مملكة الإيمان

 

قصّة سيدنا داود و سليمان عليهما السلام

توفي طالوت و أصبح داود ملكاً ، لم يغرّه الملك ، بل شكر الله سبحانه على ذلك .

الله سبحانه انزل عليه الزبور كتاباً بعد التوراة ، علّمه أشياء كثيرة ، علمه لغة الطيور ، و منحه صوتاً جميلاً مؤثراً .

اذا سمع الناس صوت داود دخل الايمان في قلوبهم . . صوته كان يشبه ساقية جميلة . . يشبه خرير الجداول ، و تغريد الطيور في الربيع .

الله سبحانه أيضاً ألانَ له الحديد . . الحديد ذلك المعدن الصلب ، أصبح في يد داود ليناً ، كان داود يصنع من الحديد دروعاً للمجاهدين في سبيل الله .

اهتم داود بتربية الخيل ، فالحصان كان سلاحاً قوّياً ، لأن الفرسان يقاتلون في سبيل الله و الحق .

كان داود اذا رتّل الزبور ، استجابت له الطيور فراحت تسبح لله ، و استجابت الجبال ايضاً .

وكان داود حاكماً عادلاً ، كان يحكم بين الناس بشريعة الله ، و كان المظلوم يأخذ حقه كاملاً ، لهذا عاش الناس في سعادة .

كان داود يمضي ثلث الليل في عبادة الله . . كان يحبّ الله . . الله سبحانه كان يحبّه .

كان يصوم يوماً و يفطر يوماً . . و كان يذكر الله دائماً .

عندما يستيقظ صباحاً يسبّح الله فكانت الجبال تردد تسبيحه ، و عندما يقرأ الزبور كانت الطيور تشدو معه .

داود أسّس دولة قوّية . . دولة للمؤمنين بالله و شريعته . . داود كان ملكاً و كان نبيّاً . . كان وقته منظماً . . حياته منظمة و أعماله منظمة ، يقسِّم وقته الى اربعة أقسام :

 

قسم لانجاز حاجاته الشخصية .

قسم للعبادة .

قسم للفصل في المرافعات .

قسم لتربية ابنائه .

الامتحان :

داود يعيش في قصره ، وقد وقف الحراس أمام الباب ، كان الحراس لا يسمحون لاحد في الدخول على داود في وقت عبادته .

في ذلك الوقت كان داود جالساً في المحراب ، فجأة ظهر رجلان أمامه .

خاف داود لأنهما دخلا عليه في غير الوقت المخصص .

لهذا قال أحدهما :

لاتخف . . اننا لا نريد بك سوءً . . جئنا لتفْصِلَ في قضيتنا ، سأل داود بعد أن اطمأن :

وما هي ؟

قال الرجل :

ان هذا أخي عنده تسع و تسعون نعجة وعندي نعجة واحدة . . طمع بنعجتي فطلبها مني و مع ذلك فقد كانت حجته قوّية .

تأثر داود بشدّة و قال بغضب .

لقد ظلمك أخوك . . كيف يريد أن يأخذ نعجتك الوحيدة و عنده قطيع يتألف من تسع و تسعين نعجة ؟!

استعجل داود في الحكم ، لم يسأل الطرف الآخر عن حجته ! كان عليه أن يسال الطرفين المتخاصمين !

فجأة اختفى الخصمان ، و انتبه داود الى خطأه ، لقد كان ذلك امتحاناً الهياً له . ان عليه أن يسمع لكلا المتخاصمين .

عرف داود ان الله اراد امتحانه ، فاستغفر الله لما بدر منه في عجلته باصدار الحكم .

الحكم الجديد :

رزق الله داود صبياً سمّاه سليمان ، كبر سليمان في ظلال ابيه .

الأب علم ابنه الخلق الكريم و ربّاه على العبادة و حبّ الخير ، و الشكر لله .

وكبر سليمان و أصبح فتىً ، كان ذكياً و كان مؤمناً .

الله سبحانه أراد أن يظهر فضل سليمان ، و يعرّف الناس انه وصي ابيه داود .

ذات ليلة . . كان الناس نيام ، الفلاحون ، و رعاة الأغنام الجميع كانوا نائمين .

خرج قطيع الغنم من حضائره ، و اتجه الى مزرعة الكروم ، راحت الماشية تلتهم عناقيد العنب ، و تعبث في الزروع .

في الصباح عندما استيقظ صاحب الكروم و انطلق الى بستانه و مزرعته رأى الاغنام ما تزال هناك و هي تملأ المكان بثغائها .

شعر الرجل بالغضب و اتجه الى صاحب الغنم و اتهمه ، برعي ماشيته في مزرعته .

وحدثت مشاجرة بين الرجلين .

قال صاحب الغنم لنذهب الى النبي ، و نحتكم عنده ، في الطريق قال صاحب المزرعة :

ان عليك أن تحفظ غنمك فلا تتركها ترعى كما تشاء .

أجاب صاحب الغنم :

وانت عليك أن تحفظ مزرعتك .

قال صاحب المزرعة :

انا احفظها في النهار فقط أما في الليل فلا يوجد من يرعى ماشيتة ليلاً .

وفي تلك اللحظة و صلا الى قصر الملك داود ، كان النبي جالساً للقضاء بين الناس .

عندما حان دور صاحب الكروم تقدّم الى داود ( عليه السلام ) و عرض عليه القضية .

واستمع داود الى التفاصيل ، فاصدر حكم الشريعة في هذه القضية ، قال داود :

ان على صاحب الغنم أن يسلّم أغنامه الى صاحب المزرعة لأنها الحقت أضراراً بالزروع .

أراد الله سبحانه أن يظهر فضل سليمان بن داود و أن يعرّف الناس بانه وصي النبي ، فقذف في قلبه حكماً جديداً قال سليمان :

هناك حكم أرفق يانبي الله !

قال داود :

ما هو يابني ؟

قال سليمان :

يُسلّم صاحب المزرعة الغنم عاماً كاملاً فيتتفع من صوفها و لبنها . و يأخذ ما يَلِدُ منها .

و على صاحب الغنم أن يُسلّم المزرعة ليصلح ما أفسدت غنمه من زروعها .

فرح داود بحكم سليمان و أدرك أن الله سبحانه إنّما يريد أن يظهر فضله للناس و يعرّفهم بانه الوصي و الخليفة بعده . لهذا انفذ داود حكم سليمان . و ظل هذا الحكم نافذاً منذ ذلك الزمن .

دام حكم داود أربعين سنة حكم خلالها بما أنزل الله . و عمّ الخير و الأمن المناطق الخاضعة لحكمه .

عندما شعر بوفاته أوصى الى ولده سليمان ، الله سبحانه اختار سليمان للخلافة لأنه كان مثل أبيه في سيرته و أخلاقه و اخلاصه و حبه للناس .

سليمان الحكيم

كان سليمان فتى مؤمناً عندما نهض بمسؤولية الحكم و إدارة شؤون البلاد .

راح سليمان يعزّز من قدرات جيشه لا من أجل الاحتلال و السيطرة على بلاد الغير ، و لكن من أجل نشر كلمة الاسلام في الأرض .

كان سليمان نبياً و كان حكيماً و ملكاً ، الله سبحانه عندما رأى سليمان يزداد تواضعاً و يزداد شكراً ضاعف ملكه ، و بارك في بلاده فعمّ الخير .

 

الله سبحانه منحه أشياء لم يمنحها غيره لأنه كان يشكر الله .

سخر له الرياح العاصفة ، كان يأمرها أن تهبّ فتهبّ و كان يأمرها أن تجري فتجري .

الله سبحانه سخّر له أيضاً الشياطين ، و كانوا يعملون تحت أوامره ، كانوا يغوصون له في أعماق البحار و يستخرجون الكنوز ، يستخرجون اللؤلؤ و المرجان ، و كانوا يصنعون له التماثيل الجميلة و المحاريب .

كان سليمان يفكر في بناء دولة قوّية . . دولة تحمي المؤمنين بالله ، فدعا اليه أن يفتح له أسرار العلوم .

الله سبحانه علمه الكثير من أسرار العلم ، و علّمه لغة الطيور و الحيوانات .

لهذا انتعشت الزراعة ، و بنيت السدود ، و أصبح تحت قيادته جيش كبير جنود من الأنس و من الجن .

ومن أجل أن يعكس هيبة الايمان في قلوب الأعداء ، أمر سليمان بأن يصنعوا له عرشاً فريداً .

وبدأ الجن و الانس ينفذون أمر سليمان ، فاحضروا خشب الابنوس و الذهب و العاج و آلاف الاحجار الكريمة .

 

فصنعوا عرشاً مزيناً بالذهب و العاج و مرصعاً بالاحجار من الياقوت و الزمرد و غيرها .

كما صنعوا تمثالين لأسدين مهيبين ، و في أعلى العرش نسرين ناشرين اجنحتهما .

نملة سليمان :

خلق الله الانسان ، و خلق الحيوان ، هو خالق كل شيء عندما ننظر حولنا نجد كثيراً من المخلوقات ، هناك مخلوقات صغيرة تعيش بقربنا . . مخلوقات لا نحس عندما تمرّ بقربنا و لا نكاد نراها إلاّ اذا دققنا النظر . .

 

انها النمل . . النمل يعيش جماعات . . انها امّة تعيش و تعمل ، و تحارب ، و تدافع عن نفسها .

حياتها منظمة ، مليئة بالعمل و السعي ، تجمع الطعام في الصيف و توفره للشتاء .

ان لهذا المخلوق اللطيف قصة طريفة مع سليمان ( عليه السلام ) .

ذات يوم ، كان سليمان يقود جنوده للجهاد في سبيل الله .

كان طريق الجيش يمرّ بوادي يعيش فيه النمل ، كانت سنابك الخيل تهز الأرض ، كان النمل يعمل كعادته في الوادي . .كان البعض يجمع الطعام ، و كان البعض الآخر يعمل داخل البيوت .

وكانت هناك نمله صغيرة تعمل . شعرت باهتزاز الأرض و عرفت ان جيش سليمان في طريقه الى الوادي . وقفت النملة و صاحت محذرة :

يا أيّها النمل ان جيش سليمان في الطريق ! هيّا عودوا الى مساكنكم . . و إلاّ فسيسحقكم الجنود و هم لا يشعرون ، كانت النملة فوق الشجرة و تنظر الى الأفق ، و ظهر سليمان و جنوده .

نظر سليمان الى النملة كانت ما تزال تطلق صيحات التحذير .

الله سبحانه علم سليمان لغة النمل لهذا ابتسم للنملة .

نزل سليمان من حصانه و سجد لله ثم رفع رأسه و نظر الى السماء و قال :

 

{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } .

أصدر سليمان أمره الى الجنود بعدم دخول الوادي و اتخاذ طريق آخر .

كان النمل خائفاً لأن كثيراً من بيوته سوف يتحطم تحت خوافر الخيل و أقدام الجنود .

و لكنّ النملة أخبرتهم بما حصل ففرحوا ، و دعوا الله أن ينصر سليمان و جنوده .

و مضى جيش سليمان في طريقه مجاهداً في سبيل الله ، و عاد النمل يعمل في الوادي بسلام .

انباء من سبأ :

كان جيش سليمان يتألّف من الناس المؤمنين و اضافة الى الناس كان هناك الجن يعمل في خدمته و الطيور أيضاً . فالهدهد مثلاً كان يساعد الجيش في البحث عن الماء .

 

و الهدهد يعرف بحاسته التي منحها الله له أن في هذا المكان ماء يجري تحت الأرض .

لهذا يحطّ الهدهد على المكان و يأتي العمال فيحفرون و يستخرجون المياه .

ذات يوم أمر سليمان بحشد جيشه ، و جاء المؤمنون من الناس و حضر الجن و الطيور .

راح سليمان يتحدث عن ملكه الكبير و قال ان ذلك كله هو هبة من الله ، ان من يشكر الله فان الله سبحانه سيرزقه . . قال لهم :

لقد علّمنا الله منطق الطير و أعطانا من كل شيء .

في الأثناء انتبه سليمان الى أن الهدهد لم يحضر بعد . كل الطيور حضرت إلاّ الهدهد .

تساءل النبي ( عليه السلام ) :

مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ؟!

نظرت الطيور الى بعضها البعض و قالت في نفسها : إن الهدهد قد ارتكب خطأ كبيراً .

قال سليمان :

لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لاذبحنّه ، إلاّ اذا جاءني بعذر مقبول و حجة و اضحة تبرّر غيابه .

 

مضت أيام و ظهر الهدهد . . الطيور أخبرته بما حصل فخاف على نفسه من عقوبة الملك الحكيم .

و لكن أين كان الهدهد حقاً ؟ سوف نعرف ذلك عندما يذهب الهدهد الى سليمان و يخبره .

عرف الهدهد ان حياته في خطر و انه مهدد بالذبح اذا لم يقدّم عذراً مقبولاً الى النبي .

طار الهدهد الى القصر و حطّ قرب الباب . . استأذن الحراس و دخل . .

راح يمشي مطرقاً برأسه و جناحاه يخطان فوق البلاط المرمري كل ذلك علامة الندم و الاعتذار .

سأل النبي :

أين كنت أيها الهدهد ؟

قال الهدهد و هو يرفع رأسه و يحدّثه بأنباء رحلته المثيرة قال :

ذهبت الى مملكة سبأ . . و جئتك بانباء هامّة ، رايت بلاداً كبيرة و امّة عظيمة ، و رأيت ملكة تحكمهم رأيتها تجلس على عرش عظيم .

كان سليمان يصغي باهتمام الى الاخبار المثيرة قال الهدهد :

رأيت الملكة و اسمها بلقيس تسجد للشمس من دون الله كل الناس هناك كانوا يعبدون الشمس . . لقد خدعهم الشيطان فوسوس لهم بان الشمس هي مصدر الوجود !

تألّم سليمان و قال :

الاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون . . الله لا إله إلاّ هو رب العرش العظيم ؟!

و راح الهدهد يتحدّث عن مشاهداته في تلك البلاد ، نظر اليه سليمان و قال :

سوف نعرف ما إذا كنت صادقاً أو كاذباً .

قال سليمان ذلك و نهض ليكتب رسالة الى ملكة سبأ ، أما الهدهد فقد اطمأن على مصيره انه لن يعاقب على مافعل فاستأذن الملك سليمان ليرتاح من عناء رحلته على أن يعود غداً لحمل الرسالة .

كل الطيور كانت تتحدث عن اكتشاف الهدهد ، لقد قام برحلة مثيرة لم يقم بها الجن و الأنس . . حتى سليمان لم يكن يعرف بوجود  تلك المملكة و لا بوجود أمّة من البشر تعبد الشمس من دون الله !

رحلة الى اليمن : 

في الصباح حضر الهدهد الى القصر و حمل الرسالة ، كانت الرسالة موضوعة في مظروف من الذهب و كانت مختومة .

انطلق الهدهد مرّة أخرى يعبر المسافات الشاسعة الممتدة من فلسطين الى اليمن .

عندما ننظر في الخارطة اليوم نتعجب من هذه الرحلة ! كيف قام الهدهد بها ؟ كيف قطع تلك الصحاري ، و عبر سلاسل الجبال الشاهقة ؟!

راح الهدهد يقطع المسافات الشاسعة متحمّلاً متاعب الرحلة في سبيل إعلاء كلمة الله و نشر التوحيد .

و وصل الهدهد مملكة سبأ في اليمن ، و اتجه مع طلوع الشمس الى قصر بلقيس ملكة اليمن القوّية .

كانت بلقيس قد استيقظت من نومها ، اتجهت ببصرها نحو الشمس التي ظهرت من النافذة .

سجدت للشمس تؤدي لها صلاتها كل صباح .

في تلك اللحظة دخل الهدهد من النافذة ، و القى الرسالة على عرش الملكة .

انتبهت بلقيس الى شيء يتألق فوق العرش ، أخذت المظروف الذهبي و فتحته دهشت عندما وقع بصرها على رسالة بخط جميل .

كان الهدهد يراقب الملكة و هي تقرأ الرسالة ، نظرت الى الهدهد بدهشة كيف يمكن لطائر يقطع كل هذه المسافات في مهمة خطيرة ؟!

أرسلت بلقيس وراء وزرائها و قادتها العسكريين ، هناك أمرٌ يتوقف على مصير البلاد !

اجتمع الوزراء و رجال الدولة ، نهضت بلقيس من العرش ، و بيدها رسالة قالت باهتمام :

{ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .

ساد صمت مهيب بهو القصر هناك ملك في فلسطين يهددهم ، يندد بعبادتهم للشمس من دون الله . . يدعوهم الى التسليم لله وحده و عبادة الله وحده .

قالت بلقيس :

ـ { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } .

استشارت بلقيس في اتخاذ الموقف المناسب قالت لهم : انني لن استبدّ في رأيي أنه أمر يتوقف عليه مصير بلادنا . . و لذا علينا أن نفكر في الرّد المناسب .

كان قادة الحيش متحمسين للحرب لذا قالوا بحماس :

نحن أولو قوة و أولو بأس شديد و مع ذلك فإن لك القرار في اتخاذ الموقف . . ان جيشنا قوي و باستطاعتنا أن ندافع عن بلادنا .

كانت الملكة بلقيس امرأة عاقلة . . تفكّر قبل أن تقرّر . لهذا قالت :

ـ { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } علينا أن نعرف من يكون سليمان هل هو ملك كسائر الملوك الظلمة ؟ هل هو نبي حقاً ؟ هل يريد السيطرة على بلادنا ؟ أم يريد لنا الخير ؟

قال أحد الوزراء :

ـ و كيف لنا أن نعرف ذلك يا صاحبة الجلالة ؟

قالت الملكة :

ـ سوف أرسل له هدية ، ثم ننتظر آراء مبعوثينا . . سوف يشاهدون عن قرب المملكة و يتعرّفون على أهداف الملك سليمان .

استحسن رجال الدولة فكرة الملكة و تقرر ارسال هديّة الى سليمان .

 

كان الهدهد يراقب عن كثب اجتماع رجال الدولة و عرف قرار الملكة فطار الى فلسطين .

راح الهدهد يطير و يطير و يقطع المسافات و كان يتوقف فقط للاستراحة قليلاً .

و أخيراً و صل الهدهد و دخل فوراً على سليمان ليطلعه على آخر الانباء .

قال الهدهد : ان وفداً من مملكة سبأ في طريقه الى هنا .

كان سليمان يفكر كيف سيقنع الوفد بدين الله و ان عبادة الشمس لا فائدة من ورائها ؟

أن أفضل طريق لذلك أن يظهر هيبة ملكه و ما منحه الله من السلطان ، فالناس يصلّون لله و الحيوانات المفترسة في خدمته و الطيور تطوف حوله ، و الجنّ يعملون ليل نهار في البناء و في الغوص في اعماق البحار .

عرف سليمان أن الوفد قادم وهو يحمل هدايا ثمينة لإقناع سليمان بالسكوت .

ان مملكة سبأ مستعدة لإقامة علاقات طيّبة ، و أن تقدّم لسليمان الحكيم الهدايا سنوياً ، و ربّما كانت بلقيس تختبر سليمان بالهدية .

لو استلم سليمان الهدية و فرح بها فانه ملك كسائر الملوك ، و عندها يمكن لمملكة سبأ أن تتمرّد على طلبه في ترك عبادة الشمس .

أما إذا رفض استلام الهدية فمعنى هذا أنه ليس ملكاً ربّما يكون نبياً حقاً و اذن فلا خوف من الانبياء لأنهم لا يظلمون أحداً .

كانت هذه فكرة الملكة بلقيس عندما أرسلت الوفد .

التهديد باعلان الحرب :

وصل وفد سبأ كان مجموعة من الفرسان يحملون أثمن الهدايا لسليمان .

نبي الله سليمان و من أجل أن يفهمهم أن ملكه الهي و انه أعظم من ملك سبأ نظم لهم استقبالاً مهيباً .

كاد الوفد أن يصعق و هو يشاهد الأسود واقفة و يشاهد النمور ، و يشاهد الطيور تحلق على مقربة بانتظام ، و يشاهد الجنود المسلمين .

كان سليمان جالساً فوق العرش ، و بالرغم من ابهة المُلك فقد كان متواضعاً تشع من عينيه المحبّة و الايمان .

تقدّم رجال الوفد لتقديم الهدايا ، خجل الرجال من هداياهم لأنها بدت في مقابل ملك سليمان العريض اشياء تافهة جداً .

و هنا حدث شيء لم يتوقعه أحد !

رفض سليمان الهديّة ، لم تكن الهدية من أجل إقامة علاقات طيبة بين المملكتين ، كانت أشبه بالرشوة حتى يسكت سليمان عن طقوسهم الوثنية .

قال سليمان بلهجة فيها غضب :

ـ أتمدونني بمال ؟! فما آتاني الله خير مما آتاكم . . بل أنتم بهديتكم تفرحون .

ثم خاطب سليمان رئيس الوفد :

{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }.

كانت كلمات سليمان تهديداً بالحرب . . انه لا يريد من أهل سبأ ذهباً و لا فضة و لا أي شيء آخر سوى الايمان بالله الواحد .

لأنه ليس ملكاً حتى يفكر بالذهب و المال انه نبي ، و النبي يريد للبشر الخير يريد للناس أن يؤمنوا بالله و يتركوا عبادة الاوثان .

الله خلق الانسان و شرّفه ، فلماذا يعبد الانسان و الحجر و يسجد للصنم ؟! يسجد للشمس و القمر و هو أشرف و اكرم من مخلوقات الله . . الله يريد للانسان أن يحيا حرّاً لا يخاف شيئاً سواه .

هكذا قال سليمان لرجال الوفد . . الذين وقفوا مدهوشين أمام عظمة سليمان و ملكه الكبير و تواضعه و سجوده لله !

قرار الملكة بلقيس :

عاد الوفد الى اليمن و راح يقص على الملكة انباء الرحلة الى أعظم مملكة في الأرض و أعظم ملك في العصر .

فكرت ملكة سبأ بأن الحرب قادمة لا محالة اذا استمرت في موقفها .

ان سليمان ليس ملكاً ربّما يكون نبياً قالت في نفسها :

ـ لأذهب بنفسي الى هناك .

بلقيس الملكة فكرت أن تشاهد ما يجري هناك عن قرب و ربّما أقامت مع المملكة في شمال الأرض روابط حسنة تحول دون وقوع الحرب بين المملكتين .

من أجل هذا أعلنت عزمها على التوجه الى مملكة سليمان .

كثير من رجال الدولة في سبأ حذّروا الملكة من اتخاذ هكذا قرار ، و لكن لا فائدة .

كانت بلقيس ملكة شجاعة و امرأة عاقلة ، فكرت كثيراً في المسألة . . لم تجد أفضل من الذهاب بنفسها الى هناك .

أسرعت الملكة في اتخاذ وسائل الرحلة و اصطحبت معها عدداً من الجنود و الوصائف و غادرت مملكتها .

أمّا الملك الحكيم نبي الله سليمان فقد اجتمع مع رجال دولته كان همّ سليمان كيف يقنع ملكة سبأ بدين الله . . لهذا فكر في شيء يجعلها تعيد التفكير في عقيدتها الخاطئة .

كانت الفكرة عجيبة مذهلة : أن يحضر عرشها من اليمن الى فلسطين قبل أن تأتي بلقيس نفسها !

طاقة الانسان المؤمن :

في اجتماع حاشد ضم المؤمنين و عفاريت الجن و آلاف الطيور و السباع سأل سليمان :

ـ من الذي يمكنه أن يأتي بعرش مملكة سبأ ؟

انها مهمة ليست سهلة تعجز الهداهد عن القيام بها .

نهض عفريت من الجنّ و قال :

 

ـ أنا يا سيدي . . أنا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك . . نعم قبل أن تغادر مجلسك .

أراد سليمان أن يظهر فضل الانسان المؤمن لهذا التفت الى رجل مؤمن اسمه " آصف بن برخيا " قال له :

ـ ما رأيك يا آصف ؟

قال آصف :

ـ انا استطيع أحضاره . .

ـ متى ؟

قبل أن يرتد اليك طرفك . . لحظات و ترى العرش .

و في لحظة تركزت فيها روح الايمان و الإرادة .

الجميع يعرفون آصف بن برخيا يعرفون مدى ايمانه و اخلاصه و حبّه لله و للناس .

الله يكرم عبده المؤمن . . و حدثت المفاجأة ، و رأى الجميع عرش مملكة سبأ أمامهم في بهو الاستقبال الكبير . .

كان عرشاً مهيباً ، الخشب الأسود مطعم بالذهب و الفضة و الجواهر ، و في كل مكان منه يتألق العقيق اليماني و كانت أشعة الشمس التي تسقط من وراء زجاج السقف الملوّن تزيد في جماله .

أمر سليمان باجراء تغييرات في عرش بلقيس ، كان يريد اختبارها ، و كان يريد أن يعرف كيف تتصرف أمام هذه المعجزة ؟!

اللقاء :

أصبحت الملكة بلقيس على مقربة ، سوف تصل الأرض المقدسة بعد ساعات ، هذا ما أعلنته طيور الاستطلاع .

كان العمل في بهو الاستقبال قد انتهى فقد زُين القصر و اُضفيت عليه مظاهر العظمة ، و أحيط عرش الملكة بزينة مهيبة .

كان عرش سليمان قريباً من عرش الملكة و دخلت بلقيس القصر الملكي ، كان روعة في الجمال و الضخامة .

دخلت البهو و رأت سليمان على عرشه في مجلس مهيب ضم الأسود و الطيور و الجنود قال أحدهم للملكة و هو يشير الى عرشها :

ـ أهكذا عرشك ؟

عندما وقعت عيناها على العرش كادت تصرخ أنه عرشها و لكن كيف لها أن تعلن ذلك ؟! فكرت قبل أن تجيب قالت :

ـ كأنه هو . . ان له شبهاً كبيراً بعرشي . . حتى يبدو أنه هو !!

أدركت بلقيس أنها تقف أمام آية عظيمة تدلّ على نبوّة سليمان ، و لكنّها لم تقل شيئاً .

امتلأ قلبها بالإيمان و التسليم لله ، رأت سليمان انه لا يشبه الملوك . . في خلقه . . في تواضعه في نظراته و حركاته . . في صلاته . .

عندما يتحدث سليمان يشعر المرء ان في كلماته دفء و محبّة و سلام !

الحوض الزجاجي :

عندما انتهت مراسم الاستقبال قال المرافقون للملكة بلقيس ان عليها أن تتجه الى قصرها الذي بناه سليمان خصيصاً لاقامتها .

اتجهت الملكة يحفها جنودها الى القصر وقف الحراس عند الأبواب ، و دخلت بلقيس الى البهو الكبير .

كانت فتيات مؤمنات يصحبنها و لكنّ يسرن خلفها احتراماً .

لم تكد تضع قدمها في البهو حتى رأت حوضاً واسعاً بين حجرتها و باب البهو كان يموج بالمياه كما تصوّرت .

لهذا جمعت ثيابها حتى لا تبتل و وضعت قدمها في الحوض على مهل !

وهنا ابتسمت فتاة و قالت :

ـ انه صرح ممرّد من قوارير !

رأت بلقيس آية آخرى على عظمة ملك سليمان الانعكاسات الضوئية و شفافية الزجاج توحي للمرء انه حوض يموج بالمياه .

قالت :

ـ ان الانسان لا يستطيع أن يصنع مثل هذا !!

ـ أجابت الفتاة :

ـ أجل انه من عمل الجن .

تمتمت بلقيس :

ـ حقاً انه من عمل الجن .

كان قلبها يزداد إيماناً بالله . . منذ سنوات و هي تفكر بدينها أنها في قرارة نفسها لا تصدّق أن تكون الشمس الهاً !

الاله الحق لا يغيب . . انه دائم الحضور ، و لكنها لا تستطيع أن تعلن ذلك ان أهل المملكة جميعاً يسجدون للشمس ، و لو قالت ان الشمس ليست ربّاً لما ظلّت ملكة لحظة واحدة .

امّا الآن فقد رأت الحقيقة . . رأت بقلبها الله سبحانه . . رأت حبّه للناس . . رأت كيف سخّر الله كل شيء للانسان ، ليس من اللائق أن يسجد الانسان لأي شيء إلاّ لله . .

ها هو الانسان المؤمن يحكم الوجود ! ها هو سليمان يأمر الرياح فتعصف بأمره ، الجنّ و الطيور ، و الحيوانات في خدمته . . و سليمان يسجد لله شاكراً متواضعاً .

و أعلنت بلقيس بصوت خاشع و هي تنظر الى السماء :

ـ ربّ إنّي ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين .

و لأول مرّة سجدت الملكة بلقيس لله ، و سجد جميع جنودها . .

و سجد سليمان لله شاكراً . . لقد وُفّق في ادخال الايمان الى القلوب الحائرة .

النهاية :

كان الجنّ يخشون سطوة سليمان انه الوحيد الذي جعلهم يعملون في خدمة مملكة الايمان .

سنوات طويلة وهم يعملون يصنعون المحاريب و التماثيل و يغوصون في البحار . . يستخرجون اللؤلؤ و المرجان .

كان يظنون انهم أقوى من الانسان ، و لكن عندما حدثت مسابقة العرش ، فاز الانسان المؤمن استطاع احضار العرش من اليمن الى فلسطين في لحظة واحدة .

 

و مع ذلك فقد ظلّوا يشعرون انهم أفضل بكثير من مخلوقات الله ، انهم يعرفون أشياء كثيرة لا يعرفها غيرهم .

الله سبحنه أراد أن يعلّمهم انهم لا يعرفون شيئاً إلاّ إذا الهمهم الله سبحانه .

الأرضة :

كان سليمان في قصر متكئاً على عصاه ، و كان الجنّ يعملون و يعملون ، عندما كانوا يرون سليمان فان مهابته تملأ نفوسهم فيعملون بخضوع تام .

كان سليمان قد أتم صلاته لله و غادر محرابه ليراقب عمل الجن .

اتكأ الى عصاه و راح ينظر . . و الجن كانوا يعملون ، و شاء الله سبحانه أن يقبض روح سليمان . . لترحل روحه الى السماء .  . الى الله .

و ظل جسد سليمان على حاله . . أياماً و أياماً . .

الجنّ يدخلون يرون سليمان . . و ينطلقون الى أعمالهم المختلفة .

لم يكتشف أحد الحقيقة . . الجميع ينظرون الى سليمان فيرونه واقفاً .

و شاء الله أن يفهم عباده من الجن و الانس انهم لا يعلمون الغيب .

كانت " الأرضة " تدبّ فوق البلاط المرمري . . لا يشعر بها أحد .

الله سبحانه أراد أن يكشف الحقيقة على يد أضأل مخلوقاته .

تقدمت الأرضة بدبيبها الى عصا سليمان . . شعرت انه خشب فراحت تقرض و تقرض و تقرض .

سليمان ما يزال متكئاً على عصاه . . الأرضة منهمكة في عملها . . الجن ايضاً منهمكون في أعمالهم .

و بعد أسابيع طويلة ، و كانت الأرضة قد فتت جزءً من العصا . حدثت مفاجأة كبرى .

خرّ سليمان فوق الأرض سقط على البلاط المرمري و أدرك الجميع ان سليمان قد مات . . مات منذ مدّة طويلة .

 

و أدرك الجنّ انهم لا يعلمون الغيب لقد ظلّوا يعملون مدّة طويلة لانهم لم يعرفوا موت سليمان . .

لولا تلك الأرضة لظلّوا يعملون و يعملون .

المؤمنون حزنوا لموته ، امّا الجنّ فقد فرحوا . . لقد تحرّروا من العمل في خدمة الانسان .

و هكذا انتهت مملكة سليمان . . مملكة عجيبة . . حضارة مدهشة أسهم الانسان و الجن و الحيوان في تشييدها .

فسلام على سليمان النبي . . الحكيم . . الشكور . . ملك مملكة الايمان .

 

 

 

 

القرآن الكريم - سيرة أهل البيت ع - المجالس - اللطميات - فيديو - فلاشات - ثيمات - ويفات

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها