثانياً: إن الأمثلة التي ساقها في كتابه: (من وحي القرآن) وقد نقلناها عنه آنفاً قد كان من بينها ما يرتبط بالحالات الشخصية. كمثال غيبة الفاسق. وجواز تكلم المظلوم بالسوء عن ظالمه.. وكما في مورد النصيحة للمؤمن في تجارة، أو في زواج أو ما إلى ذلك.

 

وذلك يتضمن هدم كرامة هذا، وهتك حرمة ذاك. وليست هذه الأمثلة مما يتصل بقضايا مصيرية كبرى.. حتى لو كان في حجم الحريق الذي ينشب في بناية (كبيرة)، ونريد إنقاذ حياة الناس بإتلاف بعض الأثاث.

 

تذكير..

 

قد ذكرنا في هذا الكتاب قول هذا البعض: إن قاعدة التزاحم هي نفس قاعدة المصالح المرسلة عند أهل السنة، وقد قلنا هناك: أنه كلام غير دقيق.. فراجع..

 


الفصل الثالث

 

توثيق الحديث واليقين في غير الأحكام


38 ـ أحاديث النبي وأهل البيت تحرّم، ولدينا في ذلك تحفظ فتوائي.

39 ـ حرمة أكل لحم الأرنب مبنية على الاحتياط.

سئل البعض:

 

لماذا لا يؤكل لحم الأرنب؟

 

فأجاب:

 

"لأن الأحاديث الواردة عندنا عن أئمة أهل البيت، والمروية عن الرسول تقول بحرمته ذكراً كان أو أنثى. ولدينا تحفظ فتوائي حول الموضوع فإن الحرمة ـ عندنا ـ مبنية على الاحتياط " [37].

 

وقفة قصيرة:

1 ـ إن جوابه هذا يوضح أن المنهج الذي يلتزم به هذا البعض، ويسير عليه هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) يقولون: حرام وهو يتحفظ على قول الرسول (ص) وأهل بيته عليهم السلام، فلا يفتي في الفتوى بما قالوه، بل تبقى الفتوى عنده مبنية على الاحتياط.

 

فهل ثمة من جرأة أعظم من هذه الجرأة؟!

 

2 ـ إن هذا البعض يقول في العديد من الموارد:

 

"إن الاحتياط عنده ميل إلى القول بالجواز.."

 

ولم يزل يستشهد بفتاوي العلماء بالإحتياط الوجوبي بالمنع، على صحة قوله هو بالجواز، فيقول: فلان يوافقنا على القول بالجواز، لأنه يقول: الأحوط وجوباً الحرمة [38].. فتبارك الله أحسن الخالقين.. كيف يمسخ: الأحوط وجوباً الحرمة أو النجاسة، فيصير فتوى بالجواز والطهارة، ثم يبقى على حاله من كونه احتياطاً وجوبياً بالتحريم!!

 

فهل هذا إلا من قبيل قول البعض للإمام الرضا (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكسر البيضة لكن الأمام الرضا (عليه السلام) إجابه بقوله: (نعم، وفي أصغر من البيضة، وقد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو يشاء لأعماك عنها..)

 

وقريب منه مروي عن الأمام الصادق (عليه السلام) أيضاً..

 

وروي ما يقرب من ذلك عن الأمام علي (عليه السلام)، وعن عيسى (عليه السلام).. لكن الجواب المروي عنهما يختلف عن هذا، لكنه قاطع ومفحم [39].

 

ولو أن الأمام عليه السلام عاش في هذا الزمن لأراه هذا البعض كيف، أنه قد أخطأ ـ والعياذ بالله ـ في جواب ذلك الشخص. وأن ذلك ليس ممكناً فقط، وإنما هو سهل ويسير على بعض مخلوقات الله سبحانه.. فها هو الإحتياط الوجوبي بالتحريم قد أصبح قولاً بالجواز، مع أنه باق على حاله من كونه احتياطاً وجوبياً بالتحريم، كما أنه لا يزال قولاً بالجواز، يؤيد به البعض مقولاته وفتاويه، ولكنه حينما يقول الأحوط وجوباً كذا.. فإنه لا يجيز لك أن تنسب إليه القول بالجواز، وسينكر عليك ذلك أشد الإنكار، وينسب إليك الكذب، والافتراء عليه!. ولا بد من أن نكرر، ونكرر: تبارك الله أحسن الخالقين.

 

39 ـ توثيق الأحاديث عاش الكثير من المشاكل التاريخية.

40 ـ توثيق الأحاديث عاش الكثير من المنازعات المذهبية.

41 ـ كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي راوٍ.

42 ـ كثرت علامات الاستفهام أمام توثيق أي حديث.

43 ـ لا بد من الحذر في الأخذ بالأحاديث.

يقول البعض في أحد هجوماته على الحديث الشريف:

 

"إنّ توثيق الأحاديث قد عاش الكثير من المشاكل التاريخية، والمنازعات المذهبية، بحيث أصبحت علامات الاستفهام كثيرة أمام الباحث الذي يريد أن يوثق راوياً أو حديثاً، فلا بدّ من الحذر في الأخذ بالأحاديث لاسيما إذا كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني" [40].

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

ا ـ إن أئمتنا (عليهم السلام)، وعلماءنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم، وبالخصوص من كانوا قريبين من عهد صدور النص قد رسموا لنا ضوابط ومعايير، وبينوا لنا شرائط قبول الرواية، وطرائق توثيق الرواة. وقد بين لنا القرآن، والمعصومون الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم: أن الحديث الشريف حجة لا بد من الأخذ بها في المعارف والأحكام شرط أن لا يخالف كتاب الله.

 

2 ـ إن المنازعات المذهبية، والمشاكل التاريخية لا تعنينا ولا تهمنا ما دمنا نملك الوسيلة التي رضيها الله سبحانه وتعالى لنا في تمييز الحديث ـ الذي هو حجة ـ من غيره. ولا نحذر من الأخذ بالحديث في هذه الحالة.. بل الحذر هو من عدم الأخذ به..

 

3 ـ إنه إذا تمت شرائط الحجّية في الحديث فلا بد من الأخذ به، حتى لو كان متضمناً لتغيير الظاهر القرآني، في مستوى تقييد مطلقاته، وتخصيص عموماته. وتبيين مجملاته. وإيضاح مبهماته.

 

علماً أنه لا بد من التفريق بين دليل حجّية الخبر.. فإنه قد يكون قطعياً. وبين الخبر نفسه، الذي قد يكون ظنياً دلالة، أو سنداً، أو كليهما..

 

44 ـ الحديث المتفق على ضعفه مقبول عنده.

45 ـ الحديث المتفق على رفض الاستدلال به مقبول عنده.

46 – " الوثوق الشخصي" بالخبر هو المعيار ولو خالف كل العلماء.

47 ـ توثيق أحاديث أهل البيت مشكلة معقدة.

48 ـ مشكلة السند بسبب كثرة الكذب على أهل البيت (ع).

49 ـ فتح باب العمل بروايات العامّة.

ثم هو يوثق الحديث الذي ينقل اتفاق العلماء على ضعفه ورفض الاستدلال به بدعوى أنه لا داعي للكذب فيه[41].

 

وهذا يعني أنه يقول بجواز العمل بالروايات بدون وثوق نوعي. إذ مع الاتفاق على ضعف الحديث ورفض الاستدلال به كيف يمكن الوثوق النوعي به.

 

ثم هو لنفس السبب، أعني عدم وجود داع للكذب يصحح العمل بروايات العامة [42] غير ملتفت إلى لزوم قيام القرائن العامة والشواهد المفيدة للوثوق النوعي بها، مع أنه قد صرّح في بعض مؤلفاته الأخرى بأنه يشترط الوثوق النوعي، فراجع [43].

 

أما بالنسبة لروايات أهل البيت عليهم السلام، فله موقف آخر، حيث إنه يعتبر توثيق أحاديثهم عليهم السلام مشكلة معقدة لوجود الركام الهائل من الكذب في حديثهم (ع). ويرى أن كثرة الكذب على أهل البيت عليهم السلام تجعلنا نواجه مشكلة السند.

 

ويقول:

 

"ربما كان توثيق أحاديث أهل البيت عليهم السلام مشكلة معقدة، من حيث اختلاف الرأي في أسس التوثيق للنصوص المأثورة عنهم، وعن النبي محمد (ص)، وفي طبيعة الحقيقة التاريخية، في وثاقة هذا الراوي أو ذاك، مما يجعل الصورة غير واضحة الملامح في التعبير عن الخطوط الفكرية والفقهية في منهج أهل البيت الإسلامي.

 

وقد تزيد المسألة إشكالا إذا لاحظنا اضطراب الأحاديث المرويّة عنهم، من حيث التعارض والتنافي بين الروايات، لاسيما أن بعضها قد يكون صادرا عن راوٍ واحد، يروي الفكرة برواية، ليروي خلافها برواية ثانية، وهنا يقع الخلاف حول تفسير ذلك، وتوجيهه بالتقية تارة، وبغير ذلك أخرى"[44].

 

ويقول:

 

"إن المشكلة هي أن الكذب على أهل البيت كان كثيرا، ولذلك فهناك مشكلة السند"[45].

 

ويقول:

 

"علينا أن نفهم السنة النبوية الشريفة فهما جديدا، ونفهم ما يأتينا من أحاديث أئمة أهل البيت (ع)، وأن ننقي الأحاديث، لأن هناك ركاما من الأكاذيب، ومن المواضيع التي دخلت إلى واقع الناس، وأصبحت حقائق"[46].

 

 

 

50 ـ تصحيح الروايات التاريخية.

ومن جهة أخرى فان هذا البعض، بنفس الطريقة، وبنفس الأسلوب، الذي حاول فيه العمل بروايات العامة، وتصحيح الأخذ بها، ـ مع مخالفته لما درج عليه علماء المذهب ـ حاول ذلك بالنسبة لما يرتبط بسيرة النبي (ص)،باستثناء ما يرتبط بالخلافة، فهو يقول:

 

"نعتقد أن الكثير من سيرة النبي (ص)، أخذه المسلمون يدا بيد، ولم تكن هناك ضرورة للكذب في بعض الحالات، فيمكن أن يقع التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة، ولكن الأحاديث التي تتحدث عن أخلاقه لا ضرورة للكذب فيها.

 

وكان هناك اهتمام كبير، من قبل الصحابة لملاحقة أوضاعه، كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف كان كذا وكذا..

 

فهناك حالة ارتباط عضوي رائع، ولذلك فقضية نقل سيرة النبي (ص) كان أمرا طبيعيا، بحيث يتناقله الناس جيلا إثر جيل، لأنها كانت محل اهتمامهم.

 

فنحن نلاحظ: أنه ليس هناك في التاريخ شخصية اتفق عليها المسلمون كشخصية النبي (ص)، ولم يحدث هناك أية حالة سلبية حيال النبي في كل واقع الإسلام"[47].

 

ونقول:

 

قد أشرنا إلى الإشكال في الفقرة الأخيرة في موضع آخر تحت عنوان عدالة الصحابة.

 

ونشير هنا أيضا إلى أن محاولة حصر التحريف في بعض ما يتعلق بالخلافة غير سديد، فقد روي عن الأمام الجواد (ع) انه (ص) قد قال في حجة الوداع:

 

(قد كثرت علي الكذّابة، وستكثر، فمن كذب علي متعمدا، فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث، فاعرضوه على كتاب الله وسنتي) الخ..[48].

 

وعن علي عليه السلام أنه قال:

 

وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده حتى قام خطيبا، فقال: أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا، فليتبوّأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده.. الخ [49].

 

وقد تحدثنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم عن الكثير من الموارد في سيرة النبي (ص) التي كُذِبَ فيها عليه فراجع ذلك الكتاب.

 

وإذا كانت كل الفئات والفرق تريد أن تحصل على الشرعية، وعلى المبررات لمواقفها، وتحتاج إلى الإرتباط برسول الله (ص)، وإلصاق نفسها به، والتقوي على خصومها، أو منافسيها بما تنسبه إلى رسول الله (ص) وتبرير التصرفات والفتاوي والحركات وغير ذلك، فإن الكذب والحال هذه لا يعرف قيودا ولا حدودا، ولن يقتصر التحريف على بعض ما يتعلق بالخلافة كما يقوله هذا البعض، ولسنا ندري كيف يدّعي اقتصار الكذب على موضوع الخلافة في حديث أهل السنة وهو يؤكد على الركام الهائل من الروايات الموضوعة في حديث أهل البيت (ع)، حسبما تقدّم، مع أن حديث أهل البيت (ع) ليس بأقل من حديث غيرهم، إن هذا لشيىء عجاب.

 

51 ـ لا بد من شروط أخرى لقبول الأخبار في غير الأحكام.

52 ـ لا تكفي مطلق الحجة في تفاصيل العقيدة بل المطلوب اليقين.

53 ـ مفردات الوجود تحتاج إلى اليقين، لا مطلق الحجة.

54 ـ لعل إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضى المفاهيم في العقيدة.

55 ـ إهمال تقويم الأحاديث أوقعنا في فوضى المفاهيم في الكون والحياة.

وبعد أن أنكر البعض: أن يكون المعنى الباطن للقرآن مخزوناً لدى الراسخين في العلم، وأنه لا فائدة في ذلك حاول.. أن يقرّر قاعدة مفادها: أنه لا بد من تحصيل اليقين في مثل هذه الأمور، فهو يقول:

 

"والسؤال كيف نفهم ذلك؟

 

قد يكون من المفيد، أن نتحدث في هذا المجال عن نقطة مهمّة في تكوين أيّة فكرة حول القضايا الفكرية الإسلامية، وهي ضرورة التأكد من صحة الأحاديث المروية عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، من حيث السند أو المتن، بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجية الأخبار في عملية الاستنباط الاجتهادي للأحكام الشرعية، لأن تلك الشروط قد تكون مطروحة في دائرة التنجيز والتعذير من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون الخبري، وذلك من خلال النظرية الأصولية العامة التي ترى في حجية الخبر لوناً من ألوان التعبّد الذي لا معنى له في المضمون الذاتي للخبر، فلا بدّ له من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معنى التعبّد.

 

أمّا القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة، وبمفردات الوجود، أو بالخصوصية التفسيرية للقرآن، فإنها بحاجة إلى القطع، أو ما يقترب من القطع، ويحقق الاطمئنان؛ لأنه ليس خطاً للعمل، بل هو خطّ للقناعة الفكرية على مستوى الالتزام الداخلي، في الاقتناع بالمفاهيم المتنوعة التي تحكم الأشياء المطروحة في الواقع، لئلا يكون الموقف متحرّكا في إثباتها.

 

وقد تكون الخطورة في هذه المسألة، أن الخلل في المسائل العقيدية والمفاهيم العامة في الصورة التي تقدمها للإسلام، أكثر مما يؤدي إليه الخلل في الأحكام الشرعية التي تتصل ببعض جوانب السلوك الفردي والاجتماعي في دائرة خاصة.

 

ولعلّ إهمال هذا الجانب، هو الذي أوقعنا في فوضى المفاهيم المتنوعة المتصلة بالكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها، وقضايا الكون والحياة، من خلال الأحاديث الكثيرة التي لم تخضع لتقويم علمي في صحتها وضعفها في قاعدتها العّامة.

 

وفي ضوء ذلك، قد نحتاج إلى الوقوف أمام الأحاديث الواردة في قضايا التفسير بشكل دقيق؛ لأن صورة المضمون التفسيري هي صورة القرآن في الوجه الفكري الذي يتقدّم إلى الناس في تخطيطه للإنسان وللحياة، وفي تكوينه للذهنية العامة للمسلم في نظرته إلى الوجود كله، مما قد يترك تأثيراته السلبية أو الإيجابية لدى الباحثين في حركة الصراع بين الإسلام والكفر، أو بين الهدى والضلال"[50].

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

1 ـ إن هذا البعض نفسه يحتج لكثير من الأمور التي يلتزم بها في التفسير وفي المفاهيم، وفي العقائد وفي التاريخ، وفي مفردات الوجود وغير ذلك بأحاديث ضعيفة السند، وبعضها مروي من طرق غير أهل البيت (عليهم السلام)..

 

ويقول:

 

"إن الحجة عنده هو الخبر الموثوق، لا خبر الثقة" [51].

 

فكيف حصل له القطع أو الاطمينان بصحة كل تلك الأخبار الضعيفة والموهونة، وفقاً للمعايير المعتمدة لديه إلا إذا كان يرى أن الوثوق الشخصي هو المعيار، وليس ما يوجب الوثوق النوعي عند كل من يلاحظ النص، وما احتف به من قرائن تفيد الوثوق به.

 

فإذا كان يرى: أن الوثوق الشخصي هو المعيار فتلك هي الكارثة الحقيقية الكبرى لأن دين الله يصبح ألعوبة في أيدي الناس.. ولا تبقى أية ضابطة أو رابطة للقبول أو الرد.

 

وإذا كان يرى: أن الوثوق النوعي هو المعيار كما صرح به في مورد آخر سيأتي بعد صفحتيين، فإن السؤال يبقى الذي طرحناه آنفاً عليه عن الأدلة التي جعلته يقطع أو يطمئن بتلك الأخبار الموهونة التي يطرحها هنا وهناك.

 

2 ـ إنه ليس لديه أي دليل يثبت له هذه الدعوى التي يطلقها حول لزوم تحصيل اليقين أو حتى الإطمينان (العلم العرفي) في تفاصيل العقيدة، وقضايا الوجود والتفسير والمفاهيم العامة وغيرها إلا الاستحسانات العقلية، والتحليلات الذوقية التي يبالغ في تصويرها، ويستخدم الكثير من التهويل والتضخيم للأمور من أجل التأثير على النفوس لقبولها..

 

3 ـ إن غاية ما استدل هذا البعض به هنا هو: أن الخلل في المفاهيم العامة، في الصورة التي نقدّمها للإسلام وتفاصيل العقيدة أكثر خطورة من الخلل الذي ينشأ من الخطأ في الأحكام الشرعية في قضايا السلوك الخاص والعام في دائرة خاصة..

 

ونحن لا نجد الكثير من ملامح هذه الخطورة المميزة لهذا عن ذاك، إلا في موارد معينة بقيت مصونة بجهود العلماء الأبرار عن أي خلل.. إلا ما نشأ أخيراً بسبب إثارات هذا البعض نفسه.. ولذلك نجد أن هناك اختلافاً في كثير من المفاهيم العامة بين الناس.. وفي كثير من التفاصيل العقيدية في قضايا الوجود، وفي كثير من خصوصيات التفسير.. ولكن ذلك لم يزد خطر ذلك على خطر الخلل والاختلاف في الأحكام الشرعية المتعلقة بالسلوك الخاص والعام..

 

بل قد يكون للخلل في بعض الأحكام خطورة أكبر بكثير من الخلل في بعض مفردات التفسير أو في التفاصيل في العقيدة، أو المفاهيم أو غيرها..

 

فإن الفتوى بجواز أو وجوب ضرب الوالدين وحبسهما، والإغلاظ لهما بالقول في مجال النهي عن المنكر، كالكذاب مثلاً مع التساهل في الإلحاد الذي هو من أعظم المنكرات، وعدم إيجاب الإغلاظ لهما فيه..

 

وكذلك الفتوى بجواز النظر إلى العراة في نوادي العراة، والفتوى بجواز نظر المرأة إلى عورة المرأة، وجواز نظر الرجال إلى عورة المرأة المسلمة إذا كانت لا تنتهي إذا نهيت، ثم القول بأن في الشهادة لعلي بالولاية في الأذان والإقامة مفاسد كثيرة، ثم تجويز قول آمين، و التكتف، دون الإشارة إلى تلك المفاسد، ثم الفتوى بطهارة كل إنسان، وانعقاد الزواج بالمعاطاة، أي بمجرد الفعل والممارسة من دون حاجة إلى عقد، وما إلى ذلك.

 

نعم.. إن أمثال هذه الفتاوي أشد خطورة على الإسلام من الخلل في بعض خصوصيات التفسير، أو في فهم بعض مفردات الوجود، وأعظم من الخلل في بعض تفاصيل العقيدة التي قد لا تخطر للإنسان على بال طيلة حياته، كالاعتقاد بان الملائكة معصومون بالإجبار على حد زعمه لا بالاختيار، أو ما يشبه هذا.

 

4 ـ إن الذي أزعج هذا البعض ودفعه إلى أن يطلق هذه الدعاوي هو ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في معنى الراسخين في العلم وأنهم هم الأئمة من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)..

 

وأنهم هم الذين يعرفون المعنى الباطني للقرآن.. مما يعني: أن لديهم (عليهم السلام) علوماً ليست لدى غيرهم.

 

ومن الواضح: أن هذه الأحاديث قد بلغت حداً من الكثرة والوثاقة بحيث لا يستطيع حتى من يدعي أنه يحتاج إلى تحصيل القطع أو الإطمئنان في كل ما سوى الأحكام الشرعية الفرعية، أن يتملّص أو أن يتخلص منها..

 

فكيف وهو يقول:

 

"وإذا كان الحديث ضعيف السند، فإنه لا يخلو من إيحاء بالمضمون في الآية، مع ملاحظة أننا لا نقتصر في حجية الخبر على خبر الثقة، بل نضيف إلى ذلك الخبر الموثوق به نوعاً، لأن سيرة العقلاء أو بناءهم هو الأساس في حجيته؛ وربما كان ضعف احتمال الكذب، لعدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمّده هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث" [52].

 

ولا ندري لماذا لم توحِ له كل تلك الأحاديث في المراد من الراسخين في العلم بمضمون الآية الشريفة؟!

 

ويقول أيضاً:

 

"ونحب أن نشير هنا إلى مبنانا في حجية خبر الواحد، وهو حجية الخبر الموثوق لا خبر الثقة، فإذا لم تكن هناك أي مصلحة في الكـذب عند الراوي ـ كما في مقامنا ـ فلا بأس بالأخذ بالخبر وإن كان ضعيفاً، ولا يعني ذلك أننا نلغي السند بشكل كلي، بل نعتبر أن ضعف السند من القرائن التي قد توجب عدم الوثوق، كما هو الغالب ـ وقد لا توجب، وعلى هذا يكون المدار على الوثوق لا الوثاقة"[53].

 

فهذا الكلام من هذا البعض يجعله ملزماً بقبول هذه الأخبار، ولا يبقي له أي عذر لردها أو تجاهلها.

 

56 ـ الأخبار كلها ليست حجة في غير الأحكام.

57 ـ لا يصح الأخذ بالحديث الضعيف في جوانب الحياة.

58 ـ لا بد من اليقين في الأحاديث عن أسرار الواقع.

59 ـ لابد من اليقين في الأحاديث عن ملكات الأشخاص.

60 ـ أخبار الآحاد لا تقوم لها حجة في التفسير.

61 ـ الإخبارات الكونية لا يكفي فيها خبر الواحد.

62 ـ الإخبارات التاريخية لا يكفي فيها خبر الواحد.

63 ـ لا بد من القطع والاطمئنان في الكونيات وفي التاريخ.

64 ـ القضايا الدينية المتصلة بأفعال الأنبياء لا بد فيها من اليقين والتواتر.

65 ـ اشتراط اليقين في غير الشرعيات يخلصنا من كثير من الروايات.

ونقول:

 

إن البعض يناقش الروايات التي تتحدث عن طبيعة القبضة التي قبضها (السامري) من أثر الرسول، ويقول عن هذه الروايات:

 

".. وعلى أي حال فهي أخبار آحاد لا تقوم بها حجة في التفسير لأن حجية خبر الواحد، فيما لم يفد القطع والإطمئنان، لا تعني إلا ترتيب الأثر الشرعي على مضمونه، فيما كان له أثر شرعي.. أما الأمور التي تتضمن أخباراً عن قضايا كونية في السماء أو في الأرض، أو عن أحداث تاريخية فلا مجال للاعتماد على الخبر الواحد فيها بنفسه، بل يتبع القطع أو الإطمئنان، من باب حجتها في ذاتها بعيداً عن الخبر.. فلنترك الموضوع لعلم الله كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، لاسيما إذا كان الأمر مما لا يتعلق به خط العقيدة فيما يجب اعتقاده، أو خط العمل، فيما يجب الالتزام به"[54].

 

ويقول في موضع آخر:

 

".. وقد نحتاج إلى أن نثير أمام هذه الأمور، الفكرة القائلة، بأن القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في أجواء الكون وأفعال الأنبياء وغير ذلك مما يتعلق بالأحكام الشرعية، لا بد في الالتزام بها من اليقين، فلا يكفي فيها الظن الحاصل من رواية خاصة لم تبلغ حد التواتر.. وبذلك نستطيع التخلص من كثير من الروايات المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة لخصائص الأوضاع، وملكات الأشخاص، وأسرار الواقع، لنرجع الأمر فيها إلى أهلها أو لنأخذ منها بعض الإيحاءات والأجواء بعيداً عن جانب العقيدة.

 

وربما كان من الضروري أن يتوفر الباحثون في مسالة حجية الخبر الواحد، في علم الأصول على إثارة المسألة بشكل واضح أمام الناس، لأن المشكلة أن الكثيرين قد اعتمدوا على الروايات في الأمور الخارجة عن شؤون التشريع، بنفس الشروط التي اعتمدوا فيها على التشريع، بل ربما تطور الأمر إلى التوسع في ذلك باعتماد الروايات الضعيفة، مما أدى إلى أن يكون عندنا ركام هائل من الأحاديث المذكورة في الكتب الدينية، التي يعتمد عليها الناس في تكوين التصورات والقناعات الدينية في جانب العقيدة والحياة" [55].

 

وقفة قصيرة:

إننا نسجل هنا ما يلي:

 

1 ـ تقدم في هذا الكتاب أن الذي يطلب فيه اليقين هو خصوص الأمور العقائدية، التي يجب الإعتقاد بها على كل حال، وهي التي يتوقف عليها الإسلام والإيمان،كالتوحيد والنبوة واليوم الآخر، وكذا يطلب اليقين في المعجزة التي يتوقف عليها ثبوت أصول العقيدة، كالتي يتوقف عليها إثبات نبوة النبي، أما ما عدا ذلك، فإنما يجب الاعتقاد به لو التفت إليه لا مطلقاًً.

 

وهذه الأمور التي تحدث عنها هذا البعض هنا، لا دليل على اعتبار اليقين فيها، بل يكفي أن تثبت بالحجة المعتبرة شرعاً و عند العقلاء، وذلك مثل الاعتقاد بكرامات النبي (ص)، كتسبيح الحصى بيديه (ص)، وسجود الشجر له (ص)، وتكليم الحيوان له، ونحو ذلك.

 

فإن ذلك لا مدخلية له في تحقق أصل الإيمان والإسلام، نعم لوثبت للإنسان بحجة معتبرة وجب عليه الاعتقاد به، لئلا يلزم رد الخبر على أهل البيت عليهم السلام، وقد روي عن الأمام الباقر (ع)، وهو يتحدث عن أصحابه:

 

(إن أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم إليّ، الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا، ويروى عنا، فلم يعقله، ولم يقبله قلبه، اشمأز منه وجحده، وكفر بمن دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا) [56].

 

وعنه عليه السلام:

 

(لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعله من الحق، فتكذبوا الله فوق عرشه) [57].

 

2 ـ إن هذا البعض يقول بعدم حجية أخبار الآحاد في التفسير، وفي التاريخ وفي الكونيات، وفي القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في الكون، وأفعال الأنبياء، وغير ذلك، وكذا الحال بالنسبة للروايات التي تتحدث عن ملكات الأشخاص وأسرار الواقع.

 

ونقول: لا ندري السبب في حكمه هذا، فإن حجية خبر الواحد لم تخصص من خلال أدلتها، كبناء العقلاء، أو (آية النبأ) أو غيرها مما يستدل به على حجيته ـ لم تخصص ـ هذه الحجية في نوع دون نوع. فمن أين جاء هذا التخصيص البديع ـ بل المستهجن ـ يا ترى؟

 

3 ـ إن هذا البعض يقول بعدم إمكان الأخذ بالحديث الضعيف في جوانب الحياة.

 

ونقول: إن من يقول بالأخذ بالحديث الموثوق ـ وهذا البعض يدعي دائما أنه منهم ـ لا بحديث الثقة، لا يحق له أن يقول بلزوم الاقتصار على الخبر الصحيح سنداً في أمور الشرع، ولا في سائر ما تقدم.

 

4 ـ إن خبر الواحد حين ينقل لنا ملكات الأشخاص، أو حادثة تاريخية لا يزيد عن كونه ينقل خبراً في موضوع من الموضوعات، فإذا كانت حجيته من باب بناء العقلاء، فلماذا لا تشمل ما هو من قبيل الإخبار بعدالة أو بحياة زيد من الناس، أو بوقوع حادثة القتل الفلانية، وكذا الحديث عن الكونيات، والتبدل فيها ووقوع زلزال أو خسف في البلد الفلاني، أو كالشهادة بالهلال..؟

 

أما القضايا المتصلة بأفعال الأنبياء، فما هي إلا كنقل صلاتهم، وحجهم، وصيامهم (ع) لنا، ومن هذه الأفعال نقل خبر شجاعة النبي، والإمام الخارقة للعادة في بعض المواضع، كخبر ثباته (ص) يوم أحد، وكخبر قلع باب خيبر، وقتل علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود، حيث كانت ضربته تعدل عبادة الثقلين.

 

5 ـ إنه قد اعتبر أنه لا بد من القطع أو الإطمئنان في كل ما ليس حكماً شرعياً، مؤكدا على أن حجيتهما الذاتية هي المنشأ، للأخذ بهما بعيداً عن الخبر.

 

وهذا معناه لزوم إلقاء معظم الحديث المنقول عن أهل البيت عليهم السلام من أصله والاستغناء عنه؛ لأنه لا حجية له، بل الحجية لليقين بذاته، وللاطمئنان بذاته كما يقول. (وهذه مقولة خطيرة).

 

مع ما في هذا الأخير ـ أي حجية الاطمئنان بذاته ـ من إشكال ظاهر.

 

ومن الطرائف أن تكون سيرة العقلاء التي يستدل بها هذا البعض على حجية الخبر هي نفسها التي يستدل بها على حجية الإطمئنان، فكيف ساغ له قبول حجية الإطمئنان في غير الشرعيات وهجر حجية الخبر فيها وتوصيف الحجية في الأول بالذاتية وإنكار حجية الثاني من رأس؟‍!

 

وبعد.. فإن من الواضح: أن الموارد التي يحصل فيها اليقين محدودة ومعدودة، فيبقى هذا الكم الهائل من أحاديث أهل البيت عليهم السلام بلا فائدة ولا عائدة.

 

ولا ندري مدى ابتعاد مقولة الاكتفاء بما في القرآن، وبما دل عليه العقل، وبالمتواترات، لا ندري مدى ابتعادها عن مقولة ـ (حسبنا كتاب الله)، ولا نعرف كثيراً عن المواضـع التي تخـتلف فيها هذه عن تلك.

 

66 ـ القرآن يوسّع الحديث ويضيّقه.

67 ـ الحديث لا يخصص ولا يقيد القرآن.

إن البعض يعتبر أن القرآن هو الذي يوسع الحديث أو يضيقه ومعنى ذلك أن لا يستطيع الحديث تضييق المفهوم القرآني.

 

فهو يقول:

 

"إنه لا بد من أن يرجع الفقهاء إلى القرآن"

 

على قاعدة أساسية هي:

 

"أن العناوين القرآنية هي العناوين الأصلية التي تحكم وتفسر كل مفردات العناوين الموجودة في السنة فهي التي توسعها وتضيقها، لأنها هي الأساس في حركة الأحكام في الموضوعات. كما أن المفهوم القرآني هو المفهوم الحاكم على كل جزئيات المفاهيم الموجودة في الأحاديث، لأنه هو المقياس لصحة الأحـاديث وفسادها.."[58].

 

والذي نلفت النظر إليه هو خصوص الفقرات الأولى من النص المذكور، فإذا كان مراده غير ما هو الظاهر، أو كان لديه توضيحات وقيود، فقد كان عليه أن يذكر ذلك في هذا الموضع بالذات، لأنه موضع الحاجة للتوضيح والتصحيح.

 

68 ـ نحن نميل إلى الرأي السلبي في وثاقة أبي هريرة.

69 ـ اختلف الرأي في توثيق أبي هريرة.

يقول البعض:

 

"هذا مع التحفظ الذي نسجله على شخصية أبي هريرة، التي اختلف الرأي في توثيقها وعدم توثيقها. ونحن نميل إلى الرأي السلبي، ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته" [59].

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

1 ـ إن من يقرأ هذه العبارات يظن لأول وهلة: أن الإختلاف في وثاقة أبي هريرة واقع بين علماء الشيعة، وذلك لأن قائل هذا القول يحمل شعار هذا المذهب بل هو يعلن نفسه مرجعاً فيه..

 

2 ـ ولو أغمضنا النظر عما سبق، فإننا نقول:

 

لماذا لم يجزم بعدم وثاقة أبي هريرة، بل أظهر الميل إلى الرأي السلبي؟!

 

وهذا الأمر أيضاً يشير إلى وجود درجة من الاعتبار يحظى بها أبو هريرة لديه!!

 


الفصل الرابع

 

الإسلام لا يملك وسيلة بيان..

العمل بالرأي


عودة إلى نماذج من مناهجه على النحو التالي:

 

70 ـ الإسلام يعاني من مشكلة.

71 ـ الإسلام لا يملك وسيلة بيان قاطعة ويقينية.

72 ـ الكلمة والفعل لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر.

73 ـ اختلاف المسلمين بدأ من زمن النبي.

74 ـ اختلاف المسلمين من زمنه (ص) هو بسبب الاحتمالات في الكلام النبوي وفي الأفعال النبوية.

75 ـ المختلفون لم يكونوا جميعاً قادرين على لقاء النبي فبقيت خلافاتهم تأخذ طابع الإسلام.

76 ـ الاجتهاد بالرأي موجود في زمنه (ص).

77 ـ النبي ـ إذا صحت الأحاديث ـ أمرهم بالعمل بآرائهم حيث لا نص.

78 ـ الأحزاب جعلت الخلافة قضـية مركزية.

79 ـ المختلفون على الخلافة متواصلون ـ والأحزاب جعلوا الخلافة سبب انقسام.

يقول البعض، وهو يتحدث عن: هوية الحوار الإسلامي ـ الإسلامي:

 

"وهكذا كان الإسلام الواحد يهيىء للأمة الواحدة أن تلتقي على كل مفاهيمه، لتلتقي من خلال هذه المفاهيم على كل مواقع حياتها، لكن مشكلة الإسلام كمشكلة أي فكر آخر، سواء كانت دينية أو غير دينية، أنه لا يملك أن يدخل إلى أفكار الناس بطريقة غيبية، وإنما يدخل من خلال الكلمة ومن خلال الفعل. ومن الطبيعي أن الكلمة لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر، وهكذا الفعل لا يملك أيضاً انفتاحاً لما يختزنه، ما يجعل الاحتمالات كثيرة في تفسير طبيعته وخلفياته..

 

لذلك اختلف المسلمون في زمن النبي (ص)، ولم يكن كل المسلمين قادرين على لقاء النبي (ص)، لذا بقيت كثير من الخلافات تتحرك في وعي هؤلاء وأولئك على أنها الإسلام. ونحن نعرف أن الاجتهادات بالرأي كانت موجودة، خاصة إذا صحت الأحاديث التي تقول بأن بعض الناس ممن أرسلهم النبي ليقضوا في بعض المناطق، قد قال لهم ما مفاده أنه إذا لم يجد أحدكم شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله ـ مما يعرض عليكم ـ فإنه يعمل باجتهاد رايه. إنها وجهة نظر على أي حال.

 

ثم جاءت الأحزاب بعد النبي (ص)، لتجعل من قضية الخلافة قضية مركزية استطاعت أن تمثل حداً فاصلاً يفصل المسلمين عن بعضهم البعض. ربما لم يتحقق هذا الانفصال في عهد الخلافة، إذ نجد تواصلاً من الذين اختلفوا حول قضية الخلافة"[60].

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

إن ما ورد في هذه الأسطر اليسيرة من مقولات يحتم علينا الوقوف ـ ولو للتنبيه والتحذير ـ عند النقاط التالية:

 

1 ـ هل يصح لأحد أن يقول: إن الإسلام يعاني من مشكلة أنه لا يملك الدخول إلى أفكار الناس بطريقة غيبية. بل من خلال الكلمة والفعل الخ؟!!

 

ألا يوحي ذلك:

 

ألف: أن في الإسلام خللاً أو نقصاً في قدراته وفي وسائله وهو عاجز عن سدّ هذا العجز؟!

 

ب: أن الوسائل التي اعتمدها الإسلام لم تستطع أن تقوم بالمهمة التي أوكلت إليها على أتم وجه، بسبب ما تعاني منه من عجز ووهن؟!

 

ج: أن القول: إن رسول الله (ص) قد جاءهم بها بيضاء نقية، وأن الكتاب يهدي إلى الرشد.. وأنه مبين، وأن الحجة تامة على الخلائق. وأن لله الحجة البالغة.. وأنه: {قد تبين الرشد من الغي..} ووو الخ.. ـ إن ذلك كله ـ يصبح بلا معنى، وبلا فائدة؟!

 

بل يكون مجرد شعارات رنّانة خالية من الصدقية!! باعتبار ان الإسلام لا يزال يعاني من مشكلة!! أعاذنا الله من الزلل في القول، وفي الفكر، وفي العمل.

 

2 ـ ما ادعاه من أن الكلمة لا تحمل روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر.. لا مجال لقبوله.. فإن ذلك إنما هو في بعض الموارد، فهو الإستثناء وليس هو القاعدة.. ولولا ذلك لانهارت حياة الناس، واختلط الحابل بالنابل، ولم يعد لهم ما يحل مشاكلهم على صعيد الخطاب الذي يدخل في صميم حياتهم، وعليه تدور أمور معاشهم ومعادهم. وبه وعلى أساسه يكون الأخذ والعطاء، والفصل في القضاء.

 

والخلاصة:

 

أنه لا ريب في وجود ما هو قطعي الدلالة في اللغة العربية، ووجود ما هو ظاهر في دلالته، فلا يضر وجود الاحتمال الضعيف الذي لا يلتفت إليه العقلاء ولا يقدح في حجية ظاهره وفي الإلزام ولزوم الالتزام به.

 

وإذا كانت بعض الكلمات أو التعابير القليلة لا تأبى احتمالات أخرى في معناها فإن بالامكان تجنبها والتزام غيرها مما لا يعاني من هذه المشكلة، إلا إذا أريد للكلام أن يكون على درجة من الإبهام والإجمال لأكثر من سبب.

 

ومهما يكن الحال، فإن ثمة نظاماً عاماً يلتزمه الناس في مجال الخطاب في مختلف جهات حياتهم، وإنما يعتنى بالاحتمالات، وتقبل في دائرة التداول ما دامت خاضعة لهذا النظام العام، فإذا تجاوزت حدوده وخطوطه سقطت وأهملت، واستبعدت من دائرة الاهتمام والتداول. ولولا ذلك، لانسد باب المعرفة على الناس، ولم تقم عليهم حجة، وكان اعتبار فعل المعصوم وقوله وتقريره حجة ودليلاً على الأحكام والحقائق الدينية بلا معنى ولا فائدة.

 

3 ـ إن وجود احتمالات متعددة للكلام أو للفعل يحتم أن يبقى الناس في دائرة تلك الاحتمالات.. ولا يجوز لهم أن يتعدوها إلى آراء أخرى يخترعونها من عند أنفسهم..

 

4 ـ قوله:

 

"إن الإسلام لا يملك الدخول إلى أفكار الناس بطريقة غيبية".

 

غير مقبول أيضاً فإن الإسلام يقول:

 

ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه [61].

 

وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}[62].

 

ويقول الله سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى، وآتاهم تقواهم} [63].

 

فالهداية بالإيمان وزيادة الهدى، من قبل الله سبحانه – كسائر التوفيقات والتسديدات الإلهية ـ، إنما هما عمل غيبي، وتصرف إلهي.

 

وعن الأمام الباقر (ع): (من عمل بما يعلم علمه الله ما لم يعلم)[64].

 

ولكن شرط أن تتوفر النية الصادقة لقبول هذا الإيمان، وعدم المقاومة له بتمحل المعاذير.

 

5 ـ على أن التعليم لا ينحصر بالكلمة وبالفعل الذي ترد فيه الاحتمالات. بل إن اجتراح المعجزات القاطعة الدلالة هو الآخر ينتهي بالناس إلى العلم، ويضطرهم إليه، بحيث تصبح حجتهم داحضة. ولا يجدون ثمة أي مهرب.

 

6 ـ على أن هناك هداية فطرية كالهداية للتوحيد، ولكثير من الأمور التي تدركها الفطرة، وهداية تكوينية وهداية عقلية.. فلا تنحصر سبل الهداية بالقول وبالفعل..

 

7 ـ قد جعل هذا البعض اختلاف المسلمين في زمن النبي ناشئاً عن أن الكلمة والفعل لا تملك روحاً مطلقة تحميها من الاحتمال الآخر..

 

فهل يريد بذلك أن يعذر الذين اغتصبوا الخلافة من أمير المؤمنين، واعتدوا على مقام سيدة النساء؟! وضربوها وأخذوا فدكاً.. وما إلى ذلك؟!

 

باعتبار أن الكلام الذي ألقي إليهم، قرآناً كان أو توجيهاً نبوياً، لا يملك روحاً مطلقة تحميه من الاحتمال الآخر!!

 

8 ـ ولنا أن نلزم هذا البعض بما ألزم به نفسه، فهل يقبل بأن نقول له: إن كلامه وفعله لا يملك روحاً مطلقة تحميه من الاحتمالات الأخرى. فكلامه يحتمل أن يكون دائماً كلام تضليل، وفعله يحتمل دائماً أن تكون له طبيعة سيئة، وخلفيات شائنة؟!

 

ولماذا إذن يقيم الدنيا ثم لا يقعدها على منتقدي مقولاته التي هي صريحة في خلاف الحق. ولماذا يتهمهم بالعقدة تارة، وبالتغفيل أخرى، وبالوقوع تحت تأثير المخابرات ثالثة، و بعدم الدين والتقوى رابعة وما إلى ذلك؟

 

9 ـ على أن هذا الكلام يستبطن أن لا يبقى هناك حق يعرف أو يؤخذ به من أحد من الناس.. كما أنه لا يبقى معنى لتشريع العقوبات ولا لوضع المثوبات. وأن كل ما يقال أو يفعل ترد فيه الاحتمالات المثبتة والنافية، وتدخله الشبهات، فلا مجال للاحتجاج به، أو له أو عليه..

 

ولم يكن أيضاً معنى للجهاد، لعدم إمكان قطع العذر، وإقامة الحجة. ولا معنى للحد والقصاص لأن الحدود تدرأ بالشبهات لأن كل دليل يستدل به على تشريع شيء لا يملك روحاً تحميه من الاحتمال الآخر.

 

10 ـ وإذا انجر الكلام إلى هذا الحد، فإنه لا حرج إذا قيل: إن هذا معناه أن تنتفي الفائدة من بعثة الأنبياء والرسل، ومن تشريع الشرائع والأحكام.. ما دام أنه ليس ثمة من سبيل لنيلها، ولا وسيلة للوصول إليها!!!

 

11 ـ ثم ما معنى قوله:

 

"لم يكن كل المسلمين قادرين على لقاء النبي (ص)، فبقيت الخلافات تتحرك في وعي هؤلاء وأولئك على أنها الإسلام"؟!

 

هل يريد أن يقول: إن الذين اختلفوا لم يروا رسول الله (ص) ليسمعوا منه ما يزيل خلافاتهم؟!

 

إذا كان هذا هو المقصود فإننا نقول له: إن الاختلاف في معظمه لم يكن بين من لم يكونوا قادرين على رؤية الرسول.. بل كان في معظمه بين من رأوا الرسول (ص) وعاشوا معه، وسمعوا أقواله وكانوا قادرين على الرجوع إليه فيما شجر بينهم.

 

12 ـ وحتى لو رجعوا إلى الرسول فإنه ـ على حسب قول هذا البعض ـ لن يكون (ص) قادراً على حسم مادة النزاع، لأن كل كلام سيقوله لهم لا يملك روحاً مطلقة، تحميه من الاحتمال الآخر. وكذلك الحال بالنسبة لما يمارسه من فعل توجيهي وتعليمي. وسيبقى الحرج في انفسهم مما يقضيه، ولا يبقى معنى ولا مجال لتحقيق مضمون قوله تعالى: ثم لا يكن في أنفسهم حرج مما قضيت.

 

13 ـ إن هذا البعض يدعي: أنه يعرف:

 

"أن الإجتهادات بالرأي كانت موجودة خاصة إذا صحت الأحاديث التي تقول: إن النبي أجاز لقضاة المناطق العمل بالرأي.."

 

ومن الواضح:

 

أ ـ أن وجود الاجتهاد بالرأي في زمن الرسول لا يعني أن الرسول قد أمضاه وقبل به.. بل هو والأئمة من أهل بيته الطاهرين ما زالوا يقبحون العمل بالرأي وينهون عنه، ويعلنون رفضهم له ويخبرون الناس بأن دين الله لا يصاب بالعقول، ويعلمونهم بالعقوبات القاسية التي أعدها الله لمن يفعل ذلك.

 

ونذكر من هذه النصوص الرواية التالية:

 

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله، ولا سنة نبيه؛ فننظر فيها؟!

 

فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل [65].

 

ب ـ لو صح ما ذكره هذا البعض لم تتحقق بدعة أصلاً.. لأن بإمكان كل أحد أن ينتج رأياً يخالف فيه حكم الله بحجة: أنه لا يستطيع أن يرى النبي، وحتى لو رآه، فإن ما يقوله وما يفعله (ص) لا يملك روحاً مطلقة، تحميه من الاحتمال الآخر..

 

وقد روي عن رسول الله (ص) قوله: (إذا ظهرت البدع في أمتي، فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)[66].

 

وعنه (ص): من أتى ذا بدعة فعظمه، فإنما يسعى في هدم الإسلام [67].

 

وعنه (ص): (أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟

 

قال: إنه قد أشرب قلبه حبها)[68].

 

وروى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

 

قال رسول الله (ص): (إن عند كل بدعة تكون من بعدي، يُكاد بها الإيمان، ولياً من أهل بيتي، موكلاً به، يذب عنه، ينطق بإلهام من الله، ويعلن الحق وينوّره، ويرد كيد الكائدين، يعبر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله) [69].

 

وعن يونس بن عبد الرحمان عن أبي الحسن الأول: (يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (ص) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) [70].

 

وعن أبي جعفر (عليه السلام): (من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله، حيث أحلَّ وحرّم فيما لا يعلم)[71].

 

وعن محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه: وعلي بن إبراهيم (عن أبيه) عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (ع): وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إنّ من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف [72] بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي [73] من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلاً في جهّال الناس، عان[74] بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالماً ولم يغن[75] فيه يوماً سالماً، بكّر[76] فاستكثر، ما قلّ منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن[77] واكتنز من غير طائل [78] جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، وإن خالف قاضياً سبقه، لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في منزل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهباً، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى. فهو مفتاح عشوات[79]، ركّاب شبهات، خبّاط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم[80]. تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء؛ يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال، لا مليءٌ بإصدار ما عليه ورد[81]، ولا هو أهل لما منه فرط، من ادعائه علم الحق)[82].

 

14 ـ ثم إن هذا البعض قد أشار إلى:

 

"الأحاديث التي تقول بأن بعض الناس ممن أرسلهم النبي ليقضوا في بعض المناطق، قد قال لهم ما مفاده: أنه إذا لم يجد أحدكم شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله ـ مما يعرض عليكم ـ فإنه يعمل باجتهاد رأيه.."

 

ونقول:

 

إنه يشير بكلامه هذا إلى ما يستدل به بعض أهل السنة على تشريع الرأي والقياس، وهو ما رووه عن الحارث بن عمر، بن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ (من أهل حمص)، عن معاذ، قال:

 

لما بعثه (ص) إلى اليمن، قال كيف تقضي، إذا عرض لك قضاء؟!

 

قال: أقضي بكتاب الله.

 

قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟

 

قال: فبسنَّة رسوله.

 

قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟

 

قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

 

قال: فضرب رسول الله (ص) صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله[83].

 

وهذه الرواية قد حكم عليها أهل السنة أنفسهم بالضعف وذلك:

 

ألف: لجهالة الحارث بن عمر، ولأن الرواية لم تبين من هم أصحاب معاذ، ليمكن التأكد من وثاقتهم أو عدمها [84].

 

ب: قال أبو محمد: هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا، فلا حجية في من لا يعرف من هو. وفيه الحارث بن عمرو، (وهو مجهول لا يعرف من هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه) [85].

 

وقد أورد الجوزجاني هذا الحديث في الموضوعات، وقال: هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة. وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقاً غير هذا.

 

إلى أن قال: ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل الشريعة [86].

 

وقال البخاري عن هذا الحديث: (لا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح) [87].

 

ج: إن هذا الحديث الضعيف لا يقوى على معارضة ما دل على الردع عن إعمال الرأي.

 

د: قد أشار البعض إلى أن من الممكن أن تصح الأحاديث التي تقول: إن النبي قال لبعض من أرسلهم إلى بعض المناطق أن يعملوا بالرأي.

 

ونقول له: إن حديث معاذ الذي ذكرناه هو المعتمد، بل وحتى لو انضم إليه حديث أبي موسى الأشعري، ومعاذ، أو انضم إليه حديث ابن مسعود أيضاً [88].

 

فإنه يبقى غير مقبول.. لأن رواته لم تثبت وثاقتهم عند علماء المذهب. بل ثبت ضدها.

 

بل إننا نطمئن القارىء الكريم إلى أن أهل السنة أنفسهم يصرحون ـ وقد قدمنا بعض تصريحاتهم ـ بإرسال تلكم الأحاديث، وبمجهولية رواتها، وتفرّد هؤلاء المجاهيل بنقلها.

 

إذن، فلماذا هذا التهويل على الآخرين بوجود أحاديث بصيغة الجمع!! وبأنها يمكن أن تكون صحيحة!!.. فإنها لا يمكن أن تكون كذلك عند السنة أنفسهم، فكيف تصح عند الشيعة..

 

هـ: قال ابن ماجة: حدثنا الحسن بن حماد، سجّادة، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسيّ، عن عبد الرحمن بن غنم، حدثنا معاذ بن جبل، قال: لما بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر، فقف حتى تبينه، أو تكتب إليّ فيه[89].

 

قال في هامش عون المعبود: (وهذا أجود إسناداً من الأول، ولا ذكر فيه للرأي) [90].

 

و: إن من الواضح: أن الله سبحانه، قد أكمل الدين وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً بولاية علي عليه السلام.. وكان كمال هذا الدين بحيث أن الأمام الصادق (ع) يقول: إن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟!

 

قال: قلت (أي الراوي): جعلت فداك، وما الجامعة؟

 

قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (ص) وإملائه، من فلق فيه، وخط علي (ع) بيمينه، فيها حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي، فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟!

 

قال: قلت: جعلت فداك، إنما أنا لك، فاصنع ما شئت.

 

قال: فغمزني بيده، وقال: حتى أرش هذا؟[91].

 

وفي حديث آخر عن الأمام الصادق عليه السلام حول الجفر الأبيض، قال (ع): (فيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش)[92].

 

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) حول الجامعة:.. فيها كل ما يحتاج الناس إليه، و ليس من قضية إلا وهي فيها)[93].

 

وفي نص آخر عنه (عليه السلام): (إن عندنا كتاباً أملاه رسول الله (ص) وخط علي عليه السلام صحيفة فيها كل حلال وحرام الخ..) [94].

 

وفي نص آخر يقول عن كتاب علي (ع): (.. ما على الأرض شيء يحتاجون إليه إلا وهو فيه حتى أرش الخدش)[95].

 

وعن الأمام الرضا (ع) حول علامات الأمام قال عليه السلام: (يكون عنده الجفر الأكبر والأصغر }و{ أهاب ماعز وأهاب كبش، فيهما جميع العلوم، حتى أرش الخدش، وحتى الجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة) [96].

 

15 ـ قوله: "إن سبب بقاء الاختلاف بين المسلمين هو عدم قدرة كثير منهم على لقاء رسول الله (ص).."

 

غير صحيح، فإن بعضهم قد خالف رسول الله (ص) نفسه، وتنازعوا عنده، ومعه وقالوا: إن النبي ليهجر، ومنعوه من أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده..

 

ونقول أيضاً:

 

ألف: إن قول رسول الله (ص): إيتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً يوضح: أن تلك الكتابة وذلك الفعل سوف يملك روحاً مطلقة تحميه من جميع الاحتمالات الأخرى.. ولولا ذلك لم يصح قوله: لن تضلوا بعده أبداً.

 

ب: إن الأحاديث التي يراد الإيحاء بصحتها هي تلك التي رواها أتباع غير أهل البيت عليهم السلام والتزموا بها. وهي لا تمت إلى أهل البيت ولا إلى شيعتهم بأية صلة. بل المروي عن أهل البيت مناقض لها، فقد روي عنهم عليهم السلام:

 

القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم، فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو يعلم، فهو في الجنة[97].

 

فأئمتنا يقولون: إن من قضى بالحق، وهو لا يعلم فهو في النار.. فهل يصح أن يقول هذا البعض:

 

"أن النبي صرح لهم بأن يعملوا باجتهاد آرائهم"

 

إذا لم يعلموا؟!

 

وإذا قال هذا البعض:

 

إن حكم الله تابع لآراء المجتهدين، وإن تباينت تلك الآراء واختلفت. فإذا لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله كانت آراء الناس هي الحق المعلوم.. وإن الرواية السابقة ناظرة لموافقة أو مخالفة الحق الموجود في كتاب الله وسنة رسوله فقط، دون ما لم يكن وارداً فيهما.

 

فإن الجواب لهذا البعض هو:

 

أ ـ إن هذا الكلام يستبطن التصويب في اجتهاد الآراء. والتصويب باطل بلا ريب.

 

ب ـ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:

 

(ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم يرد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الأمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً وإلِههم واحد! ونبيهم واحد! وكتابهم واحد!.

 

أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه)[98]!.

 

وروي عن عمر بن أذينة، وكان من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: دخلت يوماً على عبد الرحمن بن أبي ليلى بالكوفة، وهو قاض، فقلت: أردت أصلحك الله أن أسألك عن مسائل وكنت حديث السن.

 

فقال: سل يا ابن أخي عما شئت.

 

فقلت: أخبرني عنكم معاشر القضاة ترد عليكم القضية في المال والفرج والدم فتقضي أنت فيها برأيك، ثم ترد تلك القضية بعينها على قاضي مكة فيقضي فيها بخلاف قضيتك، وترد على قاضي البصرة وقضاة اليمن وقاضي المدينة فيقضون بخلاف ذلك، ثم تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم فتخبرونه باختلاف قضاياكم فيصوّب قول كل واحد منكم، وإلهكم واحد ونبيكم واحد ودينكم واحد، أفأمركم الله عز وجل بالاختلاف فأطعتموه؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم على إتمامه؟ أم أنزله الله تاماً فقصّر رسول الله (ص) عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟

 

فقال: من أين أنت يا فتى؟

 

قلت: من أهل البصرة.

 

قال: من أيها؟

 

قلت: من عبد القيس.

 

قال: من أيهم؟

 

قلت: من بني أذينة.

 

قال: ما قرابتك من عبد الرحمن بن أذينة؟

 

قلت: هو جدي.

 

فرحب بي وقربني وقال: أي فتى لقد سألت فغلظت، وانهمكت فعوّصت. وسأخبرك إنشاء الله.

 

أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ما ورد علينا من أمر القضايا مما له في كتاب الله أصل وفي سنة نبيه فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة، وما ورد علينا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فإنّا نأخذ فيه برأينا.

 

قلت: ما صنعت شيئاً لأن الله عز وجل يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}، وقال: {فيه تبيان كل شيء} [99]..

 

وبديهي أنه إذا لم يستطع الناس أن يكتشفوا الحق بأنفسهم فعليهم أن يرجعوا إلى العالمين به، الذين يتيقنون تأويله.. وهم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة.

 

16 ـ إنه يقول:

 

"إن الأحزاب بعد النبي (ص) هي التي جعلت قضية الخلافة قضية مركزية، وحداً فاصلاً فصل المسلمين عن بعضهم البعض.."

 

ونقول:

 

من الواضح: أن جعل قضية الخلافة قضية مركزية إنما كان من قبل الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم..

 

والأحاديث المتواترة عن رسول الله (ص) خير شاهد على ما نقول. وقد صرحت بذلك الآيات أيضاً.

 

ومنها قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} [100].

 

حيث اعتبر أن عدم إبلاغ أمر الإمامة والقيادة من بعده، يوازي عدم إبلاغ الرسالة نفسها من الأساس.. وليلاحظ قوله أخيراً: {والله لا يهدي القوم الكافرين} الذي جاء ليؤكد على أن من يقف في الموقع المناهض لهذا الأمر، فإنه يصبح في معسكر الكفر. ولا يكون في دائرة الإسلام، فضلاً عن الإيمان..

 

ونذكر من الأحاديث التي أكدت على محورية أمر الإمامة والولاية في الإسلام والإيمان ـ وهي أحاديث متنوعة، وكثيرة جداً ـ الحديث التالي:

 

محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

 

(كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه، ولا إمام له من الله، فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله) إلى أن قال:

 

(وكذلك ـ والله ـ يا محمد، من أصبح من هذه الأمة، لا إمام له من الله جل وعز ظاهراً عادلاً أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق.

 

واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، وقد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد)[101].

 

17 ـ إنه يفهم من كلام هذا البعض:

 

"أن قضية الخلافة هي التي تفصل المسلمين عن بعضهم البعض".

 

وقد اعتبر أن:

 

"هذا الانفصال لم يكن في عهد الخلافة، بل كان هناك تواصل من الذين اختلفوا حول قضية الخلافة.."

 

ونقول:

 

ألف: إنه لا شك في أن كل ما يختلف فيه الناس لا يمكن أن يكون جميع الفرقاء محقين فيه، فلا شك ـ والحالة هذه ـ من وجود مبطل في البين، وإذا كان الطرف الآخر ملتزماً بالحق، فلا بد من وقوع الفصل والانفصال بين الحق والباطل والمحق والمبطل.. وقد تحدث الله سبحانه في كتابه الكريم عن هذا التمايز والإنفصال ـ ربما في عشرات الآيات ـ كقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [102].

 

وقوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [103].

 

وقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور} [104].

 

وقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} [105].

 

وقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[106].

 

وقال: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [107].

 

وقال: {لا تستوي الحسنة ولا السيئة}[108].

 

وغيره كثير وكثير جداً.

 

ب ـ إنه قد نسب إلى الأحزاب أنهم هم الذين جعلوا قضية الخلافة قضية مركزية، فهل يقصد بالأحزاب: الشيعة؟ أم السنة؟ أم هما معاً؟

 

إننا نرجح أنه يقصد الشيعة، أو أنهم في جملة من يقصد، ولكن:

 

هل الشيعة، أتباع أهل البيت حزب بنظره؟ فإذا كانوا كذلك عنده، فإنهم ليسوا كذلك في واقع الأمر بل هم الصفوة المؤمنة، والملتزمة بما جاء به الرسول الكريم (ص) وهم الذين يحملون دين الإسلام الصحيح، وهم المحقون، المدفوعون عن حقهم؟!

 

وهل تصح مساواة من يصرّ على الالتزام بالحق بمن يصرّ على مجانبة الحق، ومحاولة منع أهله من الالتزام به؟!

 

ج ـ إن ما يقوله الشيعة في أمر الخلافة لا يختلف عما يقوله أئمتهم عليهم السلام ونبيهم (ص) فيها. فإذا كان ذلك يجعل الشيعة حزباً، فإنه يجعل أئمتهم عليهم السلام، ونبيهم الأكرم (ص) حزباً..

 

وليسمح لنا هذا البعض بأن نوجه إليه سؤالاً واحداً هنا: هل هو راض عن هذا الحزب أم ساخط عليه؟!

 

إننا نرجح أن يجيبنا بأنه ساخط عليه، وماقت له، لأن الأحزاب ـ بنظره ـ هي السبب في فصل المسلمين عن بعضهم البعض.

 

هـ ـ ما معنى تواصل الذين اختلفوا على الخلافة؟ هل معناه أنهم قد اعترفوا لبعضهم البعض بخطأهم فيما يعتقدونه. وأنهم قد تخلوا عن التمسك بالحق لصالح الباطل، أو عن الباطل لصالح الحق؟.

 

أم أن معناه أنهم لم يواجهوا العنف بالعنف، واهتموا بحفظ بيضة الإسلام، كما صرح به أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؟!

 

وهل تجد أن موقف الشيعة اليوم يختلف عن موقف إمامهم الأول علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟.

 

فهل تجدهم قد حاربوا أحداً ليرغموه على الاعتقاد بإمامة علي عليه السلام؟

 

أم تجدهم يدفعون بالتي هي أحسن ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؟ وأنهم ما زالوا مسالمين ومسلمين ما سلمت أمور المسلمين؟

 

وأن غاية ما يقومون به هو بيان الحق لمن يريد الحق.. وليس ثمة أكثر من ذلك..

 


الفصل الخامس التأويل.. استيحاء من الأئمة


80 ـ أقوال الأئمة (عليهم السلام) مجرّد آراء.

81 ـ عندما ننسب رأياً للإمام لا بد من معرفة وثاقته بسند صحيح.

سئل البعض:

 

هناك قول للإمام العسكري (ع) يقول: من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي.

 

فأجاب:

 

"من قال: إن الأمام العسكري (ع) قال ذلك؟، فلا بد لنا عندما ننسب رأياً إلى الأمام (عليه السلام) أن يعرف هل هو موثق بسند صحيح؟! الخ.."

 

وقفة قصيرة:

ونقول:

 

1 ـ إنك تلاحظ: أن هذا البعض يعتبر هذه الكلمة "رأياً" للإمام عليه السلام!! [109].

 

2 ـ إنه قد استنكر على هذا الرجل نسبة القول إلى الأمام من دون أن تثبت له صحة سنده.. مع أن هذا البعض نفسه ينسب الكثير الكثير من الأقوال والقضايا والأحداث إلى المعصومين وإلى غيرهم. ولا يمكنه أن يثبت صحة كثير من ذلك، بل هو عاجز عن إثبات صحة أكثرها من حيث السند.

 

بل إنه هو نفسه حين يسأل بعد صفحة واحدة من كلامه هذا فيقال له:

 

دعوتم كثيراً للتدقيق في الروايات التي تتحدث عن سيرة الحسين (ع)، خاصة المتعلق منها بواقعة كربلاء، والليلة ذكرتم: أن الحسين (ع) بكى على أعدائه، لأنهم يدخلون النار بسببه، فهل هي موثقة روائياً؟

 

يجيب بقوله:

 

"قلت: إن بعض الروايات تتحدث، وأنا لم التزم هذا. ولكن روحية الأمام الحسين (ع) وأخلاقيته وأريحته تسمح بذلك، فهو يعلم ما لا يعلمون، لأنه على يقين، ولأنه يرى الأمور على اليقين، وهم في الغي سادرون.

 

وربما كان مضمون الرواية، وانسجامه مع أخلاقيته دليلاً على وثاقة الرواية" [110].

 

ونسجل على هذا الكلام:

 

أولاً: إن مضمون الرواية لا يكون دليلاً على وثاقة الرواية، بل هو يرفع المانع أمام قبولها.. إذا تمت شرائط القبول.

 

ثانياً: قوله:

 

"وأنا لم التزم بهذا".

 

لا مجال لقبوله منه، لأنه أتى به ليستدل على قضية أطلقها بصورة يقينية، فكيف تكون الدعوى يقينية، إذا كانت تستند إلى أمر لم يلتزم هو به.

 

وهذه هي عبارته:

 

"لأن الأمام الحسين (ع) لا يملك إلا أن يحب، ولذلك يقول بعض رواة السيرة: إنه كان يبكي على الذين يقاتلونه، لأنهم سوف يتعرضون إلى عذاب الله بسببه؛ فأي قلب أرحب، وأوسع وأرق من هذا القلب؟، ولذلك لا نملك إلا أن نحب الحسين (عليه السلام)" [111].

 

ثالثاً: كيف جاز له أن يورد أمراً، ويستدل به، ولا يعّرف الناس أنه لا يلتزم به.

 

ثم ينكر على ذلك الرجل نسبة ذلك الحديث إلى الأمام؟! فكيف جرّت الباء عنده، فأورد حديثاً، واستدل به على الناس العوام.. وأنكر على العوام نفس ما فعله هو معهم؟!.

 

رابعاً: إن على من يصف الحديث المروي عن المعصوم بأنه رأي للمعصوم، أن يعذرنا إذا قلنا: إن هدفه من هذا التوصيف هو إثارة الشكوك، والإيحاء بـوجـود أكـاذيب ومختلقات في المروي عنهم (عليهم السلام). وقد قرأنا في هذا الكتاب أنه يقول:

 

"اعتقد أنه يجب أن نستوحي القرآن، كما كان الأئمة يستوحونه"[112].

 

ويقول:

 

"إن المشكلة هي أن الكذب على أهل البيت كان كثيراً، ولذلك فهناك مشكلة السند".

 

ويقول:

 

"إن هناك ركاماً من الأكاذيب الخ.."[113].

 

ثم هو يقول:

 

"إن علينا أن ننفتح على أصالة التراث الإسلامي الفكري، الذي تركه أهل البيت (ع) لنتنبّه إلى ما وضعه الوضاعون، وكذب فيه الكذابون. وهذا ما يدعونا إلى رفض الأحاديث التي تنسب زوراً وبهتاناً إلى أهل البيت، وقد حذّرنا الأئمة من ذلك الخ.." [114].

 

خامساً: لا ينكر أحد أن هناك من كذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) حتى صعد (صلى الله عليه وآله) المنبر في حال حياته، وحذر الناس من أنه قد كثرت عليه الكذابة. وكذلك كان هناك من يكذب على الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

 

ولكن لماذا ننسى جهود الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، والعلماء الأتقياء الأبرار، الذين تصدوا للوضاعين، ورصدوا الكذابين، وعرفوا الناس بهم، وبيّنوا عبر القرون المتمادية من الجهود المشكورة صحيح الحديث، من ضعيفه، وميزوا الأصيل من الدخيل؟!

 

 

 

82 ـ هناك ما يشبه الإستيحاء للأئمة !!

 

83 ـ إستيحاءات الأئمة مجرد اجتهادات.

 

84 ـ الأئمة (ع) يستوحون القرآن.

 

85 ـ هو يستوحي القرآن كما يستوحيه الأئمة (ع).

 

وحول آية: {ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا}[115]، قال الأمام الباقر (ع): تأويلها الأعظم: من نقلها من ضلال إلى هدى.

 

فيعقب هذا البعض على ذلك بقوله:

 

"فالأمام في ذلك يستوحي الحياة المعنوية من الحياة المادية".

 

ويتابع قائلا:

 

"أعتقد: أنه يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة يستوحونه" [116].

 

ويقول البعض في تفسير قوله تعالى {كهيعص}:

 

"..وقد وردت بعض الأحاديث المأثورة في تأويل هذه الكلمة عن بعض أئمة أهل البيت، فقد جاء فيما روي عن الأمام جعفر الصادق ـ فيما رواه عنه سفيان بن سعيد الثوري ـ قال: {كهيعص} معناه، أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد.

 

وعن ابن عباس ـ كما في الدر المنثور ـ معناه كريم هاد حكيم عليم صادق وربما كان هذا اجتهاداً من ابن عباس، كما قد يكون الأول استيحاء أو ما يشبه ذلك، على تقدير صحة الرواية" [117].

 

ويقول أيضاً:

 

"..{ونُري فرعون وهامان} فيما نريهم من مظاهر القوة ومواقعها للمستضعفين الذين يتحركون في خط المواجهة لهما ولسلطتهما {وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} ويخافون، فيما يخافه الطغاة من تنامي قوة المستضعفين وتعاظمها بحيث تشكل خطراً مستقبلياً على ما يملكونه من سلطة الظلم وقوة الاستكبار على يد شخص من بني إسرائيل.

 

وقد وردت بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (ع) في الاستشهاد بهذه الآية في موارد معينة، كما في مسألة الأمام المهدي، ونحوها.. والظاهر أنها من باب الاستيحاء والتطبيق، باعتبار أن الآية توحي بأن سيطرة المستكبرين لا بد أن تعقبها سيطرة المستضعفين.. مما يجعل من القضية سنّة إلهية.. ويوحي بأن النهاية في الدنيا سوف تكون للمستضعفين الذين يكـونون ورثـة الأرض وخلفاء الله"[118].

 

وقفة قصيرة:

إن لنا هنا ملاحظات:

 

الأولى: إن هذا النص قد عرَّفنا: أن هذا البعض يقصد بكلمة (الإستيحاء): الإجتهاد. وذلك لأن ما نقله عن ابن عباس في تفسير كلمة {كهيعص} قد وصفه بأنه اجتهاد، ثم ذكر أن نفس هذا التفسير منقول عن الأمام الصادق (ع)، ولكنه وصفه بأنه (استيحاء) من قبل الأمام.

 

ومعنى ذلك هو أنه يلطِّـف التعبير بالنسبة للأئمة عليهم السلام.

 

وربما يمكن تأييد ذلك: بأنه هو نفسه يرى أن باستطاعته أن يستوحي القرآن كما كان الأئمة عليهم السلام يستوحونه[119]، فإن كان يريد بالإستيحاء غير الاجتهاد فلابد أن يبيِّن لنا معناه، لنعرف كيف نتعامل معه، فإن كان هذا الأمر من مختصاتهم (ع) فلم ادعاه هو لنفسه إذن؟! فهل إن الله سبحانه وتعالى قد خصه بذلك إلى جانبهم، فادعى لنفسه ما هو لهم و له أيضاً؟! وكيف يمكنه أن يثبت لنا ذلك؟!.

 

وإن كان الإستيحاء هو نفس الاجتهاد، خرجنا بنتيجة، حبذا لو لم تتراءَ لنا من كلامه، لاسيما وأنه لم يزل يكرر على الناس قوله: إن الأئمة رواة لما عند رسول الله (ص). فإن نسبة الاجتهاد إليهم عليهم السلام أمر مرفوض جملة وتفصيلا، بل ما عندهم هو علم من لدن عليم حكيم.

 

هذا، ولا يفوتنا التنبيه على أنه حيث نسب الإستيحاء إلى نفسه، وفسر التأويل به، فقد نسب لنفسه تأويل القرآن، وعدّ نفسه من جملة الراسخين في العلم الذين يقول تعالى عنهم: {ولا يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم}، مع أن روايات أهل البيت عليهم السلام وقراءتهم للآية تدل على أن ذلك من مختصاتهم عليهم السلام.

 

الثانية: إننا لم نفهم المراد من (ما يشبه الإستيحاء) الذي نسبه إلى الأئمة (ع)، فهل يريد به الإجتهاد في التطبيق للمفهوم العام على موارده، فهذا لا يصح نسبته إلى الأمام كما هو معلوم، أم أنه يقصد به شيئاً آخر؟‍‍ ‍‍‍

 

حبذا لو أوضح لنا ذلك لننظر فيه أيضاً.

 

الثالثة: إن الأمام (عليه السلام) يقول في الرواية المتقدم ذكرها في كلام هذا البعض: تأويلها الأعظم كذا.. وهذا البعض يعتبر هذا استيحاءً، ثم يرى لنفسه الحق في استيحاء القرآن كما كان الأئمة يستوحونه!!

 

86 ـ التأويل هو الإستيحـاء للمعنى من خلال التقاء المعاني في الأهداف.

87 ـ التأويل لا يعني المعنى الباطن للكلمة.

88 ـ ليس للقرآن بطون، بل أنزل ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.

يقول البعض:

 

قد جاء عن الأمام الباقر عليه السلام فيما رواه عنه الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول الله عزّ وجل في كتابه: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} قال: من حرق أو غرق، قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: ذلك تأويلها الأعظم ومن خلال ذلك نفهم أن التأويل لا يعني المعنى الباطني للكلمة فيما يحاول البعض أن يفسره من بطون القرآن فإنه قد أنزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. من دون أن يكون فيه أي إشارات رمزية.. فيما تعارف عليه الأسلوب الرمزي الذي يحمّل الكلمة غير معناها، ويجري بها في غير مجالها من دون أساس للاستعارة والكناية والمجاز.. بل التأويل يمثل عملية الإستيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها في الأهداف التي يستهدفها القرآن في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها اليهم.. كما في هذه الآية التي تحدثت عن الحياة والموت، وعن الناس الذين يعتدون على الحياة، وعن الناس الذين ينقذونها.

 

.. فقد يستوحي منها الإنسان الفكرة فيمن ينقلون الناس من الضلال إلى الهدى، أو بالعكس، أو فيمن ينقلونه من الجهل إلى العلم أو بالعكس، وذلك لأن الله قد أشار إلى ذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، كما عبر عن الذين يعيشون الضلال في واقعهم بالموتى في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين}، وهكذا يمكن لعملية الإستيحاء هذه أن تأخذ من الحياة والموت كل الأجواء التي تشارك هذين المعنيين في تحويل الإنسان من حالة الجمود إلى حالة اليقظة والحركة على مستوى الفكر والعمل والحياة"[120].

 

وقد قال في موضع أخر عن هذه الرواية المروية عن الأمام الباقر عليه السلام:

 

"فالإمام في ذلك يستوحي الحياة المعنوية من الحياة المادية"[121].

 

وقفة قصيرة:

ولنا هنا مع ما ذكره هذا البعض كلام كثير، لكن بما أن المقام ليس مقام تحقيق وتفصيل، فإننا سوف نقتصر على الإلماح إلى ثلاث نقاط، آثرنا الوقوف عندها، وهي التالية:

 

1 ـ إن هذا الرجل قد حاول أن ينكر بطون القرآن ـ واعتبرها من المحاولات التفسيرية لبعضهم ـ وقد برهن على مدّعاه هذا بمقولة أن القرآن قد أنزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي، من دون أن يكون فيه أي إشارات رمزية الخ..

 

2 ـ قوله:

 

"بل التأويل يمثل عملية الإستيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها في الأهداف التي يستهدفها القرآن، في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها إليهم."

 

3 ـ ثم إنه قد ذكر في مناسبات عديدة أن الأئمة عليهم السلام كانوا يستوحون القرآن، وعقّب على ذلك في بعض الموارد بقوله:

 

"أعتقد أننا يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة يستوحونه"[122].

 

ونحن نرى ذلك كله إخلالاً في جهات هامة، حبذا لو سنحت الفرصة لنا للتوسع في الحديث عنها وفيها، لاسيما بعد أن عرفنا أنه يقصد بالإستيحاء: "الإجتهاد"، غير أن علينا أن نتوقف قليلاً أمام تبسيطه القضايا إلى حد يجعل من فهم القرآن أمراً طبيعياً حيث يقول: فإنه قد نزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. إذ إن الأمر ليس بهذه البساطة التي يدعيها، لأنا نبقى جميعاً وبلا استثناء بحاجة إلى النبي (ص)، وإلى الأمام (ع) ليفسر لنا القرآن ويبقى أكثر الناس بحاجة إلى العلماء ليفسروا لهم ما يمكنهم تفسيره. كما أن في القرآن آيات لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، الذين هم الأنبياء والأوصياء، فليس التأويل الذي يعلمه الأمام مجرد عملية استيحاء للمعنى، بل هو علم من ذي علم، على حد تعبيرهم عليهم السلام.

 

بطون القرآن و الإستيحاء والتأويل:

وعن "أن للقرآن بطوناً" نقول:

 

قد صرّحت الروايات المتواترة بذلك، فلا معنى لإنكار ذلك. ولا صحة لما يحاوله البعض من تفسيره لبطون القرآن بالإستيحاءات، بل هي حقائق ثابتة أخبر المعصوم عنها، وليست مجرد استيحاءات.

 

ومهما يكن من أمر فإننا نشير هنا إلى بعض ما يرتبط بالتأويل، ثم إلى بطون القرآن لنؤكد على حقيقة أننا بحاجة إلى المعصوم، ليعلّمنا التأويل، وليكشف لنا عن غوامضه وبطونه، ويفسره لنا، لأنه لا يتظنّى تأويله، بل يتيقّن حقائقه كما في الرواية عنهم (ع).

 

أما ما يستوحيه غيرهم فهو من التظني، وربما يصل إلى حد الحدس والتخمين، بل و التخرص و الرجم بالغيب.

 

تأويل القرآن:

قد يطلق التأويل على التفسير وبيان الوجه الخفي لما ظهر من فعل أو نحوه، وذلك كما في قول العبد الصالح لموسى {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وفيما عدا ذلك فإن المتأمل في آيات القرآن يجد أنه أطلق وأريد منه معنيان:

 

أحدهما: تحقّق مصداق ما تحدّث عنه، وظهور حقيقته في المستقبل، كما في قوله تعالى:

 

{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء؟} [123].

 

وقوله تعالى:

 

{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله}[124].

 

وقال تعالى حكاية عن يوسف:

 

{لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} [125].

 

الثاني: رجوع المتشابه إلى المحكم من آيات القرآن، كما جاء في قوله تعالى:

 

{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب}[126].

 

فظهر مما تقدم:

 

1 ـ أن التأويل يحتاج إلى تعليم إلهي ولا يصح فيه التخرص والتخمين والتظنّي، فقد قال تعالى بالنسبة ليوسف:

 

{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب}[127].

 

وقال تعالى:

 

{ربِّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض، أنت وليّي في الدنيا والآخرة}[128].

 

وقال سبحانه:

 

{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته، أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره}[129].

 

2 ـ إن آية سورة آل عمران المتقدمة {لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} تفيد أن العلم بتأويل آيات القرآن مقصور عليه سبحانه وتعالى، وعلى الراسخين في العلم، باعتبار أن الواو عاطفة، كما ظهر من الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية، فعن أبي عبد الله عليه السلام: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله[130].

 

وعن الباقر أو الصادق عليهما السلام في تفسير الآية: فرسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، والأوصياء من بعده يعلمونه كله الخ.. [131].

 

وعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (ع): {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}: نحن نَعلَمُهُ [132].

 

وثمة روايات أخرى تدل على ذلك فلتراجع في مظانها.

 

3 ـ وعن الأمام الحسن عليه السلام، في خطبة له بعد البيعة له ذكر فيها أنهم أحد الثقلين: التالي كتاب الله فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوَّل علينا في تفسيره، لا نتظنى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة الخ..[133].

 

وما ذلك إلا لأن القرآن ـ كما قال رسول الله (ص) ـ لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه.ولعمري بعد قول الأمام (ع):" لا تنتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه "، كيف يدّعي البعض لنفسه تأويل واستيحاء القرآن كالإمام (ع) !؟.

 

بطون القرآن:

أما بالنسبة لبطون القرآن فنقول:

 

لقد ثبت وجود بطون للقرآن بالنصوص الكثيرة الواردة من طرق الشيعة وغيرهم، ونذكر منها ما يلي:

 

في خطبة مروية عن النبي صلى الله عليه واله وسلم يقول: له ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه [134].

 

وعنه صلى الله عليه واله وسلم:

 

ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع [135].

 

قال ابن المبارك: سمعت غير واحد في هذا الحديث:

 

ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، يقول: لها تفسير ظاهر، وتفسير خفي، ولكل حد مطلع، يقول: يطلع عليه قوم يستعملونه على تلك المعاني، ثم يذهب ذلك القرن، فيجيء قرن آخر، فيطلعون منه على معنى أخر، فيذهب عليه ما كان قبلهم، فلا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة[136].

 

وعن ابن عباس قال:

 

إن القرآن ذو شجون، وفنون، وبطون، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل[137].

 

وعن الحسن البصري:

 

ما أنزل الله عز وجل آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع [138].

 

وعن ابن مسعود:

 

إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

 

وأوضح من ذلك في الدلالة على ما ذكرناه، ما نقل عن أبي الدرداء: "لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة"[139].   

 

وقال علي (عليه السلام) لابن عباس، حينما أرسله لِحجاج الخوارج: "القرآن حمال ذو وجوه"[140].

 

وليراجع ما روي عن الأمام أبي جعفر (عليه السلام) حول أن للقرآن ظهراً وبطناً في كتب الأمامية أعزهم الله تعالى[141].

 

بل قال بعضهم: إن الأخبار تدل على أن "للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين" [142].

 

وقد ألفوا كتباً فيما تضمنه القرآن، من علم الباطن [143].

 

ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} [144].

 

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) حول القرآن:

 

"فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون"[145].

 

وعنهم عليهم السلام:

 

"ظاهره أنيق، وباطنه عميق".

 

وعنهم عليهم السلام:

 

"ظاهره حكم، وباطنه علم"[146].

 

وما يشير إلى هذا المعنى كثير جداً لا مجال لاستقصائه، ولعلّ إلى جميع ذلك يشير ما ورد عن الأمام الصادق عليه السلام، وعن الأمام الحسين عليه السلام: كتاب الله على أربعة أشياء، على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء [147].

 

أهل البيت عليهم السلام يعلمون بطون القرآن:

وقد دلت الأحاديث السابقة على أن علياً عليه السلام و هو نفس النبي (ص) وأبناءه الأئمة الهداة عليهم السلام يعرفون حقائق القرآن ولطائفه، وبطونه، وهم الواقفون على أسراره ؛ السابرون لأغواره، الخائضون لغماره، والمستخرجون للكنوز من أعماق بحاره.

 

ومما يدل على وجود البطون، وعلى أن الأئمة عارفون بها، واقفون عليها ما روي عن علي عليه السلام: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب [148].

 

وعنه عليه السلام: لو شئت لأوقرت بعيراً من تفسير: بسم الله الرحمن الرحيم [149].

 

وفي حديث آخر عنه: لو شئت لأوقرت أربعين بعيراً من شرح بسم الله [150].

 

وعن الغزالي عنه عليه السلام أنه لو أذن له الله ورسوله لشرح معاني ألف الفاتحة حتى يبلغ أربعين وقراً أو جملاً[151].

 

وفي نص ثالث عنه عليه السلام: لو شئت لأوقرت ثمانين بعيراً من معنى الباء [152].

 

وعن ابن عباس قال: يشرح لنا علي عليه السلام نقطة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم ليلة ؛ فانفلق عمود الصبح، وهو بعد لم يفرغ [153].

 

و نقول:

 

1 ـ إنه قد لا يكون ثمة منافاة بين حمل البعير الواحد، والأربعين والثمانين بعيراً؛ إذا كان عليه السلام قد قال ذلك في مناسبات مختلفة، واقتضت كل مناسبة منها أن يشير إلى مستوى معين من المعاني والمعارف، فإن ذكر الأقل لا ينافي ذكر الأكثر ولا يناقضه، فهو لو شاء لأوقر بعيراً، ولو شاء لأوقر أكثر من ذلك إلى الأربعين، بل لو شاء لأوقر ثمانين بعيراً أيضاً.

 

2 ـ إن سعة علم علي عليه السلام وغزارته مما لا يختلف فيه اثنان؛ كيف وهو باب مدينة علم النبي (ص)، وقد علمه رسول الله (ص) ألف باب من العلم، يفتح له من كل باب ألف باب. وقد أثبت عليه السلام عملياً ما يقرّب إلى الأذهان معقولية تلك الأقوال والنقول و واقعيتها.

 

3 ـ إنه عليه السلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها، ويكتشف أسرار الكون، والحياة، ويتعامل معها من موقع العلم والمعرفة، وليقود مسيرة الحياة من موقع الطموح، والهيمنة الواعية والمسؤولة.

 

4 ـ إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، وهي السبع المثاني التي جعلت عِدْلاً للقرآن العظيم في قوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [154] كما روي [155].

 

كما أن ذلك ليس بعيداً عن بسم الله الرحمن الرحيم، أعظم آية في كتاب الله العزيز، كما روي عن الإمامين الصادق، وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام [156].

 

أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدى صحته، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه السلام بعدة عقود من الزمن. إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.

 

مناوئوا علي عليه السلام وحساده:

وحين رأى حساد علي عليه السلام، ومناوئوه المتسترون: أن علياً عليه السلام قد ذهب بها فخراً ومجداً وسؤدداً في جميع المواقع، وفي مختلف الجهات، انبروا ليدَّعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي (ع)، ومن علم علي (ع)، رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم، ويعرف نوع ومستوى ما يتداولونه من أمور عادية مبتذلة، أطلقوا عليها اسم العلم، وهي أبعد ما تكون عنه، وذلك بسبب ما فيها من شوائب وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان؛ فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات وادعاءات استعراضية خاوية.

 

فقد ادعى أعظم مفسريهم الفخر الرازي: أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة[157].

 

كما يدعون: أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعاً وسبعين ألف علم

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها